ان الاعتداء على المال العام قد تفشى وتضخم فى الفترة الاخيرة وقد تناولت العديد من الاقلام الصحفية الموضوع بالنقاش وتحدثت عن ضرورة ردع المتلاعبين بالمال العام كما اكدت الجهات العدلية والرقابية على انها ستعمل على تقديم المتلاعبين بالمال العام للعدالة مع الالتزام بالعمل على احكام الرقابة للحد من التلاعب , وقد وجه وزير الدولة بوزارة المالية والاقتصاد الوطنى فى لقاء له مع المحاسبين بان ينطلقوا من مركز قوة وان يتعاونوا حتى لايأتى الاخفاق من قبلهم وان يقوموا بدور المراقب والموجه ,,, و هذا الامر من المستحيلات فى ظل قوانين لا تحمى المال العام ولا تحمى المراقب المالى .
كل الجهات التى تناولت موضوع الحسابات والاعتداء على المال العام لم تستطع الوصول الى العلة الاساسية من وراء ما يحدث من تجاوزات , فالحديث عن احكام وعقوبات رادعة للمتلاعبين لم يكن سوى مسكنات ومهدئات وهى ليست الجرعة الاساسية لعلاج المرض .
على السيد الامين العام ان يذكر الحقيقة ولا يخاف لومة لائم والا فانه يودى دور بطانة السوء التى جلبت لنا كل هذه الازمات فقد اهملت الحكومات المتعاقبة ديوان الحسابات الذي يناط به حفظ حسابات الدولة ورقابتها ابتداءاً من اجراء اول قيد فى اصغر مصلحة حكومية مروراً بكافة العمليات المالية والحركات النقدية انتهاءاً بالميزانية العامة للدولة , اهمل هذا الديوان وتم تدميره تماماً واصبح وضع المسئولين عن رقابة حسابات الدولة مجرد اكمال للهيكل الوظيفى للوحدات الحكومية , فهم لاينالون التدريب المناسب و لايستطيعون اداء واجبهم نسبة لتحجيم اللوائح الموضوعة لدورهم كما اصبحت مهنتهم لاحياة لها و من افقر المهن من ناحية المخصصات المالية والوظيفية بالرغم من ان الاموال تجرى كالانهار من منابعها الى مصبها من تحتهم وبين ايديهم ولا يملكون سوى وضعها عهد باسم فلان او تعليتها امانات باسم فلان .
السبب الاساسى من وراء تزايد الاعتداءات على المال العام يكمن فى امر واحد هو اهمال ديوان الحسابات تلك المؤسسة المناط بها رقابة الحسابات , فقد اهمل الديوان بغطاء عينيه وخنقه بما يسمى باللوائح المالية التى تلزم المراقب المالى بالانصياع للمسئول فى الوحدة حتى ولو قال صراحة انه يريد ان يعتدى على المال العام , فمن اهمل هذا الديوان ولمصلحة من ؟ اهو المحاسب الذى ليس فى يده شيئ ؟ ام جهات اخرى ولماذا ؟ ,, ان اهمال هذا الديوان وهو المسئول عن رقابة المال العام لايمكننا تفسير مقصده سوى ان يكون امر المال العام (سائباً) وان لا تكون هناك رقابة من قبل محاسب او مساءلة من قبل قانونى , وان لم يعلم هذا الامر السيد الامين العام لاتحاد المحاسبين فعليه ان يتنحى عن هذا الموقع ,, وان كان يعلم بهذا الامر فعليه ايضاً ان يتنحى عن هذا الموقع لانه لم يعمل من اجل اظهار هذه الحقيقة ليتم الاصلاح الشامل على ضوء معرفتها .
لقد اهمل ديوان الحسابات باهمال اداراته العليا وجعلها عمياء صماء بكماء وقد حرمت من المبدعين والذين ينادون بالتطور و التجديد وادخال التقنيات الحديثة الامر الذى جعل هذه الادارات مشلولة لا تستطيع ان تفعل شيئاً.
