بين الضفة والساحل الفصل الثامن – مجتمع الرحلة- بقلم: بقادى الحاج أحمد- جدة
ملخص لما نشر:
الفصل الأول: بالروح بالدم نفديك يا سودانا
قدم الراوي مشهد من موكب انتفاضة ابريل1985م،صمود المنتفضون أمام فوهات
البنادق:
" لماذا اعتقل يا ترى؟
سأل الناس لا سبب
حان الوقت ليعرف الناس يعتقلون
من دون سبب"
ثم ما تبع ذلك من تغيير في الحياة ، لم يستغل في تنمية حقيقية، بل خفت صوت
الانتفاضة سريعا وتلاشى، وكأن شيئا لم يحدث.
الفصل الثاني: الله يسلمك..
نزل الراوي من قمة جبل الانتفاضة، يبحث عن آثارها.. واسباب لقمة العيش. ظل
نشاطه موزع بين العمل والدارسة الجامعية، تراوده أشواق العثور علي شريكة
الحياة، في طيف ندى .. أميرة وسمراء.
الفصل الثالث: الضفة الخضراء
وجد الراوي في تتطبيق أحد توصيات المؤتمر الاقتصاد الذي تلي الانتفاضة- اخذ
إجازة بدون مرتب لمدة عامين قابلة لتجديد، وجد فيها ضالة المنشودة، أزمع علي
الرحيل للعمل مؤقتا في الخليج،وجد فرصة عمل في شركة خليجية، اخذ إجازة بدون
مرتب، حمل حقيبة صغيرة، بعد أن ودع الأهل والأحباب والبلد ورحل رغم اغراءات
الابنوسية المكتنزة في الطائرة، ألا انه صمم علي ما هو مقدم علية .
الفصل الرابع: الحرمين..والهجرة
وصل الراوي ومن معه إلى جدة، فالرياض مقر إدارة الشركة، كان نصيبه أن يعمل في
فرع في منطقة المدينة المنورة، التي تشرفت بالمصطفي صلي الله عليه وسلم. واصل
طريقه إلى مكان عمله الجديد ، تراوده أشواق الذهاب إلى البيت العتيق والتعلق
بأستار الكعبة.
الفصل الخامس: الشمس تهمس بالشعاع
بدأت أعراض ال " هوم سيكـنس" تظهر علي الراوي، في صورة أحلام اليقظة، أخذ يتذكر
الأهل والصحاب والأيام والليالي، التي قضاها معهم في ارض الوطن، الذي اصبح
بينهما الآن فضاءات وبحور، مدن تسبح في النور وليالي سرمدية كما الدهور.
الفصل السادس: مدينة صغيرة علي الساحل
استلم الراوي العمل في فرع المدينة التي ترقد في حضن البحر، مدينة صغيرة، تسير
الحياة فيها بنمطية، وكذلك دوامات العمل- دوامة الدوامات- دوام صباحي ودوام
مسائي في تتابع، تباعد بينهم عطلة نهاية الأسبوع، حيث الاسترخاء ومواصلة
الدوامات من جديد.
الفصل السابع : وطن اخضر
يبعث الراوي إلى صديقة وزميل العمل السابق/ غابريل ماجوك، يحدثه فيها عن
المنطقة وعمله الجديد في الغربة، حيث يذكر أن الغربة: " تعطى الواحد فينا
الفرصة ليتأمل نفسه ويراها من بعيد.. فرصة للتفكير واستعادة الذكريات وأعادة
اكتشاف النفس.".
الفصل الثامن
مجتمع الرحلة
يا وطن، مثل عسل النحل، ريحك طيب،وطعمك عذب،وحلاوتك صادقة ،بين الأوطان؛اخضر
طويل وقيافة.
*
كان الموقف في السوق الشعبي مزدحما بالباصات السفرية من كل نوع:الصغيرة
–الحافلات والكبيرة-الباصات الأهلية-النيسانات، بالإضافة إلى الباصات الحديثة
ذات الطوابق، والتجهيزات الفاخرة؛ خدمات البوفيه- الترفيه- فديو وما إلى ذلك.
