عندما ذكرنا أن العمل النضالي أكثر تعقيداً من أن ينظر إليه بمقياس المفهوم التقليدي للشجاعة الشخصية فإن المعنى المراد هنا هو أن النضال هو عملية صراع إجتماعي سياسي تهدف إلى إحداث تغيير جذري سياسياً و إجتماعياً في واقع بعينه .. و بهذا المفهوم فهو عملية ثورية لها أدواتها و إستراتيجيتها و مناهجها التي تمكنها من إحداث التغيير متى ما نضجت عوامل الثورة و توفرت مقوماتها .. فهو صراع يدور على مستوى المجتمع و ليس على مستوى الأفراد .. و تحكمه قيم إجتماعية و ليس فردية .. و نُقُد كفرد لا قيمة لنضاله ضد النظام إذا اتخذ طابعاً شخصياً .. ولكن قيمة نضال نُقُد تنبع من كون أنه جزء من منظومة سياسية هي بدورها جزء من أدوات النضال الجماهيري وبهذا المعنى يصبح نُقُد كقائد سياسي ليس ملك نفسه و أنما هو ملك الجماهير التي يعبر عن مصالحها .. وهو بالضبط ما قاله الأستاذ أسامة في مقاله الأسبق .. و إذا كان نُقُد ملك الجماهير فإن نضاله يكتسب أبعاداً أكثر تعقيداً من البعد الشخصي .. و ليست هذه فلسفة كما يظن الأستاذ أسامة و لكن نظرة للأمور في إطارها الطبيعي .. و هكذا تصبح تلك الجماهير ذات مصلحة في وجود نُقُد على رأس الطليعة السياسية التي تعبر عن مصالحهم .. و يصبح من حقها عليه أن يحمي دوره النضالي بأن لا يمكِّن النظام الباطش منه ..
من الناحية الأخرى يصر الأستاذ أسامة على أن السجون هي الساحات الوحيدة للنضال .. و هي المعيار لمدى صلاح أو فساد النضال .. و هو منطق عجيب يؤدي الإستطراد معه إلى التسليم بأن نضال الشعب السوداني و طلائعه السياسية لا يستقيم ما لم يدخل الجميع السجون حيث أنها الساحة التي لابد لمعارك النضال من أن تدور على أراضيها .. و أن صك الشجاعة و الوطنية لن يمنحه الأستاذ أسامة لمن لم يذق طعم الإعتقال .. و أن الإرث النضالي لا يؤهل صاحبه للقيادة السياسية أو التعبير عن مصالح الجماهير ما لم يحتوي تاريخه على قضاء السنين في غياهب السجون .. غني عن القول هنا أن هذا المفهوم لعلاقة النضال بالسجون يؤدي إلى تسطيح شديد لمضمون النضال و اختزال مخل لدور القوى الإجتماعية و السياسية في عملية الصراع الإجتماعي ..
إن تعقيد عملية النضال (التي يصر الأستاذ أسامة على عدم الإعتراف بها) تتجلى في تعدد ساحاتها و تنوع أساليبها و تباين مظاهرها .. فالنضال قد يكون نضالاً عسكرياً و سياسياً و اقتصادياً و إعلامياً ..إلخ و لعل أقل ساحات النضال فعالية هي المعتقلات (إن سلّمنا بأنها فعلاً ساحة نضال) حيث أنها في الواقع شلٌّ لقدرات المناضلين .. و لعله من عجائب الأمور أن يحتج الأستاذ أسامة على عدم دخول نُقُد للسجن كشرط للتصديق على أهليته للقيادة و العمل النضالي مانحاً بذلك و دون أن يشعر شرعية للسجون باعتبارها مرجعية في الحكم على مشروعية نضال الشرفاء .. بدلاً من أن يضعها داخل إطارها الحقيقي كأداة من أدوات القهر لدى النظام الديكتاتوري لقمع المناضلين و إحضارهم تحت سيطرة السلطة .. و بالتالي يكون من قبيل التجنّي على المنطق إعتبار السجون ساحة النضال الأولى بدلاً من أداة القهر الأولى .. و إذا أسقطنا هذا المنطق على أدوات القمع بصفة عامة سنجد كل من لم يدخل السجن ناقص الوطنية .. و كل من لم يفصل تعسفياً مشروخ النضال .. و كل من لم يشنق أو يقتل على يد النظام مطعون في شرفه النضالي .. و هكذا نرى أن السجون تتحول على يد الأستاذ أسامة من أداة للقهر إلى مرجعية للوطنية .. مما يقود إلى سؤال يفرض نفسه على مجرى الحوار: ما حكم مشروعية نضال من طلب اللجوء خارج الوطن حماية لنفسه و تفادياً لبطش النظام و ما مدي اكتمال وطنيتهم في عرف الأستاذ أسامة؟!! ..
