اندحارالذات، انتصار الذات:
عن الموقف من الوجود في أضمومة
"في انتظار الصباح"
الحياة تكون حياة والواقع يكون واقعا قبل التحرير والتدوين والكتابة. أما بعد الكتابة فتصبح تلك الحياة ودلك الواقع مشروع حياة جديدة ومشروع واقع جديد. إن الكاتب لا يمكنه ان يكون ناقلا للواقع وناسخا له. الكاتب هو مبدع لواقع جديد ولحياة جديدة. ولن يكون في متناوله في وقت من الأوقات أن يحيد عن هدا الدور حتى ولو اراد دلك. فالأدب هو الأسلوب، والأسلوب هو الرجل، والرجل له زوايا نظر خاصة به ومبادئ ومواقف ومصالح ومطامح ورهانات واختيارات تتحكم في ما يكتبه فيصبح بالإمكان تحوير الواقع أو الحياة التي هي موضوع الكتابة ملايين المرات، بحيث تصبح السيرة الداتية أو الحياة الفردية المحكية الواحدة حيوات متعددة وروايات لامتناهية: حياة تشرد في مجتمع لا مبال كما في "الخبز الحافي" لمحمد شكري، او حياة براءة ودلل كما في "في الطفولة" لعبد المجيد بن جلون، أوحياة تنتصر للعلم والمعرفة كما في "الأيام" لطه حسين... ولكن هل يعقل أن تكون حياة فردية بأكملها مجرد تشرد، او مجرد براءة، اومجرد علم ومعارف؟!... هده هي خاصية الادب: خصوصية الأسلوب والخطاب. وهده هي وظيفة الأدب: التأثير في القارئ بخلق انطباع واحد أو متقارب لدى عموم القراء ، وهده هي قوته التي بدونها لن يبقى ادبا والتي بدونها ينسحب فاسحا المجال لعلوم إنسانية أخرى كالتاريخ والسوسيولوجيا وغيرها.
إن الأديب يعي دوره بامتياز كصاحب مواقف اتجاه الوجود والقضايا المتغيرة التي تشغل بال الإنسانية جمعاء. فالأدب هو موقف مصاغ فنيا اتجاه قضايا موضوعية، أي أنه موقف خاص اتجاه قضايا عامة ... ولهدا فالأعمال الأدبية لا يمكن للقارئ أن يشعر بتكراريتها على مر العصور ولو انها جميعا كانت ولازالت وستبقى تكتب لنفس القيم التي من أجلها خرجت للوجود كإبداع وكأدب. وهده القيم هي الحب والأمل والعدل والمساواة والإخاء والكرامة والاعتزاز بالدات واحترام الآخر... وهي نفس القيم التي قرأناها في الأعمال الأدبية مند ملحمة الإليادة والأوديسة حتى نصوص اليوم والغد.
والأدب، في سبيل صياغة دلك الموقف المتفرد من الوجود ومن القضايا العامة، يشغل مجموعة من الأدوات الأسلوبية و الآليات السردية والشعرية والمسرحية بحيث يعبر دلك الموقف من الوجود ليس عن طريق مضمونه وأفكاره واستشهاداته، بل من خلال أساليبه الفنية المبتكرة دوما والتي تميز هدا الأديب عن داك مادام كلاهما يكتب عن نفس القيم الإنسانية المنشودة... وقد يتجلى دلك الموقف من خلال اختيار شخوص العمل الأبي والوظائف المنوطة بهم (وظائف مسطحة قارة أو وظائف نامية متحولة) أومن خلال تحديد مصائرهم (بطولة او إنهزامية). كما قد يتجلى دلك الموقف من خلال اختيار المكان ( مغلق/ مفتوح)، أومن خلال اختيار الزمان (راهن/ مستقبلي، ظلام/ نور). كما يتجلى دات الموقف من الوجود في العمل الأدبي من خلال الإختيار الفني لنوع الحبكة والتصميم المتبع في سرد الأحداث. ويتجلى ايضا في اختيار السارد الرئيسي للعمل السردي(صمير المتكلم، ضمير المخاطب، السارد العالم بكل شيء...). والحوار أيضا من اهم المحددات الفنية داخل العمل الادبي السردي الكاشفة عن الموقف الادبي من الوجود إد أن لغيابه أو طغيانه دلالة قوية وفعالية هامة في تحويل وجهة العمل الادبي برمته اتجاه اليمين او اليسار...
