من المعلوم أن الفعاليات السياسية و تنظيمات المجتمع المدني قد اتفقت بشأن إتفاق توزيع الثروة والسلطة في السودان , و لكن أتسم ذلك التأييد شبه التام من قبل تلك التنظيمات و القوى السياسية في الشمال على ما توصل إليه الأطراف الرئيسية في الصراع السوداني بتوجس خوفاً من المستقبل بالرغم من منافع الإتفاق الذي مهد الطريق للتحول الديمقراطي و وداع الحرب الطاحنة التى أكلت اليابس والأخضر .
الإ أن بعض الفئات قد أبدت تحفظات أرجعتها إلى بعض الأسباب الحزبية والتكتيكية , و سنقوم هنا بسرد بعض الحقائق التى تتطلب وقفة متفحصة حتى يستفيد القارئ من الثراء الفكري بالرغم من الاختلافات الفكرية و المنهجية . إن الجو الديمقراطي الذي يتمتع به السودان هذا الأيام كنتاج لاتفاقية نيفاشا قد جعل الكثيرين يطرحون على بساط البحث قضايا ساخنة بوضوح ، بل وصل الأمر إلى نقد الاتفاق صراحة كما بدا جلياً في الندوات سياسية أو المقالات التي تم نشرها في الصحف المحلية و حتى في الصحافة الإلكترونية .
أولاً : توزيع الثروة
نص الأتفاق على أن نصيب حكومة الجنوب من الثروة النفطيـة 50% من النفط المستخرج في جنوب السودان و النصف الآخـر من الجباية المفروضة على مواطني جنوب السودان , مما أخرج الجنـوب خالي الوفض من الموارد الموجودة في الشمـال على الأقل أثناء الفترة الإنتقالية , كما أن الإتفاق قد نصت على أن يستأثر الشمال بنصف عائدات النفط المستخرج من الجنوب إضافة إلى كامل إيرادات النفط المستخرج في الشمال , علاوة على النصف الأخر من الجباية المتحصلة من الجنوب و كافة الإيرادات و الدخول الأخرى في الشمال .
بما أنني من أبناء تلك البقعة من أرض الوطن , فإنني أرى أن الأتفاق منصف للأطراف , و ذلك على الرغم من ظهور بعض الأصوات الشاذة في الآونة الأخيرة من بعض المواطنين الشمالين و الجنوبين ذوي التحليلات و النظرات المختلفة ، و الذين توصل بعضهم في تحليلاته إلى أن الأتفاق غير منصف إستناداً لحجج يتخندق من ورائها ليلقي بسهامه . ولكن إذا نظرنا من منظور عقلاني بعيد عن العواطف فيبدو من المنطقي بل و البراغماتي أن يخرج الاتفاق بهذه الصيغة نظراً لعدة عوامل منها تلك المتعلقة بالحرب و بناء الثقة المفقودة و طبيعة النزاع نفسه الذي أصبح الحصول على الموارد يشكل جزء ذو أهمية قصوى في تركيبه . و على سبيل المثال فإن جنوب السودان لم يحظ بنصيب وافر من المخصصات للتنمية منذ أن أصبح جزء من الدولة السودانية بتركيبتها الحالية أي بعد مؤتمر جوبا عام 1947 , لذلك ُخصصت للجنوب هذه النسبة من الثروة حتى تمكنه من إجتياز محنة الحرب التي قضت على ذلك القليل من البنية التحتية التي تركها المستعمر من الطرق غير المرصوفة و المدارس و المستشفيات التي تعرضت للإهمال لعدة أسباب بعضها متعلق بالحرب و الأخرى لسوء الإدارة والفساد .