قبل الخوض في تفاصيل ما حققه نُقُد باختفائه نطرح على سبيل المساجلة سؤالاً معاكساً في الإتجاه على الأستاذ أسامة مضمونه : ماذا كان سيحقق نُقُد على صعيد النضال السياسي و هو معتقل في سجن النظام؟ .. نتمنى أن نرى رد الأستاذ أسامة..
لا يمكن لأحد يستند إلى المنطق السليم أن يقول أن وجود نُقُد في المعتقل كان سيكون أفضل له و للحزب و لقضية النضال بصفة عامة عن ما لو كان خارجه .. أو أن عطاؤه السياسي و النضالي و هوداخل السجن سيكون أكثر عن ما لو كان خارجه .. أو أن فعاليته كقائد سياسي ستكون أعظم و هو خلف القضبان عن ما لو كان خارجها .. أو أن تفاعله مع الأحداث سيكون أجدى و أعمق أثراً و هو في المعتقل ..
إن اختفاء نُقُد عن أعين أجهزة أمن النظام لم يكن عن جبن أو نكوص كما يحاول الأستاذ أسامة أن يغمز .. و إنما عن قناعة بأن ذلك يمثل أفضل خيار لتفعيل عملية المقاومة .. و اختفاء نُقُد عن أعين الأمن لا يعني (كما فهم الأستاذ أسامة خطأ) اختفاءه عن حزبه و جماهيره .. و لا يعني انقطاعه عن النهوض بالمهام الموكلة إليه و القيام بواجبه كزعيم سياسي .. و لو كان الغرض من اختفاء نُقُد هو الهروب وقت الحارة كما يتهكم الأستاذ أسامة لخرج نُقُد من السودان و لجأ لإحدى الدول كما يفعل السياسيون عادة .. و لو كان كل همّه أكل الخضر والفاكهة و......... الزبادي!!!!!! كما يحاول الأستاذ أسامة أن يوهمنا لارتاد فنادق اللجوء الفخمة و استمتع بالخضر و الفواكه الطازجة و الزبادي الفاخر .. لكن نُقُد إختار الإلتزام بقرار حزبه و البقاء داخل السودان لكي يكون ملتصقاً بالأحداث و قريباً من نبض معاناة شعبه .. ولكنه و بقرار من حزبه أيضاً إختار أن يكون بمأمن عن قبضة أمن النظام حتى يتمكن من إنجاز مهامه .. ليس بالضرورة أن يحقق نقد ما يتصور الأستاذ أسامة أنه أنجاز مهم ولكن حسبه أن يكون قد أسهم بدوره في النضال بقدر إمكانياته و إمكانيات حزبه .. و لعله من المناسب هنا التعليق على ما أورده الأستاذ أسامة من أننا اتهمناه باختلاق القصص عن نُقُد .. و نعتقد أن الأستاذ أسامة قد فهم خطأ عبارتنا التي تقول (و تصوير الأستاذ أسامة بأن كل ما كان يفعله نُقُد إبان فترة إختفائه هو قراءة الجرائد و مشاهدة الفضائيات أكل الخضر و الفاكهة لهو تصوير بائس من إنتاج خيال يفتقر للخصوبة و يمسك الغرض السياسي بتلابيبه ) على أنها إتهام له بتلفيق أقوال نُقُد .. و لأننا نربأ بأنفسنا من أن يكون ذلك هو مقصدنا فأننا نشير هنا إلى أن إستخدامنا لكلمة تصوير في عبارتنا السابقة لا تعنى تلفيق و إنما المقصود هنا هو الإشارة إلى انتزاع الأستاذ أسامة لمقولات الأستاذ نقد من سياقها الذي وردت فيه واستخدامها لخدمة الغرض الأيديولوجي في تصوير نُقُد و كأنه قابع في مخبأ آمن يستمتع بأكل ما سبق ذكره و مشاهدة التلفاز و الإنترنت غير عابئ بمعاناة الشعب السوداني من حوله .. مع أن تلك العبارات التي ابتسرها الأستاذ أسامة قد وردت للأستاذ نُقُد في سياق مغاير تماماً لا علاقة له البتة بدور نُقُد السياسي و النضالي .. و من هنا جاء وصفنا للتصوير بالبائس الفقير ..
