لعبة القوى الكبرى للحصول على الأجندة التاريخية للإستعمار لم تتغير ولن تتغير ما دام الربح هو اساس علاقات الدول
في الـذكـرى 108 لسقـوط امدرمـان في يـد الغـزاة الإنجـلـيز2 سبتمبر 1898م:
التحية لشهداء كرري الذين ماترددوا لحظة للموت في معركة غير متكافئة وباخطاء فادحة من القيادة في التكتيك والإستراتيجية ولكن تلك القيادة قد غسلت اخطأها بدماءها الطاهرة. ونحن نحنى هاماتنا اجلالاً لتلك الفئة النادرة من الشجاعة والجسارة وقوة الإيمان بالقضية شهادة سجلها العدو "والفضل ما شهد به الاعادي".
لقد وضع المجتمع الصناعي المتخم بالانتاج البضائعي والجائع النهم الذي لا يشبع نصب عينيه الحصول على المواد الخام والاسواق وبأي ثمن فتعاقدت البلدان الصناعية منذ مؤتمر برلين على آليات لتسوية نزاعات الأنانية المغلقة القائمة على الحصول على أعلى معدلات الربح وتفننت في انتاج نظام عالمي قائم على الإعتراف بالقوة الغاشمة فقط وبدأت خطوات القانون الدولى مسارها في اطار تنظيم النهب الاستعماري حق المعاهدة اولاً تأتي شركات قابضة تؤسسها الحكومة وتدفع لها اموال مكتتبة ثم تشتري خدماتها بنسب حجم الاسواق التي تفتحها هذه القاعدة وهذه الشركات امتدت من اسيا شرقاً وحتى غرب افريقيا ومن الجزائر شمالاً وحتى استراليا مروراً بجنوب افريقيا اسست عملها على ما تعارفت عليه بانها رسالة ثلاثية الأبعاد تحمل كلماتها الحرف س الانجليزية في اولها (Three Cs) وهي بالعربية تكون (الحضارة + المسيحية والتجارة) واعتقد انها البديل السحري الذي ينتشل الإنسان في تلك البلدان الأسواق.
وتقوم هذه الشركات بشراء السيادة على الاراضي باتفاقيات مع شيوخ القبائل وحكام الامارات الافريقية مقابل الخمور والاسلحة الفاسدة والقديمة ومقابل القبول بالتجارة في المواد الأولية والغاء تجارة الرقيق. اي استبدال نوعية الاسترقاق من الاسترقاق المباشر الذي مارسته الشعوب الافريقية في علاقة الحاكم والمحكوم ومع جيرانها من المسلمين وغير المسلمين.
ان اسلوب الاستعمار غير المباشر عبر الشركات القابضة يحول قضايا المستعمرات لقضايا منافسة تجارية لاهبة تجعل الصراع بين هذه الشركات في مناطق نفوذها مشاكل سياسية داخل البلدان الاستعمارية نفسها فكم مرة سقطت حكومة بريطانية في اتون مثل هذا الصراع بين المحافظين واللبرالين. وكذلك تقوم حروب بين البلدان الاوربية تحت مظلة حماية المواطنين والشركات وعندها يتطلب الأمر ادماج معامل تدخل الدولة بجيوشها لحماية مناطق النفوذ وعن ذلك في خواتيم القرن التاسع عشر مبدأ حق الفتح "وهو كان قد قنن ولم يستخدم على نطاق واسع ايضاً في مؤتمر برلين". وحق الفتح هذا فرض الوصول بالجيوش لمناطق اما استعصت على الشركات او كانت فيها المنافسة بين الشركات تؤثر على توازن القوى اما داخل البلد الإستعماري الواحد او البلدان الإستعمارية مع بعضها البعض وتمّيزت الفترة بين 1876 الى 1912م المعروفة بعصر التكالب على افريقيا ففي هذه الفترة اشتّدت المنافسة بين فرنسا وبريطانيا وايطاليا والمانيا وحتى بلجيكا في افريقيا وسيطر مشروعان كبيران في بريطانيا مشروع الكاب الاسكندرية (شمال / جنوب) وفي فرنسا مشروع جيبوتي – السنغال (شرق / غرب). وبالتالي يتقاطع المشروعان في السودان.