لقد اهمل ديوان الحسابات باهمال اعضائه وعدم مساواتهم بالعاملين بالدولة وعدم وضوح تدرجهم الوظيفى وحرمانهم من التدريب الداخلى والخارجى الامر الذى جعلهم يهجرون المهنة ومثال ذلك ان خريج المحاسبة من احدى الجامعات يظل قابعاً فى درجة وظيفية واحدة لاكثر من 8 سنوات بينما زميله من نفس الجامعة يتدرج فى مصلحة حكومية اخرى اكثر من اربعة تدرجات فى نفس الفترة , ناهيك عن تعدد العلاوات للمهن الاخرى وحرمان خريج المحاسبة منها حتى تشوه الهيكل الراتبى للدولة ولم تستطع اللجان المختلفة من ازالة مفارقاته , واخيراً تم خنق ديوان الحسابات المسئول عن رقابة حسابات الدولة حتى الموت وذلك بجعله ادارة عامة فى وزارة المالية مثلها مثل ادارة الارشيف .
ان المنتسبين الى مهنة الحسابات ( ومنهم السيد الامين العام ) تقع عليهم مسئولية عظيمة تبدا برفع صوتهم عالياً لاعادة الهيبة للديوان حتى يتمكن من اداء واجبه ووقف العبث الذى يحدث , عليهم التفاكر حول اعادة النظر فى اللوائح المالية التى تهمش دورهم , عليهم العمل على رفع ظلمهم لقيادة الدولة لمساواتهم بالعاملين بالدولة , عليهم ان يفرضوا انفسهم كجهة اصيلة فى وضع القوانين واللوائح المالية والحسابية للدولة ولا يرضوا فقط باسقاطها عليهم , وعليهم قبل كل هذا التشبع والتسلح بمعرفة العلوم المحاسبية والقانونية التى تمكنهم من الوقوف بقوة وصلابة لعكس مطالبهم والدفاع عنها , لقد ظل ديوان الحسابات بنظامه القديم قابعاً فى مكانه منذ زمن بعيد ولم يشمله التطور الذى لمس كل الجهات , فتطوير العمل الحسابى للدولة ممثلاً فى ديوان الحسابات يحتاج الى ثورة تحرك كل شرايينه واوردته بداية بالحصر الاحصائى الشامل لمعرفة العددية الوظيفية المكونة له وهل هى كافية ام انها زائدة عن الحاجة وهل تتمتع بالمعرفة والتدريب اللازمين لادارة حسابات الدولة وحفظ المال العام وحمايته , كما يجب ان تطال هذه الثورة قوانين ولوائح العمل المالى والحسابى .
وحتى يكون ديوان الحسابات على قدر المسئولية فى مراقبة وحماية اموال الدولة يجب ان تكون هناك ثورة فى مجال التشريعات واللوائح وشئون العاملين واهم من ذلك يجب ان تكون هناك ثورة فى مجال تقنية المعلومات تبدا بتغيير المفاهيم السالبة ومن ثم تغيير الانظمة فادارة الحسابات فى الوحدات الحكومية المختلفة هى الادارة الوحيدة من بين كافة الادارات التابعة للدولة التى لم تستفيد من التقنيات الحديثة فى عملها , فالاسباب الرئيسية من تاخير قفل حسابات الدولة واعداد الموازنات وبرمجة الدفع والصرف مرجعها الاساسى هو العمل بالانظمة التقليدية القديمة وعدم الاستعانة بالنظم الحديثة كما انها ساعدت فى تفشى الاختلاسات والتعدى على المال العام نسبة لتطور اساليب التعدى والجريمة وعدم مواكبة الحسابات لهذه التطورات .
هناك بعض المحاولات من جانب المسئولين فى وزارة المالية لادخال الانظمة الحديثة لتطوير الوزارة التى من ضمنها ديوان الحسابات لكن هذه المحاولات لم ترى النور خاصة فيما يلى جانب الحسابات والعلة الرئيسية فى ذلك هى عدم اشراك المحاسبين فى مثل هذه الاعمال وعدم مشاورتهم عن كيفية الاستفادة من استخدام التقنيات الحديثة لتطوير الحسابات .
