د. أبو خولة (*)
زادت وتيرة الجرائم الإرهابية البشعة التي تحصد يوميا أرواح الأبرياء في مشارق الأرض
و مغاربها. و هذا على الرغم من أن استهداف المدنيين اصبح اليوم بالاساس حكر على الحركات الجهادية السلفية الضالة عندنا، والتي لم يبقى لها مثيل عند كافة الشعوب و الثقافات الأخرى. ازدهار الإرهاب في مسقط رأسه -العالمين العربي و الإسلامي- هو في واقع الامر نتيجة حتمية للدعم الذي يلقاه في المساجد التي تحولت إلى منتديات تحريض
و تسييس و تجييش للمجتمع. و مما زاد الطين بلة العمل التخريبي للمؤسسات التعليمية التي حادت عن مهمتها الأساسية لتطوير ملكة التفكير و النقد و التسامح و الانفتاح على الآخر، لتصبح هي الأخرى ملاذا آمنا لنشر الفكر التحريضي المتخلف. و هذا واضح مما يجري داخل ما يسمى بالمدارس الدينية التي زرع منها عبد الناصر 6 آلاف في مصر -ليبلغ الرقم بفعل فاعل الـ7 آلاف في الوقت الحاضر-، و هي النبتة الخبيثة التي تم غرسها في ما بعد في عديد الدول الأخرى و تحت مسميات مختلفة، اشهرها المدارس الباكستانية التي أنتجت الطالبان و شعب التربية الإسلامية في الجزائر برعاية الأزهريين الذين أرسلهم عبد الناصر إلى هناك، بعيد حصول الدولة الجزائرية على الاستقلال، و التي أخرجت بدورها جيل الدراويش الإرهابيين القتلة الذين ذبحوا من بني جلدتهم مائتي ألف و يزيد، خلال العشرية الأخيرة، تطبيقا لتعاليم التكفير التي تلقوها على أيدي مدرسيهم الازهريين المصريين.
و في هذا الإطار، يلعب الإعلام الغوغائي دورا محوريا في الترويج للثقافة الإرهابية للامة، حيث استحوذ فقه الظلام بفضل تمويله البترو-دولاري على ما يسمى مجازا بالقنوات التلفزية المستقلة، و اشهرها ظلامية الجزيرة, بوق الدعاية بلا منازع لتعاليم التخلف و دونية المرأة و الإجرام باسم الجهاد.
و كان كل هذا لا يكفي، فتقوم الحكومات العربية بسد كل الطرق أمام قوى التنوير و التقدم، مانعة المنتديات و الأحزاب و الجمعيات، مما فتح الباب على مصراعيه لرواج قيم التعصب و الكراهية و الضلال.
و كانت المحصلة النهائية لكل ما سبق هذا الإرهاب السلفي الأسود الذي عصف و يعصف بدول كثيرة في عالمنا العربي الإسلامي التعيس من الجزائر إلى السودان، إلى ارض الكنانة مصر، إلى باكستان و بنغلادش و إندونيسيا.
يمثل توسع مؤسسة فقه الإرهاب السلفي العربية-الإسلامية على الخارج تطورا طبيعيا، تماما كما هو الحال لأية مؤسسة إنتاجية في مجال السلع و الخدمات العابرة للقارات. و قد استغلت في هذا احسن استغلال ما يتوفر في الديمقراطيات الغربية من ظروف الحرية و حقوق الإنسان و احترام الآخر و دولة القانون، التي تصل إلى حد السذاجة الإجرامية عند التطبيق العملي لما يسمى بمصطلح "النسبية الثقافية" التي على أساسها يسمح للمقيمين و المواطنين ذوي الأصول الشرقية في العالم المتمدن باقتراف بربريات يعاقب عليها القانون المدني لهذه الدول، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر قانون حل النزاعات (Arbitration Act) الصادر في مدينة اونطاريو في كندا في العام 1992 ، و الذي يطبق تشريعات منافية لحقوق المرأة، لكن حصرا على المرأة الإسلامية المقيمة في هذا البلد دون سواها.