ظل هذا الجو الإستلابي والذي يشعر المرء بان بلادنا تحاصرها الذئاب لتفترسها كانت اكبر معامل لسقوط السيادة الوطنية هو تفكك القوى الوطنية تلك الوحدة الرائعة التي لحمها الفكر الفذ والممارسة الثورية الصارمة في النفس والرحمة والتكافل والالفة بين القيادة التي صنعها الإمام المهدي وأضاعها الخليفة.
بدأت حملة كتشنر مباشرة بعد سقوط الخرطوم واستمرت هذه الحملة تتقدم وفق مسار وتداعيات احتياجات السياسة البريطانية التوسعية وصار مقتل غردون قميص عثمان الذي يحرك به دهاقنة السوق رغبات التوسع الاستعماري فما يسمى بالانسانيين (Humanitarians) ينفخون في الشعور "الانساني" بان غردون سقط وهو يكافح تجار الرقيق (في حين ان غردون نفسه من اكبر تجار الرقيق وفق ما ذكرته جمعية محاربة الرق وتجارة الرقيق) واما القوى التجارية فقط كانت تنظر للأمر من زاوية حماية المصالح البريطانية في مصر وحسم المنافسة مع فرنسا والمانيا وتأمين قناة السويس وجنوب البحر الحمر. والبعد الثالث هو التنازلات الإستراتيجية لتعزيز علاقات الأطراف الإستعمارية فقد ظل كتشنر قابعاً في حلفا منتظراً تقدم الخط الحديدي ولكن فرضت مجريات الحرب الايطالية الاثيوبية ان تطلب ايطاليا من بريطانيا تحريك قواتها لداخل السودان لمنع أي تحالف محتمل بين اثيوبيا والسودان . تمزق الجبهة الداخلية هو الذي اكسب كتشنر الوقت ليحدد زمان ومكان المعركة تمزق الجبهة الداخلية وفقدان الثقة بين الحكومة وكافة الزاعمات الوطنية الأخرى اوصل الحكومة لدرجة من العزلة جعلت ان بعض كبار قادة الانصار وخاصة الفئات التجارية صاحبة المصلحة في الاتجار مع مصر وعبر البحر الاحمر ان تتعامل مع مخابرات الجيش البريطاني في عمليات فقد الثقة في النفس الموجهة ضد الجهاز الحاكم واحساسة بفقدان الأمن فكان تهريب سلاطين والاب اهولدر من عمليات الحرب النفسية باننا نستطيع نصلك حتى في قلب امدرمان. ويقال ان الخليفة منذ هروب سلاطين اصبح يشك في الجميع وظل يردد انه لن يثق في احد بعد ..... الذي وثقنا فيه فقام بتهريب "الكافر عدو الله" الى اخر التفاصيل والاسماء اوردها سلاطين والاب اهولدر.
انشغال الخليفة وكافة التيارات السياسية داخل وخارج الدولة منع القيادة من رؤية الامكانات المتاحة. كان تقدم كتشنر وعلى مدى اكثر من سنتين وحين نقارن بين ما حل بجيش هكس باشا منذ ان وطئت اقدامه شرق السودان وحتى الابادة الكاملة له في غابة شيكان نرى الفرق بين اسلوب قيادي عند الامام المهدي حين اعتبر ان مسار الحملة يوفر له اكبر مساحة من الدعاية لتوحيد الجماهير عبر هذا الطريق من الشرق الى الغرب ان ابادة هكس هي التي اوصلت قوات المهدية لاعداد لم يسمع بها من قبل جمع المهدي حوله كل قادر على حمل السلاح او مسلحاً هذا التفكير القيادي في الوحدة الوطنية حول هدف وطني هو تدمير الغزاة والمحتلين هو الذي صنع نجاحاً داوياً ضد ايدولوجية الخلافة العثمانية التي تستعمر المسلمين وضد الاستقلال عن الخلافة وتحاول ان تجعل السودان ضمن ممتلكات الخديوية. هذا التفكير هو الذي صار مفارقة بين قيادة المهدي والخليفة والمتغير الوحيد هو اسلوب القيادة فنفس القادة الذين قادهم فكر المهدي ورؤاه الحميدة هم الذين شتتهم سياسات الخليفة وبدلاً من وحدة الارادة تجاه الوطن والعقيدة صارت العقيدة عبئاً على الوطن وصارت احدى ادوات التفرقة بين المسلمين.