إن تعسف الأستاذ أسامة في محاولته الخلط بين عبارات نُقُد في الحوار الصحفي عن إيقاع حياته اليومي و بين دور نُقُد السياسي و القيادي و النضالي لهو تعسف ينضح بالغرض والرغبة غير المؤسسة في النيل من قيادة الحزب الشيوعي كيفما اتفق على خلفية الأيديولوجية المعادية للماركسية عموماً .. و ردنا و تفنيدنا لدعاوي الأستاذ أسامة لا يدخل في باب الدفاع الأعمي عن رموز كما يحاول الأستاذ أسامة أن يوهم .. فنُقُد هو شخصية سياسية عامة و ليس رمزاً مقدساً .. و بذلك فهو عرضة للإنتقاد و المساءلة .. و طالما ادعى نقد لنفسه حق التعبير عن مصالح الجماهير فإن من حق الجماهير عليه مساءلته و انتقاد منهجه فيما يمس مصالحها .. و لكننا هنا إنما نعرّي الأسلوب غير المؤسس في النقد و الذي يعتمد على خلط الأوراق .. و نفضح التناول المغرض للتصريحات خارج سياقها لإيراد ما يعتقده أستاذ أسامة أنه أوجه القصور في شخص نقد و أخلاقه و قيمه عوضاً عن أوجه قصور طرحه و برنامجه ..
في معرض تناولنا للـ .. Analogy الماثل بين وجود نقد على قيادة الحزب الشيوعي و وجود مانديلا على قيادة المؤتمر الأفريقي في جنوب أفريقيا لفترة طويلة وجهنا تساؤلاً للأستاذ أسامة عن الحكمة من عدم مطالبة الجماهير في جنوب أفريقيا بتغيير زعامات المؤتمر الأفريقي و على رأسهم مانديلا .. و لكن الأستاذ اكتفى بأن عاب علينا إستخدامنا مثال مانديلا على هذا النحو مبرراً ذلك تبريراً هو غاية في الغرابة .. و هو أن مانديلا يجب أن يُضرب به المثل في النضال من داخل السجون فقط لا غير .. أما السؤال نفسه و الذي يهدف إلى إيصال معلومة مفادها أن العبرة في القيادة السياسية ليست في طول المدة و إنما في الإيمان بالقضية و بذل الغالي و الرخيص لنصرتها .. و أن المهم ليس كم من الزمن بقت القيادات و لكن عما إذا كان بقاؤها نتاج ممارسات ديكتاتورية فإن الأستاذ أسامة لم يتطرق إلى السؤال من قريب أوبعيد ..
إن الأستاذ أسامة يختزل الفكر الماركسي و تاريخ الحزب الشيوعي السوداني و إرثه النضالي و طرحه السياسي في مسلمات أصبحت مضغة الأفواه بين الكثير من أفراد الشعب السوداني .. وقد كنت أتوقع من الأستاذ أسامة كناشط سياسي و مهتم و متابع للقضايا الوطنية أن يكون ذا نظرة تحليلية أعمق مما يتناوله عامة الناس عن الماركسية في علاقتها الجدلية بنماذج التطبيق ..
إن أهازيج النضال في أدبيات الحزب الشيوعي و المفتون بمضامينها الأستاذ أسامة (و له كل الحق في ذلك) و التي تحكي عن الصمود و البسالة هي لسان حال كل من واجه بطش الديكتاتوريات من كوادر الحزب و بذل العمر و الدم فداءاً للمبادئ و القناعات و لكن ليس هناك من عاقل يقول بأنه يجب تسليم الرقاب لمقاصل الجلادين عن طواعية من أجل أن يتغنى بأمجادهم الأستاذ أسامة في مقالاته .. أما إذا نفذ القدر و لم يكن من الموت أو السجن بدٌّ فلن يجد الأستاذ متخاذلاً أو رعديداً بين الصفوف وسيستيقن بأن نُقُد ليس بأقل بأساً من أسلافه في قيادة الحزب .. و قد يجد الأستاذ الكثير في أدبيات الحزب ما يمجد الثبات و الصمود و لكن لن يجد دعوة واحدة تحث على الإلقاء بالأنفس إلى السجون و التهلكة بدعوى أن ذلك من دواعي الصمود ..