1)- الموقف من الوجود في أضمومة "في انتظار الصباح"
في التعبير الأدبي بكل أشكاله (الشعرية والمسرحية والسردية)، يمكن التمييز بوضوح بين دعامتين أساسيتين لكل رسالة أدبية في أي عصر من العصور وفي أي ثقافة من ثقافات شعوب العالم: دعامة الواقع ودعامة المثال، وكل انتصار للواقع على المثال أو العكس يشكل جهرا فصيحا بالموقف من الوجود. ولعل أخلد الإبداعات الإنسانية هي تلك التي كانت تنتصر دوما للمثال على حساب الواقع، تنتصر لقيم الحرية والتغيير والحلم بغد أفضل وأزهر وأشع. ولائحة الإبداع والمبدعين التي تحتفظ بها ذاكرة الإنسانية لا تضم غير الإبداع الحر والمبدعين الأحرار.
وأضمومة "في انتظار الصباح" تنتصر للمثال على حساب الواقع. ولأن الواقع يبني سلطته وهيمنته على دفن الدوات الفردية الصغرى، فقد انتصرت الأضمومة بكافة نصوصها للداتي على حساب الموضوعي. وقد شغلت لدلك مجموعة من الوظاف الأسلوبية والسردية مثل: مطاردة السارد، إيقاف الزمن، تفجير اللغة...
2)- مطاردة السارد:
لعل أول أشكال السلطة داخل النص هو السارد العارف بخبايا الحكاية من أولها لآخرها الدي يفكر في نظام النص أكثر ممايفكر في حرية القارئ. ولتقليص حضور السارد، شغلت مجموعة من الادوات الهادفة لتحرير القارئ وتقليص سلطات السارد. لقد شغلت مجموعة من الادوات الاسلوبية والسردية لمطاردة السارد داخل نصوص الاضمومة. ومن هده الأدوات: الاستهلال، تكسير الكتابة السطرية بكاليغـرامات في محاولة للتوحد مع الموضوع الموصوف، تكسير السرد، حوارات مسرحية وغير مسرحية، تشغيل ضمير المتكلم كسارد أساسي للنص قد بصيب وقد يخطئ في روايته، تشغيل ضمير المخاطب واقحام القارئ كشخصية رئيسية في النص، تشغيل الصوت واللون كتقنية لصنع المشهد الدرامي وتكثيف الدلالة...
أ- نصوص استهلالية:
تمة أداة أخرى تفصح عن وظيفيتها النصية لتحقيق الخصوصية السردية للاضمومة وهي تقنية "الاستهلال":
" من حيث العرض، الاسلوب قديم قدم القص ذاته. فاول من استعمل هذه التقنية هو الكاتب الفرنسي الكبير ستاندال. ولكنني لم استعرها من باب المحاكاة والتقليد، بل استعرتها لأداء وظيفة أروج لها في كل اعمالي الإبداعية والفكرية: الحوار والحق في الاختلاف الذي ذهبنا لاعتباره قانونا في كتابنا الاول "إرادة التفرد". النصوص الاستهلالية الموجودة في بداية كل نص جديد من نصوص المجموعة تحيل مباشرة على حوار مع نصوص وثقافات مغايرة، وهذا الحوار الذي يصل أحيانا حد الاحتكاك بين النصين قد يثير في القارئ الميل لإنتاج نص ثالث، نص حر... وهذا هو رهاننا الذي يختلف عن رهان ستاندال : " مساعدة القارئ ليصبح منتجا". (جريدة "الصحيفة" المغربية، عدد:7-13 نوفمبر 2003)
فتقنية حوار النصوص، إدن، الهدف منها الإسهام في تنشيط القارئ وجعله فاعلا في القراءة وإعادة كتابة النص المقروء. هدا الحوار بين النصوص ينتج أحيانا تطابقا بين النص الاستهلالي والنص القصصي، وأحيانا اخرى تقاربا بينهما، وأحيانا ثالثة هوة تحيل على التساؤل والتفكير.