لم اكن اهتم أي الباصات اركب التقليدية أم الحديثة، بقدر ما اهتم بسرعة الوصول،
لتقبل العزاء في الجد، الذي رحل من الدنيا بعد ما عاني من المرض طويلا، وأعود
إلى عملي لان الاجازة لم تتعدى الثلاثة أيام، ورغم ذلك كنت اميل إلى الباصات
التقلديه، لأنها عمليه، وفوق ذلك أجرتها أقل بكثير من أجرة تلك الحديثة، رغم أن
مقاعدها في كل سفرة تدخلني في تجربة ارتداء الحذاء الجديد الضيق، لقصر المسافة
بين الكنبة والكنبة، كانها عملت علي مقاس لغير السودانيين أصحاب القامات
الطويلة، ومع ذلك تحمل ديباجة صنع في السودان!
الأمر كان عند "سارة"- قريبتى رفيقة الرحلة- مختلف تماما، لأنها منذ أن عادت من
بور تسودان إلى الخرطوم بأحد الباصات الأهليه، في رحله طويلة مملة، عزمت علي أن
لا تسافر بها مره أخرى- في سفرة طويلة كهذه نتيجة للتعب الذي تجرعته.
اخذت ادافع عن موقفي من الباصات التقليدية،علي الأقل من ناحية التكلفة، وان
كانت مبرراتي هي: سرعتها،خبرتها الطويلة،ومعرفة الناس لها وأنها عمليه اكثر..
الا أن "سارة" أصرت علي ركوب أحد الباصات الحديثة رغم التكلفة العالية..
اشتريت تذكرتين، علي أحد الباصات الحديثة، التي دخلت البلد مؤخرا بعد الانفتاح
الاستثماري الأجنبي.
كان مظهر الباص الخارجي يدل علي حداثته: النوافذ الزجاجية الكبيرة ذات
الستائر،المقاعد الوثيرة، الكبينة الداخلية التي تشبهه كبينة الطائرة، بالأضافه
إلى الطابق العلوي..أخذت مع "سارة" مقعدين في الطابق العلوي،في انتظار بداية
الرحلة.
بعد حوالي الساعة والنصف من السير مازال الباص علي مشارف الخرطوم، بداية محافظة
القطينة. توقف الباص عن السير.تحرك طاقم الباص المكون من :
السائق،الوكيل،المساعد الأول – الكبير والمساعد الثاني- الصغير ليفحصوا الباص،
ولما استفسر المسافرون عن سبب العطل؛ علموا أن أحد الإطارات الخلفية انفجر،
ويحتاج إلى تبديل.اخذ المساعدان في أجراء عملية تبديل الإطار المعطوب؛ فتح شنطة
المفاتيح،إحضار الرافعة والإطار البديل.
بدء بعض المسافرين في النزول من الباص، للمساعدة في إتمام عملية التبديل في
أسرع وقت ممكن، ولكن العكس حدث، بدلا من أن تتم العملية بالسرعة المتوقعة أو
اكثر تأخرت. شيئا فشئ أخذ الوقت يمر والباص وقوفه يطول. تدرجيا أخذ المسافرون
في النزول واستطلاع الأمر، فكان الحوار التالي:-
- المسافر: يا خونا في شنو؟ مالكم تأخرتو؟ ان شاء الله خير.
- السائق: بس نغير العجل ونطلع علي طول.
- المسافر: لكن تغير العجل دا أخذ وقت كتير خلاص.
- السائق: المشكلة أنو ما لا قين مفتاح العجل ..
- المسافر: باندهاش ما عندكم مفتاح عجل..
- السائق: والله الكمساري – المساعد – بي فتش فيهو.
- السائق: للكمساري وين المفتاح ما لقيتو؟
- الكمساري: والله أنا ختيتو هنا بعد ما رجعوه ناس أبراهيم، لكن هسع ما لا
قيهو..
- السائق: والله دى حاجه عجيبة ..
- المسافر: يعني ما عندكم مفتاح عجل.. ياخى في واحد بيسوق ليهو بص ذي دا وما
يكون عنده مفتاح عجل؟ سبحان الله.. قالوا بص حديث..