أما الجنوبيون الذين يشكون بأن الإتفاق قد منح الشمال حصة تفوق بكثير ما حصل عليه الجنوب من الثروات ، و أن الجنوب لم يستفد من الثروات المتواجدة في الشمال كما جاء في الإتفاق . فإننا إذا أمعنّا النظر في الاتفاق يتبين لنا وجود عدة حقائق موضوعية منها على سبيل المثال أن للحكومة الاتحادية إستحقاقات على المستوى القومي الشيء الذي جعل نسبة من الثروة تذهب للخزينة العامة ، و ذلك حتى يتمكن المركز من مزاولة واجباته القومية مثل الصرف على الدفاع و البعثات الدبلوماسية و المشروعات القومية من المطارات و خطوط سكك الحديد و النقل النهري و الطيران و الطرق و الجسور و الإتصالات إلخ .. كما أن للحكومة المركزية مهام أخر تتلخص في إنشاء صندوق قومي لتعمير المناطق التى تضررت من الحرب في كل من جبال النوبة و النيل الأزرق و الشرق و دارفور ، ذلك بالطبع إلى جانب رفع الظلم عن كاهل المهمشين من الطبقات الدنيا في جميع أرجاء البلاد .
المزايا التى توفرت لأهل الجنوب من قسمة الثروة
أولاً: تخلص الجنوب من هيمنة المركز التي كان تتغول على كل صغير و كبير في شئون الجنوب , بل تفاقم الحال في بعض السنوات العجاف إلى حد أن حكومات الجنوب أصبحت ُتدار دون مخصصات للتنمية ما عدا بند الرواتب ، أما القليل المخصص للتنمية فيذهب للمليشيات لحماية النظام .. بل يذهب الى الجنوب و يعود في اليوم التالي الى الخرطوم في شكل رشاوي لحكام الخرطوم من قبل حكام الجنوب غير المنتخبين ، حتى أصبح الركض المحموم و التنافس في من يدفع أكثر للمحافظة على كرسيه ظاهرة شائعة و معروفة .. بينما المواطن المغلوب على أمره يعاني الأمرّين و يتم حرمانه من أبسط مقومات الحياة .. و تنامت بذلك هوة شاسعة بين طبقة الفقراء التي تمثل الأغلبية الساحقة و تلك الطبقة المنعمة من الطفيليين الانتهازيين .. نقول أن هذا الوضع المقلوب أدى إلى نشوب حالة من التوتر الاجتماعي ، بل وصل الحال في كثير من الأحيان إلى قيام حكام الخرطوم و أبواقهم في الجنوب باستخدام المادة وسيلة ضغط لتركيع المناضلين الشرفاء.
ثانياً: استخدمت الحكومات الوطنية المتعاقبة على حكم البلاد منذ الاستقلال المال لإفساد بعض الساسة الجنوبين من ضعاف النفوس , مما جعل هؤلاء الساسة مصدر سخرية من قبل المثقفين من أبناء الجنوب ، بل جعل غالبية أولئك المثقفين ينظرون إلى مفهوم الوحدة بشكل عدائي ، و ذهب بعضهم إلى اتهام حكام الخرطوم بأن هدفهم الأوحد ليس وحدة السودان بل تدمير الجنوب اقتصادياً وثقافياً وإجتماعياً .
من البديهي أن هذا الوضع الشاذ لا يشكل لبنة يمكن التأسيس عليه للوحدة . ما تزال ذكريات المناورة التي نفذتها بعض الساسة الشماليين لإفساد بعض الزعماء الجنوبيين بالمال و التأثير على خياراتهم الاستراتيجية أبان مؤتمر جوبا عام 1947 ذات طعم مرير و آثارها ماثلة للعيان .
إن استغلال جشع بعض الطبقات المتنفذة من الجنوبيين تارة .. أو إغراء بعض الزعامات التقليدية المحلية بالمناصب و المادة تارة أخرى يعد جريمة تنتهك حق المواطن الجنوبي البسيط في تلك الموارد التي كان بالوسع إنفاقها في مشاريع تعود بالنفع و تحقق المصلحة العامة .
من ناحية أخرى فإن سوء استخدام الموارد المالية المتاحة قد أدى إلى الإخلال بمسيرة التغيير ، بل ساهم بشكل جذري في تعميق هوة التهميش الاقتصادي ، مما أدى بدوره إلى تفاقم التهميش الاجتماعي و تزايد روح العصيان التي تمثلت في المجموعات المسلحة التي أنهك الصراع معها كاهل الوطن طويلاً و أزهق أرواح الكثير من الأبرياء في تلك الأقصاء من بلادنا .