ويمكننا قراءة التطابق بين النصين الاستهلالي والقصصي كما يلي:
النص الاستهلالي ، وهو مقتبس من قصيدة "حالة حصار" للشاعر الفلسطيني محمود درويش:
"هنا قرب منحدرات التلال،
أمام الغروب وفوهة الوقت،
قرب بساتين مقطوعة الظل،
نفعل ما يفعل العاطلون عن العمل :
نربي الأمل".
اما النص القصصي المحاور له فينساب كالتالي:
" يقف الحمار ,تحت الأثقال، بانتظار قدوم صاحبه لينخسه على ردفيه ويسعفه ببضع ضربات على عنقه ليوجهه نحو طريق الخروج.
ينتظر الحمار دون سأم. يلعب بأذنيه. يوقف واحدة ويسقط الأخرى. يسقطهما معا. يرفعهما.يلوح بهما ببطء. يقدم واحدة ويؤخر أخرى …" (الصفحة 33)
ب- تكسير الكتابة السطرية بكاليغـرامات في محاولة للتوحد مع الموضوع الموصوف:
الرغبة في التحرر تتجلى أيصا في الميل لتحدي قانون الكتابة الخطية، الكتابة على السطر. فتشغيل الكاليغراف ساهم في توليد بعد دلالي وجمالي كما ساهم في جعل النص يتخد شكل صيغة الخطاب المنطوق او صيغة التعجب كما في:
"كان مغرما حد الهوس بالعصافير، سألني مرة عن لغة تواصلها، فقلت أنــــــها تغــــــــني وتزقــــــزق، وكــــم أعـ – جـ - بتـ - ـه الـ - فكرة ! " (الصفحة 58)
أو يتخد شكل الموضوع الموصوف كما في:
" رفــقـائـي يتـهجـؤون الـعبـارة عـلى صـدر قـميـصي مـبـتـهجـيـن :
" مـثــل طـائـر "
بـهجتهم تغمرني ... أجري ... أرفرف ... مثل طائر ... أطلق ذراعي الصغيرتين لأطير ... أحاكي الطائر فوقي وهو يسبح في زرقة الـــــسماء دون خفـق جنـاح ... يعلـو ... أعلـو ... يعلو ... أعلو ...لكــــن رفقــــــــــــــــــــــــــــــــــائي
كـانـوا
يفسدون
علــي
الطـيـران". (الصفحة 8)
فانكسار الجملة الأخيرة يوازي إدراكيا فشل الإقلاع والتحليق والطيران الدي يرنو إليه الطفل في النص.
ج- تكسير السرد:
تنشغل الأضمومة كثيرا بتكسير صوت السارد الواحد بتوظيف مجموعة من الآليات السردية والأسلوبية. بالأغاني، مثلا، كما في نص " الفرجة، الضباب والمشروع" حيث تطغى الأغنية على صوت السارد على فترات إيقاعية محسوبة لتحرر القارئ من هيمنة الصوت الأحادي للسارد:
" يا الجيلالي، ها هم ليك ها هم ليك
يا الجيلالي، احرش العيون، آه.
