يظل شهر رمضان على مر الزمان أحب شهر إلى قلوب المسلمين ويكفي أنه أنزل فيه القرآن دستور الإسلام والهادي إلى سواء السبيل وخير الدارين إلى أن يرث الله الأرض وما عليها , ونحن في السودان درجنا على أن نعتز بهذا الشهر ونفرح بمقدمه ونميزه بطائفة من الطقوس والعادات تزيد من بهجته وروائه , وفوق ذلك تجد الكل يحرص على الصيام من الصغير والكبير وحتى الفاجر يدّعى ويتظاهر بالصوم . وأظن أن الصوم أرتبط لدي السودانيين بالرجاله ( الرجولة ) والتي يقدمها السودانيون على أغلب الفضائل الخلقية فإنه من العيب أو العار أن يفطر الرجل دع عنك الجهر بالفطر . وللنساء كلف خاص برمضان لما يتميز به من أطعمة وأشربة خاصة وتبدأ الاستعدادات له منذ شهر شعبان فكن يشترين اللحم الذي يقطع إلى شرائح ويقدد ليعمل منه ( الشرموط ) الذي يصنع به ( ملاح)
التقلية أو النعيمية , ويشترين الذرة والبهارات ليصنع منه الحلو مر والآبرى وكذلك العصيدة والتي لا تكاد تخلو منها مائدة إفطار في رمضان , وكن يعملن ما يشبه النفير في الزراعة فتجتمع الصاحبات والجارات في دار إحداهن ( لعواسة ) الآبرى والحلو مر ويتناوبن العمل في جو ملئ بالفرحة والأنس . وينتقلن من بيت إلى آخر حتى تفرغ كل البيوت من تحضير الآبرى والحلو مر وكانت أجواء الحلة تعبق بروائح هذين الشرابين الزكية وتعطرها وينشرح لها قلوب المؤمنين والناس بقرب الشهر الفضيل .
وكان الرجال بعد انتهاء العمل يقضون بقية اليوم قبل الإفطار في الحدائق أو تحت كوبري النيل الأبيض , وبخاصة حديقة برمبل بالموردة بأمدرمان والتي سميت بعدئذ بحديقة الريفيرا أو كازينو الريفيرا العائلي وهو أسمها الحالي وكانت حديقة أنيقة كثيرة الأشجار غزيرة النجيلة متنوعة الزهور والورود وكانت مفتوحة لكل أفراد الشعب بدون رسوم دخول , فكان الصائمون يستلقون تحت ظلال الأشجار الوريفة فتجد منهم النائمين ومنهم من يلعب الكتشينة والبعض يعوم في البحر خاصة الصبية و الأطفال وهؤلاء كان منهم من يغطس في الماء ويبتلع ( جغمة ) أو اثنين منه ويتظاهرون بالصيام وذلك اتقاء او خوفا من المعايرة بالإفطار في رمضان وهذا السلوك يأتي من افتراض نقص (الرجالة) للمفطر والذي ذكرته آنفا وكان الأطفال يسألون بعضهم البعض (( أنت صايم صيام الضب ولا صيام السحلية)) ويقصدون بصيام الضب المفطر وبصيام السحلية الصائم بجد .. ولا ادري حتى الآن إن كان الضب والسحلية يصومان !
وتنشط الحركة في البيوت قبيل الإفطار فالنساء يشتغلن بإعداد طعام وشراب الإفطار المتنوع والشاي والقهوة , والأطفال والصبية يفرشون البسط والبروش أمام البيوت فقد كان معظم الجيران يفطرون جماعة وكل رب بيت يأتي بصينية إفطاره فيفطرون ويصلون المغرب جماعة ويذهب البعض إلى المسجد وبعد ذلك لاداء صلاة التراويح وان كانت هذه العادة الجميلة قد اندثرت أو كادت تندثر الآن فقد شاهدت البعض القليل لا يزال متمسكا بها .