ورغماً عن ذلك لم يفقد الرجال الأفذاذ رباطة جأشهم ولم يتهربوا او يدعوا المرض او التخزيل او كلما يشين المرء ذو العزة والانتماء ويمثل نكران الذات وتحدي الموت عند الاختيار بين الاستكانة والحياة.
كما قال الشاعر:
ليس الميت من مات فاستراح بل انما الميت ميت الاحياء
هذا النفر الكريم لم يقل ان القادة لم يوفروا له السلاح والعتاد ففروا (انظر الرسم لبدء الهجوم) وكان العدو قد اختار الميدان ونصب المدافع والبنادق سريعة الطلقات انها البطولة العمياء. قاد الهجوم الشهيد الامير عثمان ازرق وبعد اربعة ساعات لم يمت اشرف الرجال بل ماتت سمعة المهدية التي انطلقت كالسهم بين 81 – 85 فالهبت المشاعر واججت الايمان بالوطن الجديد الذي تحرر من الاستعمار التركي المصري ودخل كتشنر امدرمان واستبيحت المدينة واغتصبت النساء . ولم يطالب وزراء حكومات عديدة منذ الاستقلال بتقديم كتشنر لمحكمة جرائم الانسانية فقد استعمل اسلحة محرمة وموصوفة باسم الدمار الشامل انذاك واستعمل جنوده الاغتصاب كسلاح حرب في امدرمان لمدة ثلاثة ايام.
ورغماً عن ذلك ولأننا شعب متحضر يعرف ان يسامح ولكنه لاينسى وفي حالة دولة الخليفة التي ازاقت الناس الامرين وبرع كتاب التاريخ من منظري الاستعمار في ايهام الشعب السوداني بان الخليفة قاد الصراع ضد اولاد البحر لتأكيد سطوة اولاد الغرب حتى جاءت رسائل الدكتوراة – في الستينات والسبعينات – ممن درسوا المهدية في اقاليم السودان وعلى رأسهم المرحوم موسى المبارك فابرزوا ان دولة الشمولية لا تعرف ذي قربى ورحم تعرف فقط ان ينحني الناس للاستبداد فقد بعث الخليفة عبدالله عامله عثمان جانو بتعليمات واضحة ضد التعايشة اما ان يتركوا ارضهم وكسب عيشهم ويتجهوا لامدرمان واما الموت لهم والدمار والسبي للنساء والأطفال (راجع تاريخ دارفور السياسي).
ودخل رسل الحضارة والانسانية والتجارة والمسيحية وبعد ان فاقوا من نشوة الانتصار. وبدأت مرحلة من القطع لتاريخنا الوطني. لم يعد خريجي الخلاوي والسبابة وصغار المنتجين (الجلابة) والحرفين والجهادية هم طليعة المجتمع. بل فتحت المدارس المدنية والعسكرية شقت السكك الحديدية واقيمت محطات الكهرباء ودخل العمال والموظفين في الدواوين دائرة الضوء الاجتماعي وصارت الفئات التجارية تابعة للفئات الحديثة المدنية والعسكرية والتي سرعان ما ادركت ان مصالحها في الدولة الجديدة التى اقامها الاستعمار وهي التي سترت هذا الجهاز العجيب – السلاح ذو الحدين الذين يمكن ان يتسع في رؤاه ليشمل مصالح الشعب السوداني (القاعدة العريضة للمجتمع وهي جماهير المزارعين والرعاه والعمال) ويمكن ان يضيق ليس فقط مصالح خريجي المدارس المدنية والعسكرية.
فجاء الاستقلال في يناير 56 وخرج الانجليز كاحتلال ولكن تطورات الثروة المتخمة والتراكم للرأسمالي في داخل البلدان الرأسمالية نقل قيادة الدولة الرأسمالية من ايدي الفئات الصناعية الى الفئات المالية ولذا لم يكن لديها مانع في ان تنهي الاحتلال كوسيلة مباشرة لنهب الشعوب واستخدام الأموال في شكل قروض وهبات لضمان الاسواق فاضيف لحق الفتح وحق المعاهدة حق جديد اسمه حق الصرف.
