تحليلات اخبارية من السودان
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

اليتم بعد قرنق لا ينبغي أن يسد علينا الأفق ... بقلم د.جعفر عبد المطلب أحمد

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
9/3/2005 8:43 م


سعيت لاهثاً من أجل مقابلة د. منصور خالد خلال زيارته الأخيرة إلى مدينة أبو ظبي و لكني لم أفلح إذ غادرها سريعاً قبل أن أدركه ... ثم ظللت ابحث عن الصديق الهادي الرشيد عسى أن يساعدني في الوصول إلى د. منصور أو د. قرنق هاتفياً .. كان لدي حرصاً بالغاً في التحدث إليهما حول الأهمية القصوى لإشراك ممثلي التجمع في لجنة الدستور لاسيما والدستور سوف يقنن و يضبط حياتنا كلها خلال المرحلة الانتقالية و هي فترة ليست بالقصيرة .... فضلاً عن أنه سوف يحسم كافة المسائل المصيرية وبدون إشراك الأطراف كافة في صياغة الدستور سيظل الدستور قاصراً و لا يعبر عن الإرادة الجمعية لأهل السودان و هكذا تكون المرحلة الانتقالية كأنما هي إنقاذ ممتد ستة سنوات أخريات .
اتسعت دائرة اللغط حول الدستور و ارتفعت الأصوات بالخلاف و نأت أطراف أخرى بنفسها عن المشاركة .. فإذا بالأستاذ ياسر عرمان يصرح بعبارة غير موفقة إذا ما جاء بالصحف هو بالفعل ما قاله الأستاذ ياسر لقد قال : " الذي لا يعترف بالدستور لا يحق له أن يمارس السياسة خلال المرحلة الانتقالية " إذا كان هذا ما قاله ياسر فعلياً فإنه قول جانبه الصواب و فيه قدر كبير من الاستخفاف بأهل السودان .. لأن ياسر يعلم تماماً ما من قوة تستطيع بعد هذه التطورات أن تحجر على الآخرين حقاً أو تمارس رذيلة إقصاء الأخر و التي من أجلها رفع ياسر بندقيته لأكثر من 20 عاماً !!

فجأة يهبط القائد العظيم قرنق أرض الكنانة و يتخذ قراره الأحادي دون الرجوع إلى الخرطوم حول ضرورة إشراك ممثلي التجمع في لجنة الدستور و قد أبلى الأستاذ علي محمود حسنين و رفاقه بلاءً حسناً بإعتراف ممثلي المؤتمر الوطني و الحركة معاً و تعدلت بعض المواد و أضيف ما أضيف و حذف ما حذف هكذا يصبح الدستور حارساً لحقوق الإنسان و ضامناً للتداول السلمي للسلطة و قائماً على المواطنة و مكرساً لسلطة مقسمة بين المركز و الأطراف بالتساوي و ثروة موزعة توزيعاً عادلاً حول جهات السودان الأربعة مؤكداً على شفافية تسّورها قوانين صارمة تحمي المال العام و ترد المظالم إلى أهلها .

هكذا تمت إجازة الدستور و تلاحقت الأحداث و رُفعت حالة الطوارئ و جفت صحف الرقابة و رُفعت أقلامها و عادت الندوات السياسية بعد طول غياب .. يدشنها الأستاذ نقد في الخرطوم جنوب بخطاب سياسي اتسم بالرصانة و عمق التجربة و عادت مظاهر سودان ما قبل الانقاذ تشكل ملمحاً واضحاً في العاصمة و تنفس الناس الصعداء و توارى المشروع الحضاري يطوي لافتاته نحو أفق المغيب ..يرحل المشروع الحضاري غير مأسوف عليه ... و يحل محله مشروع حضاري من نوع آخر مشروع حضاري تعلو فيه هامة المواطنة على العرق و الدين و الجغرافيا .. لن يكون المركز مركزاً للسلطة و الثروة كما كان خلال 50 عاماً من عمر الوطن و لأنه كذلك فإن السياسيين ظلوا يتصارعون حوله بحثاً عن سقط المتاع من الحقائب الوزارية ! لم يلتفتوا إلى الجغرافية السودانية الممتدة من خلفهم و لا إلى أولئك المهمشيين في الأطراف و لم يعملوا فكرهم و لو مرة من أجل تنمية مستدامة و سلطة قابلة للقسيم و ثروة يمكن توزيعها بعدل و مساواة و لم تندرج الهوية ضمن برامجهم هكذا ظلوا يحرثون في البحر نصف قرن من الزمان يركبون ساقية جحا و هي تدور بهم إلى أن يأتيهم الباطل من خلفهم و من بين أيديهم في انقلابات تقلب عليهم و علينا الساقية و تغّيب إرادة الراكبين عليها و إرادتنا معاً!!

ثم يجيء قرنق لأول مرة لا يمارس رذيلة الحرث في البحر ، لأول مرة يعلمنا فضيلة حراثة الأرض .. يعلمنا زراعة السلام يعلمنا ماذا تعني الهوية و يرفع قامة المواطنة يتجاوز بها سقف الجغرافيا و العرق و الدين إنه نموذج جديد من التفكير .. طراز جديد من السياسيين .. حضور يأسر الألباب لأول مرة يأتي إلينا رجل من رحم هذه الأمة لم يخرج من القبة أو الضريح و كلاهما محل التبجيل و التقديس عندنا و لم يخرج من تحت عباءة الطرق الصوفية و الصوفية تملأ وجدان أهل السودان محبة و عشقاً ... لم يولد و في فمه ملعقة من ذهب ... أنه ابن إمرأة كانت تأكل " العصيدة " كان في طفولته حافياً عارياً على حد قوله لمحاوره في التلفزيون السوداني "عندما أنظر اليوم إلى أطفال رمبيك الحفاة العراة أتذكر طفولتي عندما كنت حافياً عارياً مثلهم "