وهكذا يكرر الحوار السابق مع السائق، وفي ختام كل استفسار يكيل المسافر إلى
السائق وطاقمه التوبيخ علي استهتارهم وعدم تأكدهم من جاهز يه الباص الحديث! وهو
مقدم علي سفرة يقطع خلالها أكثر من ثمانمائة كيلو..
أصبح طاقم الباص موضوع تندر المسافرين، حيث اصبح الباص الحديث، الذي افترض فيه
أن يكون مريح وسريع اكثر من الباص التقليدى، أثبت عكس ذلك تماما، بل صار مصدر
إزعاج وتأخير للمسافرين الذين أخذوا يندبون حظمهم العاثر، الذي جعلهم يجربوا
هذه المرة الباص الجديد، خصوصا وهم يشاهدون الباصات التقليدية التي تحركت
بعدهم، تتجاوزهم الواحد تلو الأخر، وهم انتظارهم يطول ويطول. زاد الأمر سوء،
عملية تبديل إطار معطوب بآخر سليم والتي لا تستقرق في المعتاد اكثر من ربع
ساعة، أصبحت مشكلة حقيقية يصعب حلها؛ بعد أن علموا ان إطار هذا الباص الفريد لا
يفكه مفتاح باص آخر من غير نوعه، ورغم ذلك تتطوع عدد كبير من المسافرين، وذلك
بالاستعانة بخبراتهم العملية والنظرية في محاولة فك إطار الباص بمفاتيح البصات،
والشاحنات وحتى التراكتورات التي أوقفوها، اتضح أن جميع مفاتيح إطاراتها اكبر
من براعي الباص،والطريف أنها اصغر حجما من الباص،وبراغيها اكبر من براغي الباص،
لذلك فان مفاتيحها أكبر أيضا. لم تنجح محاولات ملئ الفراغات بين المفاتيح
والبراغي؛ بالمفكات،قطع الخشب،الحجارة الصغيرة وحتى حبات الرمل..
أضحى علي المسافرين انتظار أحد الباصين التابعين للشركة، التي ينتمي إليها
باصهم، أحدهم قادم من مدينة عروس الرمال،تحرك من الأبيض في نفس الوقت الذي
تحركوا فيه من الخرطوم، والذي كان من المفترض أن يتقابلوا معه في منتصف الطريق،
والثاني سوف يتحرك من الخرطوم بعدهم في رحلة خاصة ينقل خلالها أحد فرق كرة
القدم.في انتظار منقذهم والذي ترجح أن يكون باص فريق الكره، لأنه قادم من
الخرطوم، وهم إليها اقرب.
تحلق المسافرون في مجموعتين: مجموعه مازالت تبذل المساعي والمحاولات في فك
اطارالباص بكل السبل والوسائل المتاحة، وأخرى تراقب المجموعة الأولي وتحلل
الموقف، اجـمعوا علي تحميل السائق مسئولية الإهمال، لان التأكد من وجود الإطار
الاحتياطي ومفتاحه والرافعة؛ هي من – أ،ب،ت – "السواقة" القيادة داخل المدنية
ناهيك عن السواقة علي الطرق السريعة، وبين المدن البعيدة، انصبت تعليقاتهم علي
السائق..
- علقت قائلا: " أن السائق أقرب إلى الأفنديه منه للسائقين، حيث انه ظل يصدر
التوجيهات من بعيد للمحاولين فك الطار، وليس لمساعديه فحسب، بل للمتطوعين من
بين المسافرين،الذين شمروا عن ساعد الجد وانهمكوا في العمل حتى صب منهم العرق."
- قال أحد المسافرين الطاعنين في السن:" والله ديل صبيان تمام، أولاد جدعان."
لما حاول السائق تعفير يديه بقطعة قماش يمسح بها البرغي بالجاز ليسهل فكها؛ كان
أدائه مثيرا للسخريه..
- قال أحد المسافرين:" والله دا فعلا ما سواق، شوف بلاهي بمسح الصواميل كيف..
- كأنه بيدلك ليهو في(…).
وهنا ضحك الجميع.
أخذت المجموعة الثانية تدرجيا في الانقسام، إلى مجموعات صغيرة تتجاذب أطراف
الحديث، عن المواقف المشابه في الرحلات، وعن شركات النقل الجديدة، التي اجتاحت
البلاد مؤخرا في شكل استثمار أجنبي.. ومدى توفيقها في هذا المجال الحيوي
والهام.
