الموت قاتله الله , فلسفة حار أمامها العلماء وعجز في إدراك كنهها الفلاسفة , فكانت الروح من أمر الله (يسألونك عن الروح قل من أمر ربي ) وسط هذه الحقيقة الغائبة وجدلية القضاء والقدر و الأمر الرباني افتقد القوم زعيمهم وحكيمهم (يوسف ود حسن ) صاحب الكاريزما القيادية الفذة راعي الوداد الأزلي وداعية الأمن الروحي و الوفاق الوطني ونابذ السفسطائية الطلسمية الهدامة رحل الرجل و عليه يعاليل الرضا وفي نفسه شئ من حتى وبقايا هموم ثقال . هموم القرية وما جاورها من قرى وفرقان ( التعليم ,الصحة, الكهرباء ) عرف الرجل بدبلوماسيته ووفائه وإيثاره وإخلاصه لقومه وعشيرته , كان مرشداً مربياً وحجة ومنطق كانت مواقفه ظاهرها وباطنها هي منقبات كريمة جديرة بالتجميع والتدوين كان يلقى خصومه مبتسماً تبسم الشجاع الذي يرى الجبن عار لا يمحوه الزمان و كان يحكم بين المتخاصمين بعدل ابن الخطاب لأهل مكة ... بكته الشرفة بدموع الخنساء يوم رحيله وهي تردد أن الصخر أدركه انهيار ...أفرد كثيرون دواخلهم للحزن و أعطوا له تأشيرات دخول ليمتطي ما شاء ودعه القوم بحرقة وأسى لهفى على رجل ثوى فيتم قومه ولكن ... ما من مات وذكراه حية مادامت هناك منابر . أتى أهل الحضر والوبر وزعماء القبائل والعشائر معزين مودعين فقيدهم وعلى كل ضامر أتوا من كل فج عميق معبرين عن لوعة الأسى والفراق بلسان عربي مبين, وكأنهم يقولون لو أن هذا اليوم عند عدو يحبسه وراء السلاح لأخذناه منه عنوة واقتدارا ... تعاقبت الخطب و الخطباء وكثر الحديث والمتحدثون معددين فضائل الوالد يوم رحيله و أنا حينها كنت ابن الثاني عشر ولكن كانت تطربني تلك الخطب العصماء التي ارتجلها زعماء البطانة رغم أن مراكب الأحزان مبحرة ولكنها زالت عني تلابيب الحزن والأسى ... في هذا الزمن الجريح المتهادي المتعثر وقبل الأصيل بقليل وقف فارساً من فرسان البطانة وشاعراً من شعراء الدوبيت والمسادير لينعي الفقيد بكلمات ثمان. اعتدل القوم في مجلسهم والصمت يطبق في الدار , محدقين في هذا الإعرابي ملياً تهيأ لخطبة عصماء تذهب حزنهم وعناءهم وتواسيهم في فقيدهم أنصتوا ولسان حالهم يقول :
جاء حديث لا يمل سماعه شهي لدينا نثره ونظامه
إذا سمعته النفس زال عناؤها وزال عن القلب المعنى الظلام
و كأنهم يقولون له قل لنا بربك أيها الفارس في هذا الرجل قولاً لا نسأل عنه أحداً بعدك ... وقف الشاعر الفحل الشيخ محمد عمر البنا قائلاً ( كان يوسف أمة وكفى ) وجلس . هكذا كانت خطبة الوداع التي ألقاها الشيخ محمد عمر البنا يوم رحيل الوالد يوسف حسن عمدة الأشراف بالشرفة قول من غير تطويل وإفراط وتنظير ... تحدث الرجل فأوفى وقصد فأجاب , حول رماد الحروف واللغة إلى معنى عميق .. . إلى كلمات أربع بمقدار الحواشي والمتون . فلو أن أهل السياسة و أعضاء البرلمانات أوجزوا وأصابوا لقطعنا الزمن قبل أن يقطعنا السيف.