في خضم هذه التحولات الكبيرة تملكتني موجة من الحماس الطاغي فقلت لزوجتي " الآن يمكننا العودة إلى الوطن الذي فارقناه منذ سنوات " ها هو ليل الظلم و الإقصاء و القمع يتوارى نحو المغيب وها هي إرادة أهل السودان الغائبة تعود كالفجر بعد الليل مهما طال .. لم تبد زوجتي حماساً مثل حماسي و قالت " دعنا ننتظر ريثما ينزل اتفاق السلام إلى الواقع ثم نرى ... " قلت لها سأبني منزلاً صغيراً و متواضعاً على إحدى رُبا جوبا أو فوق تل من تلال مريدي بعيداً عن ما يسمى بالعاصمة مجازاً و هي ليست بعاصمة و لا يحزنون ترهات و تشوهات و تلوث و تسيب و فوضى في الحركة وركشات و عمارة تلوث النظر و أناس بعضهم يمارس رذيلة الكذب و استعراض ما لديهم من سقط المتاع و هو مال مسروق من الشعب و بطون تتقدمهم يملأها المال الحرام و ألقاب و شهادات للدكتوراة يحصلون عليها في 6 أشهر تزين معاصم أسمائهم حتى بلغ عدد الحاصلين على هذه الشهادة خلال فترة الإنقاذ أكثر من عدد حملة الموبايل !! كيف نستطيع التواصل مع بشر من هذا النوع ؟
ماذا نريد من عاصمة يسكنها مثل هؤلاء البشر !! هل ستعود إلينا خرطوم الستينات و السبعينات هيهات ؟ أفضل جوبا الخضراء حيث أقضى ما تبقى من العمر أن كان في العمر بقية !! أقرأ ما لم أقراه من كتب بعد و استمع إلى مدائح أولاد حاج الماحي و أغاني الحقيبة المعتقة و طمبور النعام آدم

و أقسّم ما تبقى من الليل في الاستمتاع إلى صوت المقرئ الشيخ الفاتح محمد عثمان الزيير يتلو سورة البقرة و بين خرير الموسيقى الكلاسيكية ينسكب من الحائط في ركن قصي ينساب رقاقاً لا يقطعه إلا آذان الفجر ... هذا أقصى ما يتمناه الإنسان بعد سنوات الغربة الشتات بين كل من باريس و تورنتو و أبو ظبي و عقدين من الزمان أنفقت في عمل مرهق تارة في شركات النفط و تارة في شركات الطاقة...

اتصل بي صديق يخبرني عن عزاء في النادي السوداني و هممت بالذهاب لتقديم واجب العزاء ما إن وصلت المصعد حتى أدركتني زوجتي صائحة منزعجة " تعال ال BBC. قالت طائرة قرنق مفقودة " يا إلهي ألم يكن قرنق في القصر ! متى سافر قرنق حتى تضيع طائرته ؟ و تضيع معها الأحلام و الآمال !
ثم تلاحقت الأحداث المأساوية تباعاً مات الحلم و أنطفأ الأمل و فعلت بنا الصدمة ما فعلت يا إلهي كيف مضى كالوميض ! كان يملأ القصر حياة و اجتماعات و قرارات كان يسابق الزمن ... ما أصعب صدمة الرحيل المفاجئ الحزن على رحيله المباغت كان حزناً نبيلاً نبل الراحل و عميقاً عمقه و صادقاً صدقه .
كان حزن الفقراء و المساكين و المهمشين من الأغلبية الصامتة و بنفس القدر كان خزناً للمثقفين و الشرفاء الذين استوعب مشروعه الخلاق آمالهم و ترجم تطلعاتهم إلى واقع للمرة الأولى .


إن اليتم بعد قرنق لا ينبغي أن يسد علينا الأفق مسوؤلية تنزيل اتفاق السلام إلى أرض الواقع مسؤولية جمعية و تضامنية حتى الذين لديهم تحفظ على هذا الاتفاق ينبغي تأييده و الوقوف خلفه لاسيما بعد رحيل قرنق .

علينا جميعاً تقع مسؤولية المضي قدماً بإتفاق السلام نحو غاياته المرجوة . إن مشاعر الحزن على قرنق التي غمرت جغرافية السودان كلها كانت استفتاء لصالح الوحدة الطوعية نحن في الشمال أحرص من الأخوة في الجنوب على نجاح اتفاق السلام لآن نجاح اتفاق السلام يعني أن ترتفع هامة المواطنة على عداها و أن يتساوى المركز بالأطراف و أن تتوزع الثروة بالعدل بين جهات السودان الأربعة .
أي إخفاق في تطبيق هذا الاتفاق يعني أن جزءً عزيزاً من الوطن سوف يمضي في سبيله و الجزء الآخر سيعاد احتلاله بواسطة دعاه الانفصال من أنصار الدولة الدينية و سوف يأتينا أمير ثان للمؤمنين بعد نميري و لكن هذا أمر دونه خرط القتاد .....



للمزيد من االمقالات

للمزيد من هذه الاخبار للمزيد من هذه البيانات و المنشورات
الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر العام| دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر العام للنصف الاول من عام 2005

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |English Forum| مكتبة الاستاذ محمود محمد طه | مكتبة الراحل المقيم الاستاذ الخاتم عدلان | مواقع سودانية| اخر الاخبار| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2004
SudaneseOnline.Com All rights reserved