اندمج المسافرون في الونسة وفي التعارف أكثر،شجعهم علي ذلك الجو الخريفي الذي
.. نشر غيومه فوقهم فأضاف إلى موقفهم بعدا جماليا.
أخذت اجيل بصرى في هذه اللوح الطبيعية التي فرد فيها الخريف عباءته الخضراء علي
مد البصر.. وقطعان الماشية تتناثر عليها ترعي في هذا الخير الإلهي وتستمتع به
ومن حولها برك الماء التي خلفها المطر. وكانت مجموعات المسافرين تستمتع أيضا
بتـنسم الدعاش وريحه المطر وعذب الحديث الذي أتاحته لهم الطبيعة فقربتهم من بعض
اكثر وبعدتهم من موقف الباص المحرج وعذاباته .
انضمت إلى مجموعة يقود فيها الحديث - طبيب عركته التجارب، كان في العقد الخامس،
يتحدث مع أحد الركاب، ويبدو من حديثه لديه سابق معرفة به، وهو أي محدثه- مهندس
زراعي، كان مسار الحديث الاغتراب، الذي قضى فيه الطبيب أكثر من خمسه عشر عاما،
شدني الحديث الذي يحاول فيه – الطبيب جاهدا أثناء محدثه بالعدول عن عزمه الذهاب
إلى أحد الأقطار العربية النفطية للعمل، مبينا مخاطر الغربة والثمن الباهظ الذي
يدفعه المغترب عند البعد عن وطنه، وانه لا يساوى العائد من الغربة في أحسن
الحالات. عليه أن يجرب حظه في أرض الوطن، خاصة أن الخريف هذا العام يبشر ببشائر
ودلائل خير كثيره، حيث انه اروي البراري هطولا وفيوضا، بينما يحاول - المهندس
الزراعي أن يبرر موقفه،محاولا أن يجعل خطه بالاغتراب عن أرض الوطن تقف علي
رجليها، معتمدا في ذلك علي شرح إخفاقا ته في المواسم الزراعية السابقة. والطبيب
يحضه علي أن يتمسك بالأرض ويصبر عليها، فيها يكمن الخير الذي يبحث عنه بعيدا
عنها وعن أهله.
وصل الباص الذي يحمل فريق كرة القدم من الخرطوم. أخذ منهم مفتاح الإطار. وبدأت
عملية التبديل تتم في سلاسة ويسر، بقدر ما كانت متعثرة ومستحيلة خلال الساعات
الثلاثة الأخيره، وفي هذه الأثناء نزل عدد كبير من ركاب الباص الثاني، وهم من
لاعبي الفريق يرتدون ذي التدريب القميص مع البنطلون- ترينق سوت- أو القميص مع
الشورط كما يلبس في المباريات. أخذوا يتمشون بالقرب من باصهم، الذي وقف علي بعد
مائتي متر من الباص المعطوب؛ يمتعون أنفسهم بسحر الطبيعة ومناظرها الخلابة.
في تلك الأثناء تقدم من الباص مجموعه منهم؛ ضمت أحد أدارى الفريق ولاعبين،
أحدهم الكابتن. بعد أن القوا التحية علي الجميع وحـمدوا لهم السلامة، عرضوا أي
مساعده أخرى يمكن أن يقدموها، شكرهم الجميع علي شعورهم النبيل.
سرعان ما زالت الرسميات، ودخل الرياضيون من ركاب الباص في نقاش عن مستواهم في
المباراة التي لعبوها مع أحد فرق القمة في العاصمة، وعن مباراتهم القادمة في
مدينة الأبيض.
يكفي فقط أن تفتح موضوع الكرة في أي مجتمع لتذيب الحواجز الجليدية بين أفراده،
حيث الكل يتحدث بعفوية نفس اللغة، لان القاسم المشترك بينهم واحد هو الرياضه،
وروحها الرياضيه، ولا يفرق بينهم إلا لون الفنله – القميص – الأبيض أو الأحمر.