اذن لم تتغير اهداف الاستعمار وانما تغيرت الوسائل – رغماً انه لم ينسى ماضيه الدموي وكثيراً ما يعود لهذا الماضي كما يحدث في العراق وافغانستان حالياً.
ولننظر لما حقق من مكاسب بحق الصرف في اتفاقيات السلام.
مغانم النظام العالمي في اتفاقية السلام تمكين برامج اعادة الهيكلة والخصخصة في الشمال والجنوب باساليب اقتصادية وعسكرية:
نعلم جميعاً القول المأثور بان مصائب قوم عند قوم فوائد وحول هذا المعتقد العام يتم نسج صيغ استلابية مهمتها استدامة مصالح السوق العالمي وقواه المتنافسة. فالتكالب على الأسواق خاصة في بلدان العالمين الثالث والرابع هي التي تعطي وحدة المنافسين والتي حالما تتناقض تلك المصالح يظهر المسروق. ونضرب مثلاً بحماية الاسواق فنظرياً وحرفياً فان مبدأ الحماية يتعارض مع مبدأ حرية الأسواق وننظر حولنا فنجد ان اكبر سوقين ظهرا في التاريخ حتى الآن هما السوق الاوربية والسوق الاميريكية تتعارك وتتفنن في اساليب الحماية لا للمنتجات التقنية العالية فحسب بل وحتى المنتجات الزراعية والمواد الخام مثل الفولاذ والصلب. ويكفي ان نشير هنا الى الولايات المتحدة رصدت مائة واثنين وثلاثين بليون (فقد ولى زمن المليون) لدعم المنتجات الزراعية وذلك في شكل اعفاءات ضرائبية ودعم لسوق الصادر وتذاكر غذائية في السوق الداخلي.
وفي الوقت الذي تدعم هذه الحكومة المنتجات الزراعية ( وهي تمثل فقط 14% من الدخل القومي ويعمل بها فقط 3% من السكان) يمنع ذلك على السودان الذي يعمل اكثر من 70% من سكانه بالزراعة وتمثل المنتجات الزراعية اكثر من 60% من الصادارات. بل حتى لا يسمح للشعب السوداني بان يستمر في تناول الذرة الرفيعة – المنتج الزراعي الأول – والذي يمثل الغذاء الرئيس لأكثر من 80% من الشعب. وابجديات السياسة الإقتصادية المنتمية للشعب (ولا نقول المنحازة) هي ان لم ندعم منتجي الذرة من الكساد والبوار وذلك بمنع استيراد الذرة ورفع اسعارها من خلال الدعم – مدركين لصعوبة المواصلات – حيث يسعى المنتج لسوق التصدير لانها اقل تكلفة واكبر عائد – في مناطق الندرة والشح – فالسودان لم يكن في يوم من الايام – حتى اشد سنوات القحط سواداً- ينتج اقل مما يكفي احتياجات مواطنيه من الذرة – ولكن لازالت هناك مشكلة توزيع حيث يكون الفائض في مناطق الانتاج هذا ما تسميه الامبريالية بشرها المعهود – النقص في الغذاء – وتتنافس البلدان الأوربية والولايات المتحدة في انتاج اكذوبة نقص الغذاء في السودان (راجع تقرير اليكس دى فال حول الأجندة العملية للاعاشة والاصلاح في شمال السودان على موقع المعونة الاميريكية) حيث من تسعة توصيات للمعونة اربعة تتعلق بنقص الغذاء في الفترة الانتقالية مما يعني ان المعونة الاميريكية – ستنفق كل ما اعتمدته للسلام (او جله) على هذا النوع من المساعدات وخاصة انها اصرت في اجتماع المانحين على ان تدير اموالها بنفسها. هذا ما يلى المال الامريكي المباشر.
