لوحة مهداة إلى وزارة الصحة ونقيب الأطباء
إن العلل والأسقام هى التى تصيب الأبدان فلا تقوى على أداء دورها الطبيعى وتهدر الطاقات التى نحتاج إليها فى تحريك عجلة الإنتاج وإعمار الأرض. وجاء فى الحديث النبوى الشريف "المؤمن القوى خير وأحب عند الله من المؤمن الضعيف" وما نستخلصه من هذا الحديث الشريف أن القوة المعنوية والمادية مطلوبتان. وأهل السودان بعد أن رست سفينتهم على مرافئ السلام يجب عليهم ألا يركنوا إلى الراحة والكسل لأن الحرب قد أهدرت عليهم كثيرا من فرص التقدم والنماء.. وحتى نعوض ما فات ونلحق بركاب الدول الناهضة يتطلب منا ذلك أن نشد على المئزر وننهض إلى المصنع والمزرعة والمعمل. ولكن كيف للأجساد إن صارت عليلة القدرة على بناء وطن( حدادى مدادى ). إن صحة الأبدان وصحة الوجدان هى أولى محركات الإنسان للعمل الجاد ولن تتأتى للمجتمع هذه الصحة والمعافاة إلا بخلق البيئة السليمة والمحافظة عليها.
تابعت فى التلفاز فى يوم الإثنين 22 أغسطس الماضى كاميرا التلفزيون القومى وهى تصول وتجول فى سوق الأسماك بحى الموردة بأم درمان لتنقل لنا حركة السوق بأسماكه من "الصير" الصغير، الممنوع إصطياده، إلى العجل والبياض والبلطى والدبسة والقرقور..ألخ..وأرض السوق تكدست بأكوام الأسماك فى القفاف المهترئة أو إفترشت الجوالات الفارغة مثل الأحذية القديمة. ويتم نظافتة هذه الأسماك وتقطيعها فوق الأرض حيث أقدام الناس بأحذيتهم العتيقة تطئ هذه الجوالات فى حركتها فى السوق جيئة وذهابا حاملة معها كل الأتربة والأوساخ. وفوق سماء السوق تحلق الحدأة لتخطف خلسة أو عنوة غذائها من أحشاء وأطراف الأسماك التى يتم تنظيفها والقائها فى العراء. تعجبت من صنيع الكاميرا هذه التى نقلت بدائية تعاملنا مع المأكولات ونحن ننقل للعالم عبر فضائيتنا كيف هى عندنا الأشياء فى الوقت الذى ندعوه فيه للاستثمار فى بلادنا. ولكن قبل ذلك أين هى صحة الانسان فى وطننا؟ أما آن للدولة، ممثلة فى وزارة صحتها ومعتمدياتها، من مراقبة هذه السلع وكيف ترض بما لايدعها عرضة للتلوث والأمراض؟ إن كنا نحرص على سلامة المواطن فأوجب الواجبات أن ننظم أسواق الأسماك واللحوم والخضر والفواكه والألبان ومشتقاتها وأن تشيد المعتمديات الأماكن المهيئة لمثل هذه الخدمات. إن تشييد جملون من الزنك أو غيره وتزويده بالمياه اللازمة لتصريف فضلات ودماء وبقايا اللحوم والأسماك ووضع براميل فى كل هذه الأماكن لرمى الفضلات وسحبها يوميا خارج الأسواق وسكن المواطنين يجنب كثيرا من الأمراض الناجمة عن توالد الذباب بسبب ترك هذه الفضلات فى وسط الأسواق. وهذه النظافة توفر كثيرا من تقليص الأمراض وإستخدام الدواء. والأمر مرتبض أيضا بتوفر شروط السلامة والنظافة فيمن يمارسون هذه المهن منعا للعدوى والأمراض، ولجعل هذا النيل مظهرا من مظاهرنا الحضارية بمنع رمى الأوساخ والفضلات وغسل الحافلات والسيارات على ضفتيه وأن نجعل من هذه الضفاف رياضا تهرع اليها الأسر لقضاء أوقات ممتعة. سألت أحد أصدقائى من الدبلوماسيين الأجانب إن كان يتذوق سمك النيل السودانى رد فى حسرة أنه يحب السمك ولكنه لم يطعم سمك السودان قط نسبة لطريقة عرضه غير الصحية من تعريضه للأتربة وحر الشمس.
لقد ظلت أكوام الأوساخ وبقايا الذبائح من فضلات ودماء تتربع فى قلب القرى وبعض أحياء المدن مما يكثر حولها توالد الذباب وتقتات الشياه والكلاب فتنتشر الملاريا والدسنتاريا وأمراض أخر وتعجز المستشفيات والعيادات والشفخانات من علاج هذه الحالات.