ثم أن الأستاذ أسامة لا شك يعلم أن التوجه السياسي العام للقوى و الأحزاب السياسية يظلُّ محكوماً بالأيديولوجيات و المبادئ و القناعات و ليس برؤى و أهواء الأفراد .. و له في النظام الأمريكي خير مثال .. فالرئيس الأمريكي يتغير كل 4 سنوات و لكن السياسة الأمريكية كما هي لا تتغير .. و لكننا في أوطاننا متشربون حتى الثمالة بثقافة أن الفردية أعلى من المؤسسية و نعتقد جازمين بأن الأفراد يستطيعون الإتيان بما لا تستطيعه المؤسسات و أن تغيير وجوه الأفراد الذين على رؤوس المؤسسات كفيل بقلب توجهاتها رأساً على عقب ..
أما فيما يتعلق بما أوردناه سابقاً من أن الظروف الموضوعية هي التي حالت دون ممارسة الحزب لمهامه التنظيمية و عقد مؤتمراته و انتخاب قياداته فأن الأستاذ أسامة يغمز فينا بضعف الذاكرة و هو ينبهنا إلى أن هناك فترتين ديموقراطيتين من 64 إلى 69 و من 85 إلى 89 كان يمكن للحزب خلالها عقد مؤتمراته و تغيير قياداته .. و إذا تجاوزنا عدم دقة الأستاذ أسامة هنا حيث نُقُد لم يكن سكرتيراً للحزب قبل عام 71 و بالتالي لا تنطبق عليه فترة الديموقراطية الأولى .. و حيث أن الحزب كان قد عقد مؤتمره الرابع و انتخب قياداته عام 67 فإنه تتبقى الفترة من 85 إلى 89 و هي ما يعتقد الأستاذ أسامة أنها كافية لإزاحة وجه نقد من قيادة الحزب .. و بداية فإنه من نافلة القول أن الغرض من عقد المؤتمرات الحزبية هو تقييم أداء الحزب و إعادة صياغة منهجه و استرتيجيته بما يتماهى و تطورات المرحلة .. و بهذا الفهم فهي عملية طويلة يتم التحضير لها من خلال جهود دؤوبة و مضنية حتي في عهود الديموقراطية تشارك فيها كل كوادر الحزب و قواعده في مختلف بقاع الوطن و التحضير لها يستلزم عقد الإجتماعات و الندوات و السمنارات و ورش العمل و جمع المعلومات و إجراء الإحصاءات و المسح الإستفتائي عبر التلاقح الفكري مع الجماهير و استلهام تجاربها النضالية .. و أعتقد أن الأستاذ أسامة يتفق معنا في أن ذلك يستغرق بعض الوقت .. و لعل الأستاذ أسامة لا يدري بأن الحزب كان يستعد لعقد مؤتمره الخامس في سبتمبر من عام 89 عندما قطع إنقلاب الجبهة عليه الطريق .. و لعل الأستاذ أسامة أيضاً لا يدري بأن الحزب يستعد الآن لعقد مؤتمره في أكتوبر أو نوفمر القادم و جاري تحديد الموعد .. و كما قلنا من قبل فإن المشكلة لا تكمن في طول المدة التي تمكث فيها القيادات على رأس الحزب بل العبرة بمدى فعاليتها و تجاوبها مع الأحداث و المتغيرات في إطار التوجهات العامة للحزب .. فهي المنفذ للسياسات التي يرسمها الحزب و ليس سياساتها الفردية .. و بذا يصبح الفرد داخل المؤسسة لا قيمة له إلا بمقدار ما يلتزم به من مقررات حزبية و ما يبديه من إمكانيات في ترجمتها إلى واقع معاش ..
و أخيراً فإننا نعتبر إغفال الأستاذ أسامة لكثير من النقاط التي أثرناها في مقالنا السابق بمثابة إتفاق ضمني معنا في الأي حول تلك النقاط (على غرار أن السكوت رضا) خاصة فيما يتعلق بما أوضحناه من خطل إبتسار مفهوم الماركسية كنظرية لتفسير الواقع في مجموعة من المسلمات الخاطئة و الربط بينها و بين انهيار النموذج الإشتراكي .. ثم ما أوردناه عن ممارسة الحزب للنقد الذاتي و تقييم أدائه و النهوض من كبواته .. ثم موقفه من الديموقراطية .. و أخيراً ما أوردناه من عدم و جود حوافر أو مغريات تجعل نُقُد و رفاقه يتشبثون بقيادة حزب يعاني من الإضطهاد و المطاردة و التشريد و التصفية ..
الوليد مبارك إبراهيم
نيويورك - بروكلين