المغانم الاميريكية باساليب غير مباشرة:
المعروف هيمنة الولايات المتحدة على البنك الدولى وصندوق النقد الدولى ومنظمة التجارة العالمية بسبب هيمنتها على سوق الأوراق المالية بواسطة الوضع الفريد للدولار وحتى لا نغرق في التفاصيل فاننا نشير الى الوضع في شكل كبسولات حيث:
1- ثلثا الاحتياطات كافة في العالم في التبادل الرسمي موضوعة بالدولار.
2- اربعة اخماس التبادلات العالمية ونصف خبراء العالم متخصصون في الدولار.
3- كافة القروض التي يقدمها البنك الدولي والصندوق بالدولار.
4- النتيجة من اي دولار خارج الولايات المتحدة يعود اربعة سنتات يومياً لخزينة الاحتياطي الفيدرالى.
وتحت هذا الوضع الاستثنائى يتضح ان كافة الأموال التي خصصها اجتماع اوسلو للمناحين ستمر عبر المصالح السياسية للولايات المتحدة. وكما يقول السودانين (احمد وحاج احمد) فان ما سمي بصناديق اطراف المنح المتعددة والتي سلمت للبنك الدولى ليديرها البنك الدولى (راجع مذكرة التفاهم حول الصناديق متعددة المانحين على موقع البنك الدولى بالانترنت) فهذه الصناديق وهي واحد للشمال او المناطق المتأثرة بالحرب في الجنوب وعلى الأخص ابيي وجبال النوبة وجنوب النيل الازرق يجب علينا الان ان ننظر في الكيفية التي سيدير بها البنك الدولي هذه الصناديق وفق ما جاء في مذكرة التفاهم حيث المحصلة النهائية هي تكريس مبدأ الشمال والجنوب وفق مذكرة التثبت الاقتصادي واعادة الإعمار وهي صادرة عن البنك في 30/6/2003 (الفين وثلاثة للتأكيد حتى لا يعتقد القارئ ان هناك خطأ في الارقام). هذه المذكرة هي التقرير القطري للبنك وقد تم نقلها بحذافيرها مع اختلافات طفيفة هنا وهناك في وثيقة الـ JAM (فريق عمل التقييم المشترك). وهي تقييم يفترض ان يكون قامت به فرق مشتركة بين البنك الدولي وصندوق الأمم المتحدة للانماء وحكومة المؤتمر الوطني والحركة الشعبية.
هل كان مستوى الاداء المتقدم والمعلوماتية المنسجم مع اقصى درجات البحث العلمي المنسجم مع المصالح الوطنية الذي يمثله البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لا يكفي ليعطي النظام العالمي كل ما يريده حتى نضيف له ان كان من جانب الحركة او الحكومة او منظمات المجتمع المدني اشخاص (الضعف الذاتي) لم يفكروا للحظة في ان عائد السلام لا يعني فقط وقف القتال بل يعني استدامة التنمية حتى لا ينتكس السلام. ففريق تحديد الاحتياجات الوطني في الشمال قد استخدم كطعم لصيد حكومة الجنوب – للانزلاق في نفس سياسات سوق الافقار اللتي مارستها حكومة 30 يونيو. فسياسات السوق المرهونة لصندوق النقد الدولى استخدمت اساليب برامج اعادة الهيكلة والتي حين يعتمدها الصندوق – عبر تفاوض- يتحمل عبء تغطية المظلة الاجتماعية كانت تلك هدية الانقاذ للصندوق بان قام بالخصخصة واعادة الهيكلة ودمجها مع مقتضيات الاحتياجات السياسية فادخل لأول مرة جهاز الدولة بشقيه المدني والعسكري في دائرة الولاء الكامل للسلطة السياسية كأساس لتصنيف المواطنة. وارتفع معدل الفقر من 25-30% في عام 1989م الى 85% في 1995م. واستمر نهج السياسة المالية الكلية المعادي لمعيشة الشعب بادخال اساليب المشاركة في التكلفة في التعليم والصحة والمياه. بل ان ولاية الخرطوم والتي يقيم بها 26% من سكان السودان