الجلوس فى الاجتماعات مع المسئولين فى الدولة يجب ان لاينسينا ان نقول قولة الحق فالمسئولية عظيمة يوم القيامة , فالسلب والنهب والاعتداء على المال العام فى الدولة ليس فقط مسئولية المحاسب الضعيف ومثل هذه التصريحات التى تصدر من شخص ينتمى الى هذه المهنة ان لم تزيد شهية المتلاعبين بالمال العام فانها قطعاً لن توقف تلاعبهم ..
ان الاعتداء على العقول اخطر من الاعتداء على المال العام لانك ان اصبتنى فى جيبى خير من ان تصيبنى فى عقلى , فعندما يظهر مسئول على الملأ ويقول قولة بعيدة عن الواقع ليس لنا الا ان نقول انه فعل ذلك اما ارضاءاً لمسئول جلس معه او طمعاً فى وظيفة ! فماذا نسمى هذا الا يعتبرهذا تقصيراً وغشاً وتعدياً على عقولنا مثله مثل من تعدى على المال العام واكثر , اننا نحلم بزمن نسمع فيه تصريحاً ونصدقه بالواقع .
فى الختام اقدم بعض المقترحات التى من شانها العمل على تطوير ديوان الحسابات والرفع من كفاءته لأن فى ذلك حفاظاً على هيبة الدولة فيما يختص بالمال العام :
1. الحصر الشامل للمنتسبين لديوان الحسابات لمعرفة العدد الكلى والامكانيات .
2. النظر فى اعادة اعداد اللوائح المالية والتى تهمش دور المراقب المالى وتلزمه بتنفيذ التوجيهات المالية حتى ولو كانت خاطئة او فيها اعتداء على المال العام .
3. اعادة ادارة المراجعة الداخلية الى حظيرة ديوان الحسابات واعادة مهامها فى مراقبة وتفتيش ومراجعة الحسابات والارانيك المالية قبل الصرف او استحداث ادارة بالديوان تسمى ادارة المراقبة الداخلية لمراجعة الحسابات والارانيك المالية قبل الصرف .
4. انشاء وحدة بداخل ديوان الحسابات تعنى بتقنية المعلومات ومدها بالكوادر المقتدرة للعمل على ادخال التقنيات الحديثة فى ادارات الحسابات والشئون المالية فى الوحدات الحكومية المختلفة و ذلك بتحويل كافة الدفاتر المالية والارانيك و المستندات المالية الى مستندات الكترونية .
5. العمل على ابتعاث المنتسبين لديوان الحسابات للدراسات العليا فى الجامعات داخل وخارج السودان اسوة ببقية العاملين بالدولة .
6. تطوير معهد الدراسات الحسابية بادخال مقررات حديثة تشتمل على تقنية المعلومات مع تطوير المناهج و اسلوب وطريقة التدريس وسياسة القبول .
7. توعية مدراء الادارات بالوحدات الحكومية المختلفة من غير المحاسبين والذين يشرفون على الادارات المالية باهمية دور المراقب المالى واهمية معرفة اللوائح والاجراءات المالية والتقيد بها .
8. مد الديوان بالكوادر الجامعية التى يفتقر اليها مع تحسين المخصصات المالية والوظيفية لهم .
9. النظر فى اعادة هيكلة الادارات المختلفة لديوان الحسابات وتغذيتها بالكوادر المقتدرة والتى تحمل المؤهلات العلمية العليا .
10.اقامة دورات تدريبية فى العمل المالى والحسابى لمدراء الادارات والوحدات الحكومية من غير المحاسبين لترقية وعيهم فى مجال الحسابات والمامهم باللوائح والقوانين المالية واجراءات العمل المالى والحسابى للدولة .
صلاح الدين حمزة الحسن
لاهاى – هولندا