راكب على بغيلته
يتسارى في قبيلته
ما راضي بحكم النصارى
ها هم ليك، هاهم ليك
يا الجيلالي، احرش العيون، آه." (الصفحة 20)
كما شغلت أدوات سردية وأسلوبية أخرى مثل اللجوء إلى ملاحظة ثابتة تتكرر إيقاعيا(نص "الأبدية")، أو إلى عناوين فرعية(نصوص "الشرخ"، "المقص"، "حديث غراب"، الحياة بملامح مجرم"، "أرض الغيلان"،" الأفواه الفاغرة")، أوإلى صيغ التحدير(نص "هوية") ...
د- حوارات مسرحية:
يبقى الحوار سمة مميزة لنصوص المجموعة، وسلاحا فاعلا في مطاردة السارد وتحرير شخوص النص. ويمكن التمييز بين شكلين من أشكال الحوار في الاضمومة. نمط الحوار المسرحي كما في نص "الافواه الفاغرة" :
"الممـرض: اجلسوه،هناك.
النــاس: فكه سيسقط على صدره .
الممـرض: حالة عادية. اجلسوه ،هناك.
النــــــــــاس: والطبيب؟
الممــرض: منشغل بعملية جراحية.سيهتم به حين يعود…
النــــــــاس: وهل سيظل الرجل فاغرا فاه هكذا؟
الممرض: كل هؤلاء الزبناء الذين سبقوكم لكراسي الانتظار يعانون من نفس العطب.وجميعهم ينتظرون بافواه فاغرة. إن الفك الأسفل سريع الانفلات والسقوط. التفوه بفتحة فم كبيرة أو الصراخ أو الضحك هو سبب العطب.
النــــــاس: اذن، لينتظر…
الممرض: هل لديكم شغلا تقضونه ؟
النـــــــاس: لا.
الممرض: اذن،اجلسوا معه جميعا وا نتظروا..." (الصفحة 35)
ونط الحوار الشدري المعتمد على الأرقام لتمييز متلفظ عن آخر، كما في نص "المقص" :
"1 - أرجوك . لا تفـارقـني ...
2 - لماذا ؟ لقد أفادتك الدروس وقومتك وأصبحـت شخصـيـة اجـتماعـية ووجـها ألـيفـا و ...
1 - أرجـوك، فأنـا لـم أعـد أعرف لا ما أريد ولا ما أقول ولا ما أفعل ولا مـا أقــدم ولا ما أؤخــر...
2 - هذا يحـدث للـناس جـميعـا...
1 - لا. إحسـاسي بأخـطـائي هـو أشـد مـن أي وقـت. يستحيـل وجـودي مـن الآن فصـاعـدا دون شخـص يوجهـني ويقـودني...
2 - لا داع للـقلق، سأظـل دائمـا إلى جانبـك.
1 - وإذا غـبـت ؟ !
1 - آنـذاك، الـزم الصـمت... ريـثما أعـود." (الصفحة 11)
وهناك نمط أخير من انماط الحوار المشغلة في الاضمومة، حيث لا نجد ساردا يقدم الشخوص بأسمائها ولا بأرقامها فتترك الفرصة للقارئ كي يكمل الفراغات ويعطي المعنى الدى يراه مناسبا للنص، كما في نص "أرض الغيلان":
"- يـجب أن نـخجل من أنـفسنا...
- لازلـنـا نـخـاف الـغــول...
- شـبابــا وشـيـوخـا ولا نـقـول إلا مـا يـروق للغـول...
- ولا نـفـكر إلا فـيـما يـهـدده...
- الـغـيــلان انـقـرضـت عـنـد غـيـرنا مـنـذ زمـان ...
- ولـمـاذا لا تنـتـهـي عـنـدنا ؟ مـا الـفـرق ؟ !