ثالثاً: منح الجنوب حكم ذاتي أقليمي (صوري) كما ورد في إتفاقية أديس أبابا عام 1972 دون إعطاء مخصصات للبناء والتنمية بل في أحيان كثيرة لجأت الزمرة الحاكمة في الخرطوم إلى تأجيج النزاعات القبلية و إشعال شرارة الحساسيات الجهوية مستخدمة مخصصات حكومة الجنوب لشراء الذمم , بينما دأب السادة المتشبثين بدست الحكم في الخرطوم يتلاعبون بالساسة الجنوبيين و يحركونهم كيفما شاءوا .
لهذا الأسباب مجتمعة اجتمع شمل الوطنيون الشرفاء في نيفاشا و أعلنوها مدوية لا للطاغوت و لا للاستغلال ، بل أجبروا الطاغوت على إعادة ترسيم العلاقة بين المركز و الأقاليم من منظور جديد يتميز بالعقلانية و حسن التقدير للظروف السائدة في كل إقليم بعينه ، و بعيداً عن ثنائية السيد و العبد التي كانت تتسم بها علاقة المركز و الأقاليم في السابق .
ماذا كسب الجنوبيون من التوزيع العادل للسلطة حسب اتفاق نيفاشا
أولاً: لأول مرة منذ إستقلال السودان يتم تنصيب جنوبي نائباً أول لرئيس الحمهورية و بصلاحيات واسعة بل له الحق في صنع القرار على المستوى القومي , و ذلك خلافاً للمتعارف عليه منذ الاستقلال بأن منصب نائب الرئيس كان لغرض الديكور الرسمي و يقتصر دوره على أداء بعض مهام التشريفات مثل استقبال بعض كبار ضيوف الدولة .
ثانياً: لأول مرة يتمتع الجنوب بحكم حقيقي شبه كنفدرالي يرفع وصايا المركز عن أهل الجنوب في الأمور المتعلقة بالشؤون المحلية البحتة التي لا تتطلب تدخلاً مباشراً من المركز . هناك أيضاً مسألة في غاية الأهمية جاء تأطيرها على النحو المطلوب في اتفاق نيفاشا و هي التأسيس الثابت للإطار الدستوري القمين بتحقيق علاقات متينة بين الشمال والجنوب شريطة المحافظة عليه و تطبيقه بتجرد و موضوعيه .
إن التقّيد بل الاحترام لبنود الاتفاق سيكون نبراساً لترسو سفن بلادنا الحائرة في مرافئ دولة المواطنة الآمنة .. دولة عصرية تعترف و تحترم التعددية الدينية و العرقية و الاثنية و تحافظ على حقوق الأقاليم و المركز على حد سواء بعد تأطيرها في اتفاقيات عقلانية و نهائية .
ثالثاً: مشاركة أهل الجنوب في الحكومة المركزية بشكل حقيقي و ليس صورية كما كان يحلو دائماً لحكام الخرطوم , إذ كان نصيب الجنوب دائماً هو تخصيص بعض الوزارات التي ندعوها تجاوزاً هامشية ، حتى أصبح لا يكاد ُتذكر أسماء بعض الوزارات الإ و يتبادر إلى الأذهان صورة كاريكاتورية لدى الناس حين يربطون بين تلك الوزارة الثانوية في نظر الكثيرين و بين اعتلاء وزير من أبناء الجنوب أو النوبة أو أي من مناطق الهامش لسدتها .
الخلاصة
أن اتفاقيتي تقاسم السلطة والثروة قد أديتا إلى نقلة نوعية في تاريخ السودان من الموقع التقليدي الذي كانت تستأثر به قلة من الحكام بإمكانيات الدولة إلى وضع أفضل يتساوى فيه الجميع في الحقوق والواجبات .
