* في اطار الحوار العميق الذي يدور بين مولانا احمد هارون وزير الدولة المكلف للداخلية ومجموعة من قيادات الرأى وكتاب الأعمدة، بمبادرة من مؤسسة «طِيبة برس» ومديرها زميلنا المحلل السياسي المبدع محمد لطيف، لا بد ان نسأل انفسنا.. هل من المصلحة العامة ونشر الطمأنينة والأمن في قلوب الناس، «عسكرة» العاصمة القومية، وتحويلها الي ثكنة عسكرية، وتنظيم الحملات المستمرة علي الاسواق ومناطق العشوائيات، وتسيير الطوابير العسكرية المدججة لاستعراض القوة، ووضع العربات المصفحة بمظهرها الخشن والمستفز امام ابواب بعض المؤسسات المدنية المهمة وذات الصلة ببعض المؤسسات العالمية.. مثل بنك السودان؟
* لقد وجدت نفسي في وضع حرج للغاية عندما سألتني صحافية اجنبية قبل يومين.. لماذا يضع بنك السودان كل هذه المصفحات المرعبة أمام أبوابه، هل يتوقع هجوما ارهابيا من احد.. أم ان لديكم عصابات منظمة تهاجم البنوك؟»..
* وفي حقيقة الامر، فأنني لم أجد ما أجيب به عن سؤال الصحافية الاجنبية.. ودخلت في حديث طويل عن الاحداث التى اعقبت وفاة الدكتور جون قرنق، والانتقادات التي وجهت لأجهزة الأمن بعدم التحوط للاحداث، والتعامل معها في الوقت المناسب.. وربما يكون هذا المظهر العسكري» امام بنك السودان.. نوعا من رد الفعل لتلك الانتقادات!!
* وبرغم ان الصحافية الشابة هزت رأسها لاظهار موافقتها علي التبرير الذي سقته اليها، إلا انني احسست، بأنها لا تزال حائرة ازاء وقوف العربات المصفحة أمام بنك السودان!!
* أعود الأن للسؤال.. هل من المصلحة.. عسكرة الخرطوم، وهل ستقود هذه العسكرة لتحقيق الهدف المطلوب منها.. وهو اشاعة الامن والطمأنينة في النفوس؟!
* وإذا تمعنا في المظاهر العسكرية للخرطوم وردود الفعل إزاء الحملات والكشات وطوابير استعراض القوة في مناطق التجمعات، خاصة الطرفيه ومناطق العشوائيات،، وكشات حركة المرور.. نجد أنها تقود الي عكس الهدف المطلوب منها تماما، فهي تنشر الرعب والسخط بين المواطنين، خاصة الذين يعيشون فى مناطق النزوح، ويعانون من ظروف معيشية بالغة السوء، تزيد في نفوسهم الضغائن والأحقاد، وتعبئهم اكثر ضد الأوضاع المأساوية التي يعيشون فيها، وضد الذين يوجهون إليهم أصابع الاتهام بصنعها أو الوقوف ورائها.. ويكونون مهيئين تماما عند وقوع أى حدث، مهما كان طفيفا، للثورة ضد هذه الاوضاع وصانعيها.. مهما بلغت دقة وصرامة التدابير الأمنية.. وبالتالي تسقط إلي الحضيض الفلسفة التى ترتكز عليها المظاهر العسكرية التي تشهدها الخرطوم!!
* وغير ذلك، فان المناظر التي تراها عين الزائر الاجنبي، والصورة التي تلتقطها كاميرات القنوات الفضائية لتلك المظاهر العسكرية، مثل المصفحات التي تحرس بوابات البنك المركزي» خاصة تحت ظل الظروف التي جعلت السودان محط أنظار الفضائيات.. تعطي الانطباع بعدم استتباب الأمن في البلاد، أو علي الأقل احتمال حدوث انفلات امني في أى وقت من الاوقات، بكل ما يحمله هذا الانطباع من تأثير سلبى للغاية علي كثير من المجالات مثل اجتذاب المستثمرين الاجانب للاستثمار في السودان!!
* لا يمكن ان يضع أى مستثمر، مهما كان مغامرا.. أمواله في بلد تحرس بنكه المركزى العربات المصفحة، وتداهم اسواقه المركزية حملات النظام العام، وتسير في شوارعه القوات المدججة بالسلاح لاستعراض القوة!!
* ان استتباب الامن، وبث الطمأنينة في قلوب الناس، لن يتحققا بعسكرة الخرطوم، بقدر ما يتحققا باحساس المواطن انه آمن علي نفسه وماله وخصوصياته.. في أى وقت من الأوقات، وانه سيجد رجل الامن عندما يحتاج اليه، بدون أن يراه طول اليوم يطارد الناس في الأسواق، او يستعرض عضلاته المدججة بالسلاح في الاحياء السكنية.. او يداهم الناس في بيوتهم وينتهك خصوصياتهم .. او يحرس بالعربات المصفحة البنوك والمصارف، او يعترض سير العربات لاغراض الجباية في الشوارع والطرقات!!
* ان الامن يمكن ان يكون كثيف الحضور لدرجة ان يكون مقابل كل مواطن رجل امن، ولكن بدون ان يكون ظاهرا في الصورة، سواء بمظهره او بسلوكه الا عند اللزوم مثلما يحدث في أية دولة متحضرة.