في هذا العالم الذي يرتع فيه الإرهاب السلفي الأسود بلا منازع -في مسقط رأسه كما في الديمقراطيات الغربية-، جاءت تفجيرات لندن الأخيرة لتضع حدا للسذاجة الإجرامية آنفة الذكر، و التي حولت عاصمة الضباب إلى عاصمة الإرهاب الأوروبية بدون منازع. لعل أهم مؤشر بهذا الخصوص ما أعلنه رئيس الوزراء البريطاني عن تغيير قواعد اللعبة و ذلك بــ: (1) تجريم الدعوة إلى الإرهاب و تمجيده في كل مكان في العالم -لا داخل المملكة المتحدة فقط-، (2) غلق مراكز العبادة التي تحولت بفعل فاعل إلى أماكن للتخطيط للإرهاب، (3) طرد الأجانب الذين يروجون للكراهية و استعمال العنف, و (4) سحب الجنسية البريطانية من المواطنين المتهمين بالانتساب إلى منظمات إرهابية.
تلت ذلك الاجرات العملية التي أعلن عنها وزير الداخلية البريطاني السيد شارل كلارك بتاريخ 24 أغسطس 2005، بسرده لقائمة "التصرفات غير المقبولة" مع التأكيد على التزامه الشخصي لاستعمال سلطته لطرد أي أجنبي يقوم بأية أعمال من ضمن القامة المعلنة.
جاء الرد الفوري على الإعلان من بعض الأوساط التي وهبت نفسها لتبرير الإرهاب، و على رأسها مجلس المسلمين في بريطانيا الذي تحوم حوله الشكوك بإدارته العديد من المراكز التي تمثل مجرد واجهة لتجنيد الجهاديين، و من طرف رئيس بلدية لندن -كين ليفنغستون- الذي اشتهر بلقاءاته مع الشيخ يوسف القرظاوي، صاحب الفتاوى الرائدة التي تبرر ضرب النساء و قتل المدنيين الأمريكيين في العراق. لكن الشعب البريطاني المغفل، الذي طالما ضحك على ذقونه إرهابيو السلف تحت مسميات اللجوء السياسي و حقوق الإنسان و حرية التعبير و التسامح، إلى ما شابه ذلك من الحيل و الأكاذيب و الخدع التي يتقنها هؤلاء القوم، لم يعد ليقبل بمثل هذه التبريرات. و من هنا جاء طرد العديد من رموز الإرهاب من لندن خلال الأسابيع الفارطة، و إعلان صحيفة الصنداي تايمز انتهاء أجهزة الأمن البريطانية من إعداد قائمة جديدة تحمل أسماء 50 ارهابيا لطردهم على وجه السرعة. و تضم القائمة المنشقين السعوديين محمد المسعري و سعد الفقيه و المنشق المصري ياسر السري، بالرغم من إغلاق الأخير لموقعه التحريضي على الإنترنت، الذي اشتهر ببث أشرطة الفيديو التي تعرض لعمليات قطع الرؤوس في العراق، و الذي تم تقريبا بنفس السرعة التي سحب بها راشد الغنوشي اتهامه الكاذب للعفيف الاخضر بتاريخ 6 مايو الماضي بتاليف هذا الاخير لكتاب المجهول في حياة اللرسول، حال نشر العفيف لإعلانه بتاريخ 13 مايو، الذي هدد فيه برفع القضية للقضاء البريطاني.
لكن التصدي الجاد لظاهرة دولية تهدد المجتمع البشري بأكمله تتطلب ردا دوليا حاسما إذا ما أريد أن يكتب لها النجاح. و هنا تكمن أهمية الإعلان الأخير حول المساعي التي تقوم بها الأوساط الديبلوماسية البريطانية بهدف تنظيم لقاء للأعضاء الــ15 لمجلس الأمن لبحث الوسائل الأزمة لتجريم التحريض على الإرهاب، وهو الخبر الذي أكده في نفس اليوم رئيس البعثة الديبلوماسية الأمريكية لدى الأمم المتحدة.