الواقع أن الوضع القديم قد كرسّ لوجود دولتين من الناحية العملية .. دولة الوسط التي تتكون من الأذرع الثلاث و هي الخرطوم و كوستى و سنار . ثم دولة الهامش التي تتكون من الجنوب و الغرب و الشرق ثم أقصى الشمال .
زاد هذا الوضع من حالة الاحتقان و الشعور بعدم الإنتماء الوطني لأن الهدف الرئيسي للوسط كان و لا يزال هو احتكار جميع وسائل الإنتاج .
تؤكد قراءة النظم الاجتماعية و السياسية في السودان الحديث على أن منطقة الوسط قد استأثرت دوماً بوسائل الانتاج منذ عهد عهد الدولة السنارية مروراً بالحكم التركي ثم بالحكم الثنائي ، مما أدى إلى تقنين وضع متميز للوسط على حساب الأصقاع الأخرى من السودان .
و تفاقم الوضع بعد الاستقلال إذ تلبس بعض حكام الخرطوم عباءة المستعمر و مارسوا في أبشع صورة ذلك الدور التهميشي بل الظالم للمناطق البعيدة عن المركز .. بل عمقوا التهميش بتطبيق سياسات الأسلمة و التعريب القسري أي استعراب القوميات السودانية الأخرى في محاولة يائسة لاعادة تكوين و إنتاج لهوية الإنسان السوداني ، و وصلت تلك السياسات إلى ذروتها في التشنج و العنف طبعا أبان حكومة الإنقاذ فيما بات ُيعرف بالتوجه الحضاري ,
بقصد أو بدونه تورط الوسط في الدفاع عن ما يعتقد بأنه حقوق ثابتة له , بل أصبح بضراوة يفاوض المهمشين بخصوص منحهم جزء من حقوقهم بدلاً من إعادة حقوقهم التأريخية إليهم . لجأت الحكومات المتعاقبة على تاريخ السودان الحديث إلى استخدام العنف تارة .. و الحيلة تارة لمقاربة مسألة حقوق الأقاليم المختلفة في السودان في مقابل حقوق الوسط .. و كانت الحيلة الخبيثة التي لجأت إليها الحكومات هي شراء ضمائر و ذمم بعض أبناء الهامش من ضعاف النفوس و استخدامهم مخلب قط لتنفيذ سياسات الهيمنة و القمع .. بذلك أصبحت سياسة المركز هي أحد المكونات الجهوية بالممارسة نتيجة لجوئه إلى التهرب من مسئولياته .. و رفض الاعتراف بمسئوليته التأريخية عن الأخطاء السياسية التي كانت مميتة في بعض الأحيان مما زاد الطين بلة .
أن الوسط الذي نتحدث عنه اليوم ليس الإ كياناً نشأ عبر التاريخ من مجموعات عرقية تقاطرت من سائر أنحاء السودان و التقت مصالحها الإقتصادية و الإجتماعية ، و لذا سارعوا إلى تكوين مجتمع خاص بهم يدافع باستماتة عن مصالحهم ضد الأقاليم . بل تنادى البعض بإتهام الآخرين بأقبح التهم مثل الجهوية وعدم الوطنية , متناسين أن تصرفاتهم التمييزية ليست أقل درجة في سلم الممارسات الجهوية المرفوضة من حيث المبدأ و أهمها اختزال الوطن الشاسع إلى رقعة جغرافية محددة ، حتى صار بعضمهم يصمون الآخر من أبناء الوطن بالوافدين .
يجب على هؤلاء الجهويين الجدد أن يرتقوا لتحمل المسئولية الوطنية للأمانة و التاريخ وأن يعيدوا السودان إلى مساره الصحيح حتى ينعم الوطن الكبير بالأمن و السلام الإجتماعي .. و لا تنسوا أيها السادة أن التاريخ لا يرحم .
خاطرة : أتمنى أن تكون هذه المقاربة قد أجلت الغموض عن بعض جوانب هذه المسألة الشائكة .. وأرحب بتعقيبات و مساهمات الأخوة القراء إثراءً للحوار الوطني
[email protected]
[email protected]
رقم الجوال 09748502130
دوحة-قطر