ويمثل هؤلاء 70% من سكان الحضر في السودان وادخلت بدعة التمويل بالعجز مع رفع وتائر الضرائب مما فرض واقع استثمارات حكومية في الطرق – وهي لصالح قوى السوق والمظهر العام للتنمية الطفيلية – يقع عبء سدادها على المواطن في حين ان دخل الفرد لأغلبية سكان الولاية – تأتي من القطاع الهامشي وغير المنظم – وهو على مرّ التاريخ قطاع اعاشي وليس ادخاري – هذا كرّس اما التخلف الموروث بان يتدهور تعليم البنات – لان دفع الرسوم تجعل الأسر تفضل ان تعلم الاولاد وحتى بين الاولاد يتم انتقاء واحد او اثنين للمدرسة وهؤلاء عليهم بالاضافة للذهاب للمدرسة القيام باعمال هامشية. فخدمات المياه رغماً عن الضرائب العالية عليها (فقط مع مطلع هذا العام تم رفع فاتورة المياه بنسبة 50%) لم تقم الولاية بالخرطوم والحكومة الاتحادية بالاستثمار في الولاية فبقيت المياه من الماسورة الى داخل المنزل في 30-35% فقط من المنازل و65% يجلبون الماء بالبراميل ان 15 – 20% مما استثمرته الولاية في الطرق الداخلية (بالفساد الذي يزكم الانوف) كان كافياً ان يأتي بعائد مالي باسعار ما قبل الزيادة الحالية ويحدث فائضاً يساعد في تنمية البنية التحتية. وتتميز الخرطوم عن كل المدن الافريقية (المحترمة) بغياب القطار والترام او مترو الانفاق لأن مثل هذا التمويل طويل الأمد والضخم لا يمكن ان تقوم به ما يسمى الصيغ الاسلامية فهذه الصيغ هي لصالح التجارة ومضادة للبنية التحتية الحديثة والمتمثلة في الصناعة والمواصلات والكهرباء والمياه. اذن لدينا مافيا تجارية تعمل باهداف قصيرة الامد وتعادي التنمية واستدامتها وللأسف باسم الاسلام والمسلمين. وهي تركيبة شاذة حتى بمقاييس التعامل الموضوعى مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولى,
هذا القصور الفاضح في معارف وخبرات الكوادر بالاقتصاد السياسي لاقتصاديات السوق اي نقص وعيها لأي نوع من سياسات السوق يحتاج السودان في شماله وجنوبه وشرقه وغربه. كيف في العصر الذهبي لرأس المال المالي نقبل فقهاً لا يميز بين الربا (في القرون الوسطى) والربا في ظل رأس المال الاحتكاري. ان أي تلميذ درس في أي من الجامعات ذات المناهج العلمية المنضبطة يعلم ان النقد – منذ ادم سميث هو نفسه بضاعة ولديه مدخلات من الورق والاحبار والتصميم والماكينات ولديه شبكة توزيع وبالتالي هو الاستثمار الأول لأي دولة. واذا كانت هناك سلعة ذات عائد فهي الاوراق المالية وميزتها على اي سلعة اخرى هي انها تعود بالكامل لصالح الدولة (أي المجتمع). فمعدل سعر الفائدة في اقتصاديات السوق الحرة هو المعيار في ابطاء او اسراع دورة رأس المال فكيف نقارن بينها وبين نظم المراباه التي منعها الدين وهي نظام الشيل مثلاً. وهو الفائدة المركبة على اصل الدين وفي نفس الوقت استغلال حاجة الدائن عند تقييم منتوجه بابخس الاثمان او ادناها مقابل تعظيم العائد من الدين وللسخرية فان الدولة السودانية ظلت تدفع فوائد مركبة على اصل ديونها ويتطلب الامر للتوضيح التوسع في مسألة الغرب والديون الافريقية لنرى ان الدين الوطني البالغ 22 بليون دولار يتضح انه هائل اذا علمنا ان دخل الفرد في السودان 380 دولار في افريقيا (308) ويمثل الدين على الفرد حوالى 220 دولار مقابل (355 في افريقيا).
