علي أية حال لا يبدو من الضروري لأهل السودان _ مع أفضلية ما تقدم _ أن تقوم وحدتهم علي علاقات المصاهرة كشرط رئيسي للسلام فيما بينهم بالتراضي . فالعَقد الاجتماعي الذي تنبني عليه الدولة السودانية الحديثة هو الأهم و الضامن لاستمرار هذا الوجود الحيوي لمكونات و أجزاء المجتمع السوداني. و دعونا نتناول عناصر القوة و الجاذبية لوحدة مكونات السودان . و أحيل القارئ الكريم لتأمل مخاطر الانشقاقات التي يمكن أن تنجم عن تفتت وحدة السودانيين من تلقاء السودانيين أنفسهم أو التدخل الأجنبي, لمقالي السابق ( تاريخ العالم الوجيز الطبعة الأولي 2012م ) الذي افترضت فيه انقسام السودان لدويلات, و انه ليس لأحد مصلحة في ذلك . و استفضت في مناقشة ذلك و إليك الرابط :
http://www.sudaneseonline.com/aarticle2005/sep15-79717.shtml إذن ما هي مظاهر القوة و الجاذبية للسودان المتحد؟
لنأخذ جنوب السودان كمدخل . لأن الكلام عن جاذبية الوحدة في اتفاقية نيفاشا أخذ منحي تقسيمياً ينحاز للجنوب أكثر. و مع احترامنا لاتفاق نيفاشا الذي انهي الحرب , إلا انه انتهي به الأمر لتقديم رشوة للجنوبيين للتصويت علي الوحدة نشك في مرورها علي إنسان الجنوب الأبي. لكن سينظر لها علي أنها كما كتبت في مقال سابق بأنها ( مال الخلع الذي يجب أن يدفعه الجنوبيين مقابل الانفصال) و هذا الأمر له مساوئ و تعقيدات علي وحدة السودان في مجوعه الأكبر . فالاتفاق يغلِب الانفصال بأبعاده الإجرائية. فالأجدى في نظري لو أُقر مشروع مارشال يعيد بناء الجنوب و كل المناطق التي تأثرت بالحرب دون أن يُثقل كاهل السودان باتفاقيات مفخخة تفكك أوصاله من بعد. راجع مقالي بعنوان: كونفدرالية أم فيدرالية ؟ وولع الحكومة بتسمية الأشياء بغير أسمائها , يقطع الطريق أمام الوحدة!!!. و رابطه هو:
http://www.sudaneseonline.com/aarticle2005/sep11-46473.shtml
و هنا أحاول أن أقدم دراسة مبسطة تستجلي المصالح المؤكدة لجنوب السودان في الوحدة. فالجنوب كما وضحت في المقال السابق ( تاريخ العالم الوجيز الطبعة الأولي 2012م ) محاط بجوار متشابه في معطيات الإنتاج و أنماط الاستهلاك التي يلعب الرعي دورا مهما. فدولة الجنوب إن قامت ستفقد المنفذ الرخيص لمنتجاتها و أهم من ذلك سوق (استهلاك و عمل) ستبلغ قوتها حوالي الأربعين مليون مستهلك هم سكان السودان من غير أهل الجنوب بعد سنوات قليلة . وهذه النسبة يحسب لها حسابها حتى في مفاوضات التجارة العالمية . أضف إلي ذلك نتوقع أن يكون متوسط الحد الأدنى لدخل الفرد في السودان في السنوات القادمة بعد تحقيق السلام الشامل , أن يبلغ 500 دولار في الشهر علي اقل تقدير بالنظر إلي وتيرة الاستثمارات و معطيات التصنيع و التعدين و التنقيب.كل ذلك في ظل مناخ جاذب للاستثمار. و لقائل أن يقول و لماذا لا تقوم علاقة طيبة تكاملية بين الدولة الوليدة و الدولة الأم علي نهج:( ولدك كان كِبر خاويهو) ؟ نقول شواهد الواقع تقول غير ذلك . فمثلا ما زالت العلاقات متوترة بين الهند و باكستان مع أنه قد مرّ حوالي ستون عاما علي انفصال الأخيرة . و مثال آخر قريب من عندنا ـ لمن نسي ـ هو إعلان الاستقلال عن مصر من داخل البرلمان الذي لم يزل يلقي بظلاله علي علاقة الدولتين . و ما نموذج صراع إثيوبيا و إريتريا عنا بعيد!!. أضف لذلك أن الأسواق التي ستفتح من خلال مؤسسات الحكومة المركزية سينظر لها علي أنها مكاسب للدولة الأم لا يمكن التنازل عنها . و لن يكون غريبا تضييق المعابر أمام منتجات دولة الجنوب بفرض قيامها. و صورة قريبة من هذه يمكن أن تحكم العلاقة بين الدولة الناشئة و كينيا . و ذلك ببساطة أن عنصر المنافسة هو الذي يحكم العلاقات الدولية. إذن سيحكم علي الدولة الوليدة بارتفاع تكلفة نقل بضائعها و سيحرج ذلك موقفها المالي كثيرا. عندها سترضي بكونها دولة نفطية متوسطة الإنتاج. وتكتفي بأن تقدم خدماتها لشعبها في هذه الحدود . صحيح إن الجيل الأول ربما يستمتع في أولي السنوات بفائض في الدخل القومي . لكن هذا لن يستمر طويلا بسبب الزيادة في السكان . من هنا اخلص إلي أن حاجة الجنوب للوحدة لا تقل عن حاجة الوطن الأم للاحتفاظ بأجزائه. لكني نبهتُ سابقا إلي أن نموذج اتفاق نيفاشا لا يلبي قيام و حدة حقيقة و لا يمكن تعميمه علي أصقاع السودان الأخرى . إذن لابد من الخروج من نفق نيفاشا بأعجل ما تيسر!! و عدم زجه كآلية لحل مشاكل السودان الأخرى. مقالي القادم سيحاول أن يجيب علي هذه النقطة . و هو بعنوان ( مساهمة في حوار المركز مع الأطراف: مسارات دارفور و مسار البجا )
و النقاط السابقة يمكن إسقاطها علي إقليم شرق السودان الذي يطرح بعض متطرفيه مشروع الكونفدرالية . و تارة الشيمفونية الضيقة بإصرارهم علي السيطرة علي الميناء كأنه ملك أفراد و ليس ملك الدولة. فلهؤلاء نقول إن الدعوة باستئثار ثروة أو مُقدِر من مُقدِرات إقليم معين يعد مساويا للدعوة الصريحة للانفصال!!!!. لذلك بدلا من النهج الجزئي, المطلوب الآن قيام مؤتمر لصياغة عقد اجتماعي يجيب علي تقسيم السلطة و الثروة بين أجزاء السودان المختلفة . و يجدر بنا التذكير بأن عدم حمل السلاح لا ينبغي أن يفهم علي انه رضا من الأقاليم الأخرى علي أوضاعها . و لكنه _ في نظري _ هو من لطيف تقدير الله علي هذا الشعب. علي كلٍ , يمكن القول إن أبناء الإقليم الشرقي مثلهم كمثل أبناء بقية أقاليم السودان يمكن أن ينعموا مجتمعين بسوق العمل و الاستهلاك الضخم الناشئ حاليا و الصاعد بإذن الله ثم بجهد بنيه و الذي انتبه إليه المستثمرون الأجانب. و ذلك حتى قبل أن تضع الحرب أوزارها في الجنوب!! لذلك لا يتوقع قيام دولة موحدة تحكمها (كنتونات) كما تريد حكومة البشيرــ طه و لسان حالها : أنا و من بعدي الطوفان!!! أو المتعصبين من أبناء أقاليم السودان !!! لذلك ننادي مع العاقلين من أبناء شعبنا و تنظيماته التي ترفع شعار المؤتمر الجامع و الذي قلت عنه سابقا إن الحاجة إليه تتأكد يوما بعد يوم وأن الحركة و الحكومة تحاولان عبثا إقناعنا بخلاف ذلك. نقول هذا حتى لا نستيقظ ذات صباح علي مشكلة المعابر داخل بلادنا علي الطريقة الإسرائيلية في تعاملها مع الفلسطينيين في ديارهم!!!! اللهم سلِّم اللهم سلِّم.