وكان هناك مظهران يتميز بهما رمضان أولهما مدفع الإفطار وثانيهما المسحراتي فقد كان يوجد هناك مدفع عتيق يوضع أمام النيل عند طوابي المهدية قبالة جامعة القرآن الكريم للبنات بامدرمان وكان يضرب إيذانا بالإفطار وكان دويه يسمع في أنحاء امدرمان القديمة أي ما بين حي ودنوباوي شمالا إلى حي الموردة جنوبا ومن حي ابوروف شرقا إلى فريق حي العرب غربا ولكن اُسكت هذا المدفع في عهد جعفر نميري عندما كثرت ضده محاولات الانقلاب العسكرية , وذهب أب عاج بلا رجعة ولا يزال المدفع صامتا !فهل من عودته من سبيل ؟ والمظهر الثاني هو المسحراتي الذي كان يطوف علي الحي علي حمار أو راجلا وفي يده طبلة يقرع عليها ليصحي الناس للقيام للسحور مرددا عبارات منغمة اذكر منها ((قوم يا صايم وحد الدايم)) أو يشطط فيقول ((صايم رمضان قوم اتسحر .. فاطر رمضان نوم اتندل)) .. وفي وقت لاحق سمعت أحدهم يعلن عن موعد السحور بالضرب علي نوبة.
وكان هناك مطرب حقيبة في الموردة يستعمل الرق في التنبيه للسحور وهو ذات الرق الذي يضرب عليه في حفلات الغناء وكان اغلب المسحرين يؤدون هذا العمل متطوعين يبتغون من وراء ذلك الأجر والثواب من عند الله بينما القليل منهم يفدون إلى الناس صبيحة العيد للتهنئة فيجود عليهم الناس بالحلوى والتمر والفول والكعك والنقود .
كان مسلك الناس في رمضان مثاليا للمسلم الحق في النقاء والطهارة والتقوى حتى المبتلين بشرب الخمر يمتنعون عن تناولها وان كانوا يودعونها قبل الصوم بتظاهره شرابية يسمونها (( خم الرماد )) يشربون فيها حتى لا يميزون بين الأرض والسماء !
ولكن كانت هناك مناظر وسلوكيات مقرفة وقبيحة يأتيها البعض في رمضان و أظنها لا تزال موجودة حتى الآن ومنها الذين يبصقون باستمرار وكأنهم مصابين بإسهال في أفواههم ! والذين لا يستاكون ويظنون ذلك من تمام الصيام ولا أتصور كيف يقابل الواحد منهم أهله واصحابه برائحة فمه الكريهة .. ألا يستحي من مقابلة ربه أو تلاوة كتابه الكريم ! وهذا يذكرني بالقصة التي أوردها الجاحظ عن الرجل ذي اللحية الطويلة والذي كان يجلس بجانبه في المسجد وتفوح من وجهه رائحة عفنة فلما نظر إليه وجده واضعا علي شاربه قطعة من خراء , ولما سأله عن ذلك أجاب بأنه أراد أن يتذلل لله , أو الصبي الآخر الذي ذكره تشارلس دكنز والذي خلع ملابسه كلها ورقد عريانا في عز الشتاء وهو يرتجف وذلك تقربا لله ! , ومن المناظر المنفرة القبيحة تظاهر البعض بالزهج وسوء وضيق الخلق متعللا بالصوم وهناك الموظفون الذين يجعلون من رمضان موسما للكسل وعدم القيام بواجباتهم إزاء العباد والذين ينومون أثناء ساعات العمل ويقفلون المكاتب عليهم بعد ساعات العمل ويفترشون التربيزات أو الأرض للنوم تحت المكيفات والمراوح !
ولست ادري كيف يقضي معظم الناس رمضان الآن مع قلة النقود وتوحش الغلاء وربما تعودوا علي شبه الصيام الإجباري فطعامهم المتاح هو البوش والدكوة مع الطماطم الذي يشكل وجباتهم الرئيسية ! و مع ما يقاسونه من سوء تغذية وامراض !!
ولكن مما شاهدته مؤخرا من مظاهر إيمانية باذخة هو امتلاء المساجد بالشباب وحضور النساء والفتيات خاصة صلاة التراويح في المساجد والساحات , وآمل أن ينعكس هذا علي سلوكنا فالدين عند الله المعاملة وكل رمضان وانتم بخير وبلادنا وبلاد المسلمين في عزة وسلام .
هلال زاهر الساداتي – القاهرة
[email protected]