إذا كان المجتمع الدولي جادا هذه المرة في مسعاه لتجريم التحريض، فمرجعيته الأساسية يجب أن تكون نداء الليبراليين العرب لمحاكمة فقهاء الإرهاب الذي تم إرساله مؤخرا إلى السيد كوفي عنان، الأمين العام للأمم المتحدة، بعد توقيعه من الاف المواطنين العرب.
لقد تم إعداد الوثيقة من طرف المفكر الحر العفيف الأخضر (الشيء الذي دفع على ما يبدو بالشيخ راشد الغنوشي إلى تلفيق إعلانه الكاذب انف الذكر، و الذي يعد تحريضا مباشرا لتنفيذ حد الردة عليه، أي الإعدام) و د. شاكر النابلسي و السيد جواد هاشم، وزير التخطيط العراقي السابق.
يدعو النداء الأمم المتحدة إلى إنشاء محكمة دولية لمحاكمة المسؤولين عن إصدار فتاوى تحرض على القتل على اعتبار أنها تغرر بالشباب المسلم و تؤدي به إلى اقتراف الأعمال الإرهابية الإجرامية اعتقادا منه انه يقوم بمجرد واجبه الديني، و أن مصيره مقابل ذلك سيكون الجنة و حور العين.
اعتماد المجتمع الدولي لنداء الليبراليين العرب بإنشاء محكمة دولية لمحاكمة فقهاء الإرهاب له عديد المزايا على أية مبادرة بريطانية-أمريكية يتم طبخها في أروقة الأمم المتحدة-مهما علا شانها-، من أهمها: (1) مصداقية كبرى داخل العالمين العربي و الإسلامي
-الحاضنة الأساسية للإرهاب الذي يعيشه عالم اليوم-، مما سيفوت على قوى التبرير مصداقية ادعائها بان مثل هذا الإجراء يأتي في نطاق " الحملة الغربية على الإسلام،" و (2) تركيز النداء العربي على أحد أهم مصادر الدعوة للإجرام الإرهابي باسم الجهاد -أي مؤسسة الإفتاء- سيزيد من فرص تجفيف منابع هذه النبتة الخبيثة، مما من شانه تخليص المجتمع الإنساني من الدوافع العقائدية التي تدفع بالشباب العربي المسلم -دون غيره في عالم اليوم- للقتل. و نتيجة ذلك, ستجد قوى التحريض -أو ما تبقى منها في الغرب- نفسها معزولة عن محيطها الطبيعي، مما سيؤدي حتما إلى انحسارها و انتهائها مع مرور الزمن، تماما كما حصل مع سابقاتها النازية و الفاشية خلال القرن الماضي، و تماما كما حصل مع عصابات الخوارج الإرهابية في الفترات السابقة من التاريخ الإسلامي.
و في تقديرنا أن مجرد الإعلان عن إنشاء المحكمة الدولية لمحاكمة فقهاء الإرهاب و المحرضين عليه، سيعطي مؤشرا قويا عن إرادة طالما افتقدها المجتمع الدولي لتجفيف منابع الإرهاب، مما سيبعث البلبلة في صفوف هؤلاء القوم ويفتت قواهم، و يدعم في المقابل قوى الحداثة و التقدم داخل المجتمعات العربية الإسلامية، و يؤدي في النهاية بحكومات هذه الدول بالكف عن لعبتها الانتحارية الحالية الداعمة لثقافة فتاوى التحريض على القتل. .
(*) منسق اللجنة الدولية للدفاع عن العفيف الأخضر، و رئيس سابق لفرع منظمة العفو الدولية بتونس (بريد إلكتروني: ([email protected]