إلا أن المتابع لأحوال الحزب في الآونة الأخيرة لا بد أن يلاحظ هلامية بعض المواقف و التصريحات لبعض قيادات الحزب .. فما كدنا نفيق من صدمة زيارة وفد من الحزب للترابي في منزله و مصافحته مهنئين له بخروجه من حبسه المنزلي حتى نتلقى لطمة التصريح الذي جاء على لسان الأستاذ سليمان حامد من أن الحزب سيدخل المجلس الوطني و مجالس الولايات لنظام الإنقاذ بتبرير هو في حد ذاته لطمة موجعة و هو إسماع صوت الجماهير للنظام ..
في وثيقة الأستاذ التيجاني الطيب التي قدم فيها جرداً لحساب الحزب عبر السنين و بشجاعة القادة مارس نقداً ذاتياً شفيفاً لكل أخطاء الحزب في مسيرته وردت فقرة عن دخول الحزب إنتخابات المجلس المركزي في عهد عبود كأحد أبرز أخطاء الحزب و كان المبرر هو العمل من الداخل لإسماع صوت المعارضة للسلطة و لكن الأستاذ التيجاني يقول إن الحزب إكتشف لاحقاً خطل ذلك المبرر حيث أن الديكتاتوريات لا تسمع سوى صدى صوتها .. و لكن الأستاذ سليمان حامد يسوق اليوم نفس المبررات التي انتقدها و أقر بخطئها الأستاذ التيجاني .. مما يدعو للتساؤل عما إذا كان الحزب قد بدأ يفقد حاسة البصر السياسي و بدأ يبتعد عن بوصلته السياسية التي طالما أعانت الحزب على تلمس طريقه كلما اشتد ضباب الرؤية السياسية ..
لا ندري كيف يمكن إسماع صوت الجماهير لسلطة أقامت جداراً عازلاً للصوت و الصورة بينها و بين الجماهير .. و لا ما هو الفرق بين دخول المجلس الوطني و دخول الحكومة .. و لا ما هو الفرق بين مبررات سليمان حامد لدخول مجلس الإنقاذ و بين مبررات الشريف الهندي لدخول حكومة الإنقاذ حيث ذكر أنه دخل الحكومة لأن حفنة من الإتحاديين قد استنجدوا به بعد أن فاض بهم الكيل من ضيق ذات اليد و جفاف الزرع و الضرع .. فوجد أن أنجع السبل للخف لنجدتهم هو دخول حكومة الإنقاذ ..
إننا نعتقد أن الحزب الشيوعي يجب أن ينأى بنفسه عن أي شبهة تعامل مع نظام الإنقاذ ذي السجل الأسود و نعتقد أن الحزب ليس بحاجة إلى دخول مجالس النظام لإسماع صوت الجماهير و لكن بإمكانه إستغلال الواقع الجديد الذي فرضته إتفاقية السلام و الإستفادة من الدستور الجديد و الإنفراجة السياسية المفروضة على النظام لجعل صوت الجماهير مسموعاً .. و نعتقد أن الحزب الشيوعي يمكن أن يصعد من درجات النضال السياسي و الإجتماعي عبر منابره و منابر الجماهير و عبر استغلال نفوذه التاريخي داخل أدوات النضال الجماهيرية كالنقابات العمالية و المهنية و المنظمات الشبابية و الفئوية من واقع إلتحامه اليومي بجموع الكادحين .. فلكم وقفت تلك المنظمات غضّة في حلوق الأنظمة القمعية و لكم فجرت من الإنتفاضات و الثورات و لكم قدمت من الشهداء في ملاحم الكرامة .. هكذا تنتزع الجماهير حقوقها و قد كان الحزب الشيوعي حاضراً في قلب كل تلك المعارك .. حزب بقامة الوطن و كبرياء الشرفاء ..