لا يختلف هذا الوضع في الباص-المركبات العامة- أو الإستاد، وحتى في بيت
العزاء.. وهذا بين المشجعين بعضهم البعض، ناهيك طبعا عندما يكون الحوار يدور مع
لاعبين مشهورين وسط هذا الإبداع الطبيعي، الذي لونه الخريف ليس باللون الأخضر
وحده أو اللون الأبيض واللون الأحمر؛ بل بألوان قوس قزح جميعها. فأصبح السرور
يلف الجميع.. بددت هذه اللحظات معاناة الانتظار وساعاته الطويلة.
تبدد الفرح الذي عم الجميع سريعا، عندما عبر أحد الشبان عن عدم رضائه عن سلوك
اللاعبين؛ وذلك بمفاجأته الجميع بإصدار الأوامر لهم بالعبارات التالية:-
- يله .. امشوا لبصكم .. دا لبس تنزلوا بيهو قدام الناس .. نحنا عندنا حريم في
البص دا .. انتو قايلين نفسكم شنوا.. يله.. امشوا لبصكم وخليكم محتشمين.
- رد عليه الكابتن: حاضر نحن آسفين.
- أما رد اللاعب الأخر كاد أن يكون لكمة قوية لولا تدخل الركاب ووقوفهم حاجز
بينهما.
- رد الإداري: هؤلاء الشباب محتشمين جدا، ثم من تكون أنت حتى توجه هذا الكلام؟
- أعلن الشاب أمام الجميع أنه ضابط أمن!
- قال الإداري: نحن آسفين جدا طلما دى أخلاقكم، نحن جينا للمساعدة، ولكن الآن
بعد ما وصلنا إلى الإساءة أعطونا مفتاحنا نحنا ما شين، وأمسك بالمفتاح ليأخذه..
- رد عليه المسافرون، بعد ما أمسك بعضهم المفتاح من الطرف الآخر: لا يمكن أخذ
المفتاح من هنا، ألا علي جثثنا؛ لايمكن أن تعاقب الجميع بتصرف فرد واحد. نحن
أولا آسفين لما حدث. وسوف نسوى هذا الأمر.
هنا ترك المفتاح، أمر سائق باصهم بالتحرك فورا. تحرك الباص بداخله فريق الكرة
تتبعهم نظرات الجميع بالأسى والأسف لما حدث. ألا صاحبنا الذي ظل يرقي ويزبد
متوعدا بأنه لن يتركهم يفلتوا من غير عقاب علي سلوكهم المشين.. انبرى الجميع
علي الضابط موبخين ومستنكرين تصرفه الغير لائق، الذي أساء به للجميع عن قصد أو
جهل منه، تحولت المجموعات المختلفة إلى مجموعة كبيرة تحلق فيها ركاب الباص
جميعا، ماعدا النسوة والأطفال حول الضابط واخذوا يفندوا خطئوه:
- قال "الطبيب": بصراحة يا ابني دا كلام غلط منك، الأولاد ديل ما عملوا حاجه ما
كويسه، بالعكس كانوا مهذبين جدا ولبسهم كذلك محتشم؛ يكفي أنه هو الزي الذي
يظهروا به في المباريات، والتي تنقل علي جهاز التلفزيون، الذي يدخل كل البيوت.
- قال "حاج أحمد" – أحد المسافرين المسنين: والله الأولاد ديل لو سو غلط كان
نحن قبلك وقفناهم عند حدهم، الأ هم ما سو الغلط. ديل جو يواسونا في المصيبة
النحنه فيها نقوم بدل ما نشكرهم نسيئ اليهم.. عيب والله عيب.
- قال "أحد المسافرين": والله يا جماعة الأولاد ديل جو وقفوا هنا معانا في آخر
الباص، وما قربوا من النسوان، أنا متأكد ما في واحدة من النسوان شافتهم، ذى ما
بيقول أخونا دا.
- قالت: يا جماعة في اعتقادي – أننا في هذا البص بحكم ماحصل؛ للبص وانعكس
علينا، أصبحنا مجتمع واحد، وهذا الجمع الطيب الذي ضم عمنا "الدكتور" و "حاج
أحمد" وبقية العقد؛ هم كبارنا – واجب علينا نوقرهم ونديهم حقهم.. عندما يحدث
موقف مثل الذي حصل يجب الرجوع اليهم ومشاورتهم والأخذ برأيهم، وأنا متأكد لو في
شيء غلط هم أول من يقف أمامه ويقومه.