ويساعدنا البروفسير جافين كابس Gavin Capps من مدرسة لندن للاقتصاد London school of Economic في مقالته بعنوان " اعادة تصميم شرك الديون" ويذكر ان افريقيا جنوب الصحراء استلفت في 2001م 11.4 بليون وكان هذا ولايزال خصماً على الخدمات المختلفة وظلت اغلب البلدان الافريقية بما فيها السودان تدفع 33% من الناتج المحلي الاجمالى. ان اهم مكسب للغرب ومعلم بارز في مكاسب السلام التي جناها الغرب هو ان برامج اعادة الهيكلة التي يدفع فيها صندوق النقد الدولى IMF اموال طائلة جاءته مجاناً ولم يأت في اجتماع المانحين في اوسلو اي ذكر لإعفاء الديون سوى خديعة المنح والتي من المعروف انها تعود ادراجها في شكل سلع وخدمات ويكفي الاشارة الى ان برنامج الأمم المتحدة لدرء الكوارث في كل سنوات الحرب لم يستطع ان يوفر اكثر من 35 – 40% من المطلوبات السنوية ولم تخرج كل تلك الاموال البالغة اكثر من ثلاثة مليار دولار عبر عملية شريان الحياة من بضائع وايجار طائرات ورغماً عن الادعاء بان العملية عملية انسانية بحته إلا أنها كانت تغطية لسوق السلع والخدمات وبقى جنوب السودان حيث صرفت اغلب تلك الخدمات – رغماً عن انها تمت تحت اسم الأمن الغذائي للمواطنين المتضررين بالحرب الا انها تركت جنوب السودان خراباً بلقعاً وجعلت من مواطن جنوب السودان رصيداً سهلاً لامراء الحرب في الجنوب والشمال. ويكفي ان نقول ان الغرب منذ عام 1989 عامة والولايات المتحدة خاصة لديهم القدرة والامكانية لتحقيق مثل هذا السلام ولكن ضغط اللوبي الزراعي في السوق الاوربية والولايات المتحدة كان يعتبر مصائب شعب السودان في جنويه وشماله فوائد له.
وبتطور انتاج البترول وجوع الاقتصاديات الغربية للطاقة البترولية جعلت جماعات الضغط من اهل قطاع الطاقة تكسب اذ ان هذه الفئات هدفها الاستراتيجي زيادة العرض من الطاقة في الاسواق وزيادة المخزون الاستراتيجي الدولي وكما قلنا حيثما كان هناك سوق لسلعة استراتيجية فان الفائدة اما مباشرة بتخفيف شراء "نهب" مباشر او اما ان الهيمنة على السوق تعطي ميزة استراتيجية يمكن مقايضتها في اماكن اخرى او مع سلع اخرى في العالم. وحتى لا يتم احساس اللوبي الزراعي بالفاجعة فان ازمة دارفور تمثل تعويضاً جزئياً للسوق المباشر للأغذية.
هل هناك تغيير في اجندة النظام العالمي؟؟
نعني المقارنة بين عصر التكالب على افريقيا وهو عصر الاستعمار المباشر بالاحتلال العسكري (حق الفتح) ثم اضافوا حق الاتفاقية اما الان اضافوا اسلوب هو حق الصرف على الفئات الحاكمة او التي ستحكم من طلائع طبقات المزارعين والرعاة (ممثلى الغالبية العظمى من الشعوب في العالم الثالث) وهم خريجي المدارس المدنية والعسكرية.
ما هي اخر المكاسب والبدع في اتفاقية سلام السودان للنظام الغربي العالمي؟
المعروف ان اللغة العربية هي وسيط التخاطب بين الشعوب السودانية وذلك لأسباب تاريخية. ومقاومة الاستعمار البريطاني في السودان للغة العربية كانت تحديداً لمنع نمو محيط لغوي يوحد الشعب السوداني او على الاقل يبطئ سياسة فرق تسد. والدراسات والبحوث التي اجراها خبراء بريطانيين لمحاولة وقف انتشار اللغة العربية تثير الاعجاب فحتى نهاية الاربعينات كانت الدراسات لكتابة احدى اللهجات المحلية في جبال النوبة لازالت على قدم وساق وكتابة الكتاب المقدس كاداة لنشر المسيحية ولكن يتضح ان اي لغة جنوبية او شرقية او شمالية او غرباوية يعني ان المحيط نفسه لا يزيد ولذا حين ضايقت مراكز قوى الضغط الكنسي ( وهي احد اهم مفاتيح مغاليق الاسواق) لأن الكنيسة تحولت لكنيسة وطنية كاثوليكية او بروتستانية. وقد لاحظنا ذلك عندما اراد الحاكم العام الليبرالي العلماني السير ستيوارت سايمز ان يلغي قانون المناطق المقفولة كتب لحكومة جلالة الملكة قائلاً " لا ارى سبب لأن نغلق تلك المناطق ونتركها لايديولوجية الفلاح الايطالى".