إن انخراط الحزب في مؤسسات النظام الإنقاذي هو بمثابة الإعتراف بشرعيتها في الحكم و التشريع أما المبررات فإنها العجب العجاب .. و أن يقول سليمان حامد أنهم سيدخلون حاملين كلام و منطق و برامج و ليس سلاح فإن هذا هو خوار العزيمة بعينه و هي المهادنة بذاتها .. فلا الكلام يفيد مع من صم أذنيه و لا المنطق يقنع من لا يؤمن به و لا البرامج يمكن ترجمتها إلى واقع من خلال مؤسسات فاقدة لأبسط مقومات المؤسسية كالشفافية و الديموقراطية .. و بالتالي يصبح من قبيل الهرطقة السياسية القول بدخول هذه المؤسسات بأمل الإصلاح من الداخل .. هذه المقولة التي صارت ممجوجة من كثرة ما اتخذتها أحزاب المصالحات مطية لإقتسام كعكة السلطة مع الأنظمة الديكتاتورية في السودان ..
نتمنى أن يجد الحزب الشيوعي لحظة للوقوف مع النفس و إعادة قراءة الواقع الحالي في السودان .. فهاهي إنقاذ ما بعد السلام تسفر عن وجهها الكالح الحقيقي مرة أخرى بعد أن أزالت عنه قناع الإعتدال الزائف الذي حاولت به خداع الجماهير في الآونة الأخيرة .. و كما عودتنا فإنها لا يؤمن لها جانب و أنها سريعة النهمة تريد الإستحواذ على كل شئ .. و هاهي تستغل الرحيل المفاجئ لدكتور قرنق القائد المحنك و ما أحدثه ذلك من ربكة داخل الحركة الشعبية أضعفت قدرتها على المساومة لتستحوذ على نصف مقاعد الوزارة الجديدة بما فيها وزارتي الطاقة و المالية تاركة الفتات للحركة الشعبية التي أقعدتها الأحزان .. ناهيك عن تهميش القوى السياسية الأخري مما خلق حالة من عدم التوازن السياسي ستلقي حتماً بظلالها على الفترة الإنتقالية و التي انتعشت آمال الجماهير بمقدمها باعتبارها بوادر عهد جديد و مدخل للخروج من الأزمة السياسية المزمنة و إيذاناً بتفكيك دولة الحزب الشمولي و مؤسساتها و الإنطلاق نحو بناء السودان الجديد ..
إن مهام الفترة الإنتقالية لهي أكبر كثيراً من مجرد إسماع صوت الجماهير لسلطة الإنقاذ .. فالتحدى هنا هو كيف نستطيع أن نستغل هذه السنوات لترسيخ واقع سياسي و اجتماعي يدعم مشروع الوحدة .. و يلبي حاجات عموم أهل السودان بجنوبه و شماله .. و كيف نستثمر الظروف الجديدة لإعادة بناء جسور الثقة المهدومة و رتق النسيج الإجتماعي بين الجنوب و الشمال و إرساء قيم ثقافية و إجتماعية جديدة تشجع الجنوبيين على الوقوف مع خيار الوحدة ضد الإنفصال .. هذا هو التحدي الماثل أمامنا .. و هو تحدي يستدعي أن نشحذ كل أدوات النضال الجماهيري من أجل مجابهته .. و تلك أدوات طالما أجاد الحزب الشيوعي إستخدامها .. و معارك طالما بزّ في ساحاتها طلائعاً و قيادات .. فالأدوات هي منظمات الجماهير عمالاً و مزارعين و طلاباً و مهنيين و مثقفين و شباباً و نساء .. و الساحات هي مواقع هذه الجماهير أينما كانت داخل نقاباتها و إتحاداتها العمالية و المهنية و أحزابها السياسية و مدارسها و جامعاتها و منابرها الإعلامية و السياسية .. فهل يرتفع الحزب الشيوعي إلى مستوى هذا الظرف التاريخي الدقيق في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ شعبنا .. نتمنى ذلك من الأعماق لأن التاريخ سوف لن يرحم ..
الوليد مبارك إبراهيم
نيويورك - بروكلين