أما موضوع المهن، فكل له دوره الذي يؤديه في الحياة:المزارع، الطبيب، المهندس،
العامل،المحامي، الراعي،المحاسب، الكاتب إلى آخره.. تماما مثل الضابط الذي له
دوره في الحياة. ولكن التسلط والتحدث بأسم الآخرين بدون تفويض منهم، بل
باستقلال المهنة، تعد من أبرز مميزات التخلف والتردى في العالم الذي نعيش،وليست
من التحضر في شيْ قريب أو بعيد.
- قال: الضابط مدافع عن موقفه،ديل الواحد فيهم عامل فيها كأنه ما في واحد زيو..
وهنا تدخل "الطبيب" قائلا: يابنى ديل شباب.. والشباب كده دائما.. نحن لما كنا
في سنكم دى كان الواحد يمشى وما شايف في واحد زيوه علي هذه الأرض.. ديل مش شباب
وبس- شباب وشهره يحق ليهم أن يعتزوا بأنفسهم.
يابني الشباب دا خلي عليه اثنين: الزمن والمرأة – بعدين يبقوا عجائز ذي حالتـنا
كده.. وضحك الجميع.
ذهب المسافرون كل إلى مقعده في انتظار انتهاء هذا الموقف، الذي طال وطال لسانه
الذي يمده اليهم ساخرا..
أستأنف الباص سيره صاعدا الروابي ونازلا الوديان، التي كستها الخضرة وظللتها
القيوم، وبدأ طريق الإسفلت المتتد عليها، كأنه خط بالمرسام- قلم رصاص- علي لوحه
سريالية.
علم " حاج أحمد" الذي يشاركنا الرحلة والمقعد القريب، لنا- أنا و" سارة" هذا
هو الخريف العشرين، أو يزيد منذ أن كنا هنا آخر مرة في ربوع المدينة الحبيبة
إلى قلوبنا بأهلها وخيرها الوفير.
عندما اكتسي الأفق الغربي بلون الأصيل المائل إلى الحمرة، عند ذلك الوقت دخل
الباص مدينة الأبيض معلنا أخيرا نهاية الرحلة.
أخذ "حاج أحمد" علي عاتقه مهمة التعارف بيننا أنا و "سارة" والمدينه: هذا هو حي
المطار، وحي الموظفين، والمستشفي الكبير.. إلى أن وصل إلى السوق، حيث موقف
الباص النهائي. لم يكتفي "حاج أحمد" بتعريفنا بالمدينة، بل بتعريفنا علي أهلها،
دعانا إلى زيارته والح في الدعوة، حيث إن منزله قريب من موقف الباص،ألا اننا
اعتذرنا عن تلبية الدعوة في الحال، ربما في مرة أخرى ، لكنه لم يتركنا ألا بعد
أن احضر لنا تاكسي، وعرفنا علي سائقه، وأوصاه بنا خيرا، طالبا مراعاتنا بتخفيض
الأجرة..
بدأت المدينة لي رغم التحديث الذي طرأ عليها، ورغم زخات المطر التي روت رمالها
العطشى علي مر العهود، أن هناك حزن في عينيها.. حزن عميق.
بدأت حزينه كحزننا علي الفقيد العزيز.. فتشابه الحال بحال رحلة الباص، التي
كانت محفوفة بمظاهر الفرح والدعة والترفيه، ألا أنها تحولت إلى رحلة طويلة
استمرت إلى ضعف وقتها المحدد، رحلة غير مشوقة ومملة.
المدينة تزهوا برمالها ود عاشها وطيبة أهلها.. والأمل فيها مغروس ما بقي فيها
أمثال: "الطبيب" و" حاج أحمد" وامثالهم.
*
اصبحت بينى والوطن الذكريات التي اسامرها ليالي الطوال، اصبحت بيننا فضاءات
وبحور، ومدن تسبح في النور، وليالي سرمديه تتمدد كما الدهور.
[email protected]