اما في جبال النوبة في الاربعينات حين كتب نادل كتابه الممتاز (والوحيد الذي يعطي الخرطة الكاملة للمجموعات العرقية النوباوية) فقد ذكر ان الجهود استمرت لكتابة اللغة العربية باحرف لاتينية كتنازل لكنية حتى لا يحمل الحرف العربي الثقافة الدينية الاسلامية.
ومن قرأ الدراسات التوثيقية للرعيل الاول من خريجي المدارس المدنية يجدون ان الانجليز حتى كانوا لا يسمحون للاولاد بالتخاطب بلغتهم اثناء اليوم الدراسي وخاصة في غردون فعبدالحليم على طه فصل من الدراسة لانه عندما سئل عن جنسه رفض ان يذكر قبيلته وقال انه سوداني.
وبعد الاستقلال كانت منح الحكومة البريطانية والمجلس الثقافي البريطاني والمركز الثقافي الامريكي تقدم الدعم لوزارة التربية والتعليم لدعم تدريس اللغة الانجليزية وتدفع اموالاً طائلة لنتعلم اللغة الانجليزية فكيف يتم المساواة بينها واللغة العربية مما يعني ان نصرف من المال العام بدلاً عن تطوير اللغات المحلية وخاصة في منهج المدارس الاولية – لأن الاموال اصلاً محدودة ولن تكفي اولويات اعادة الاعمار- مع ما شرحنا من مديونية ومن منح لن يأتي اكثر من 10% اصلاً وما يأتي فسيعود للبلدان المانحة.
ما هو دور الأمم المتحدة في لجم او تسريع هذه المكاسب او تفعيلها؟؟.
الاجابة تعتمد في المقام الاول على السلوك السيادي لمؤسسات الدولة فان تعاملت بالحزم وقواعد الشفافية فان المنظمة الدولية في التحليل النهائي هي مجموعة من الموظفين من المفترض انهم يؤدون وظيفتهم وفق تعاقد مهني فني وتعاقد سياسي دبلوماسي ولا ننسى ان هؤلاء الموظفين "الاميين" تختفي خلفهم مصالح بلدانهم وحالما يتضارب صنع القرار وتتفرق السبل بالمؤسسات الوطنية.
خـاتمـة:
ان علينا نحن خريجي المدارس الذين نجلس على طاولة المفاوضات ونعطي كل هذه المكاسب للنظام العالمي. وللاسف على حساب 70% من سكان السودان العاملين بالزراعة ونفتح ثروات البلاد للنهب المنظم والعشوائي باسم الصيغ الاسلامية مما يسهم في فساد وافساد الـ30% الباقين من اهل السودان سكان الحضر. هل حقيقة اننا لا نخجل حين ندعي انناابناء هذا البلد وسلالة الذين شقوا وفلحوا الارض وبحثوا عن الكلا في الفلاوات والذين كدحوا في المدارس والجامعات ليتخرجوا ثم لا يجدوا الوظيفة اللائقة. ونملأ الارض ضجيجاً عن شعارات خاوية تملأ جيوب الاجانب وتزيد الفاقة والفقر المتفاقم منذ هزيمة كرري ويتم اعادة انتاجه واستدامته عبر اشكال متعددة كلها يقف ورائها خريجي المدارس المدنية والعسكربة. ما تقوله هذه السطور افصح عند المهاتما غاندي حيث استوعب ان الحداثة لا تكون بالارتماء في احضان قوى السوق الاستلابي العالمي بل بحفر محيط سيادي صلد لسوق وطني تتنافس فيه كافة القوى السياسية والإجتماعية وهي متأكدة ان اولوياتها السوق الوطني.
د.الحاج حمد محمد خير