ويتضح مما سبق ذكره أن ثقافتنا الصحية كمواطنين ضعيفة إن لم نقل مفقودة على الرغم من تذكير الهدى النبوى لنا "النظافة من الإيمان" ولكننا نظل فى تعمد نحسد عليه نتبول فى وسط الأسواق وحول المبانى المهجورة والأسوار المدارس والمساجد وداخل المكاتب ونرمى بالأوساخ من "تمباك" وحب بطيخ "تسالى" ومناديل ورقية وأكياس بلاستيكية وقشور فواكه من موز وبرتقال وبطيخ وروث حمير وبقال ثم ما فسد من طعام وإيدام والشئ عينه يقال عن تفل التمباك وبقايا الشاى فى أحواض النظافة فى المكاتب والمطاعم لتحدث انسدادا يعطل جهاز تصريف المياه على الرغم من الرجاءات الكثيرة التى تكتب أحيانا فوق هذه الأحواض. وهذه المخلفات الضارة تكون أكثر ضررا إذا هطلت الأمطار وانسدت المجارى وطفح الكيل فتختلط هذه الفضلات مع طيب الطعام والشراب وتتسرب الى شبكات المياه فتسبب الإلتهابات المعوية وغيرها مما لا يحمد عقباه ونظل مع ذلك نمارس نفس عدم الإكتراث للنظافة. وتظل المجارى مسدودة ومعطلة حتى يبدأ موسم الخريف لتتحرك بعض البلديات بحياء لنظافة هذه المجارى وكأن الخريف مجهول الزمان. ولكننا أعتدنا قضاء حوائجنا فى اللحظات الأخيرة مثلما نقوم بأعمال النظافة إستعدادا للعيد والتسوق فى يوم الوقفة (نحن شعب يعشق علوق الشدة). وظل عمال المجارى ينظفون الأوساخ ويكدسونها على حافة المجرى حتى إذا هبت ريح أو هطلت بشائر الخريف عادت مسروقات الأوساخ الى مستودعاتها فى قاع المجرى مرة أخرى. وكما يقول المثل "وقية وقاية خير من رطل علاج".
هناك ضرورة ملحة لنشر التوعية الصحية العامة وسط المواطنين من السلطات الصحية والأطباء وكل الوسائط الإعلامية. فالتوعية بالمحافظة على الصحة أهم من تشييد مزيد من المستشفيات لأن سوء الإستخدام يضر بالإستفادة مما هو موجود أصلا. وقديما قيل :"الوقاية خير من العلاج". وقد شهدنا ذلك فى بلاد الغرب التى تستخدم حكمتنا هذه عملا وليس قولا فقط. وقد جعلوا على كل ناصية شارع أو فى كل مركبة عامة سلة ترمى فيها الأوساخ لتجمع فى نهاية اليوم وتترك هذه السلات نظيفة. وقد حكى لى صديقى أن أحد السودانيين فى إحدى بلاد أوربا رمى بصندوق سجائره الفارغ على قارعة الطربق فلحقت به إمرأة من مواطنى تلك الدولة وقالت له: سيدى لقد طاح منك هذا الصندوق فقال لها هذا صندوق فارغ رميت به فردت عليه: ليس لبلادنا حاجة فى صندوقك الفارغ؛ خذه معك وألقى به فى تلك السلة. هكذا يكون الشعور بالمواطنة والتفاعل معها وهكذا يجب الدفاع عن مصالح البلد وعدم ترك شرخ فى منظومته الصحية أو غيرها. كم من الأشياء تهدر أمام أعيننا ولا نحرك ساكنا وكم من محاول يجد التصدى ويتوقع الرد عليه بإستهتار " بلد أبوك؟"
ولوزير الصحة الجديدة ونقيب الأطباء نقول أن للأطباء بالمهجر قضايا تحول دون عودتهم والإنتفاع بخبراتهم. وظل عدد منهم يروى ما يواجهونه من عنت وعراقيل توضع أمامهم كلما حاولوا أن يستقروا فى السودان أويستجلبوا معهم معدات طبية ومستشفيات من بلاد المهجر. وفى تقدير البعض أن هناك تنافسا وغيرة بين من يتولون الآن إدارة هذه المستشفيات والذين يدرسون الطب فى الجامعات والذين يفتحون العيادات الخاصة وبين أطباء السودان بالمهجر فى أن عودتهم ستشكل منافسة تهدد عروش البعض. وهذا التنافس المتنافر يضير بمصلحة بلادنا ويحرمها من الإنتفاع بعلم وخبرة أبنائها ويجعل مهنة الطب الإنسانية محتكرة مثل شركات الإتصالات فى بلادى. وقد حدثنى أحد هؤلاء الأطباء السودانيين بايرلندا أنه فى بعض المستشفيات الإيرلندية يوجد ما يبلغ خمسة وعشرين طبيبا سودانيا فى مستشفى واحد.
وصيحة أخيرة نرسلها الى الأخ والصديق الدكتور عبدالعظيم كبلو نقيب الأطباء مذكرين بأن الطبيب الإنسان لا يشبهه فى مهنته الإنسانية هذه التاجر من حيث الحرص على العائد المادى وأن قلة من الأطباء يرهقون مواطنيهم برفع رسوم مقابلة الطبيب فى عياداتهم الخاصة حتى تبلغ أو تزيد عن رسوم مقابلة الطبيب فى الدول الغنية والأمر يتطلب تدخله بحكم تبوأه للنقابة لوضع لوائح أدبية وأخلاقية ما يمنع مثل هذا الإرتفاع الجنونى للرسوم الذى يقوم به البعض وإن كان فى عيادات خاصة ولكن يظل المواطن يحتلج لمقابلة الطبيب المتخصص فى عيادته وإلى الطبيب الإنسان فى كل الأحوال والله المستعان،،،