- تلك مسؤوليتنا..." (الصفحة 44)
ه- تشغيل ضمير المتكلم كسارد أساسي للنص قد بصيب وقد يخطئ في روايته:
تشغيل ضمير المتكلم كسارد رئيسي في عدد من النصوص من بين التقنيات الفاصلة بين سلطة السارد المتعالي الواحد العالم بالظاهر والباطن في النص والمعصوم من الزلل فيما يرويه، وبين السارد بضمير المتكلم القابل لارتكاب الخطأ وفعل الصواب في كل لرواياته. وهكدا نقرأ في نص "افتح يا سمسم":
" يغمرني الخوف… أضطرب… تسود الدنيا أما عيني … سواد ظلام دامس… أتحسس الحاجز أمامي … أبحث عن مخرج … هذا باب … باب موصد … باب خشبي …حديدي… حجري … أقرع الباب…
لا أحد يجيب …
أنادي بكل قواي :
-"افتح يا رفيق!"
سكون …
-"افتح يا أخ !"…
سكون
-"افتح يا سمسم ! "…
وينفتح الكون! …و ينجلي السواد !… وتنقشع الظلمة"... (الصفحة 62)
و- تشغيل ضمير المخاطب واقحام القارئ كشخصية رئيسية في النص:
تشغيل ضمير المخاطب واقحام القارئ كشخصية رئيسية في النص من بين التقنيات الاكثر فعلية في تدويب سلطة السارد وهيبته وتقليص نفوده:
" إحساس غريب سيعتريك وأنت تخطو داخل هذه الضيعة فتتساءل :
-"هل نسيت أداة من أدواتي ؟"
تتفحص حقيبتك وتتأكد أنك لم نتس شيئا. لكن الإحساس الغريب سيلازمك وأنت تخطو بين أشجار البرتقال المتراصة على جانبي المدخل محددة لعينيك اتجاها وحيدا.
الإحساس الغامض يحتويك وتمرق بذاكرتك فجأة حكايات الأجداد عن أقوام الزمن الغابر الذين أساؤوا الفعل فمسخوا غربانا وقردة وخنازير..." (الصفحة 51-52)
أو كما في نص " الحياة بملامح مجرم":
" قد يحدث لك هذا غالبا في دار السينما حين تدخل القاعة المظلمة متأخرا وتجد الشريط في منتصفه والممثلون يتحركون ويتحدثون عن أشياء فاتك أولها...
نقر المطرقة على المنصة يطلب الصمت من الجمهور المحتشد داخل قاعة تشبه قاعات المحاكم، وتندهش حين تدرك أن صاحب المطرقة يخاطبك من دون الحاضرين :
- أنت، ضمن مجموعة اليوم، تنتظر إدانة قبلية لاحتمال ارتكابك جرائم بعدية، وهو، كما تعلم، إجراء وقائي عادي ومحلي مثل التقميط والختان والـ ... وكما تعلم، فمحلية تشريعنا تسهر على الوقاية القبلية من خطر إيقاظ الفتنة النائمة في الرؤوس بالعقاب القبلي حتى يتعرف كل على دوره وحدوده.
وتنتبه فجأة فتجد نفسك أنت السينما وأنت الشريط وأنت الظلام الذي يذيب فرديات الحاضرين ليجعل منهم متلقيا واحدا." (الصفحة 67)
3)- الزمن متوقفا عن الجريان:
ملك الشعر العربي، امرؤ القيس، حين أراد قول الشعر في معلقته الخالدة، أمر بوقف القافلة التي كان ضمنها. فإيقاف القافلة وإيقاف الزمن ضرورة للقول الشعري والتعبير الفني:
قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل *** بسقط اللوى بين الدخول فحومل
ولكن في أضمومة "في انتظار الصباح"، ليس هناك إيقاف للزمن بل هناك صور للزمن الواقف دوما...
الموقف من الزمن نقرأه مند الصفحة الثالثة على شكل تصدير للأضمومة:
"إنه عملية انتظار لا تنتهي ولكنها تبدو من جديد بشكل خفي كل يوم. وإذا كان الانتظار ينطوي على حركة فهي حركة دائرية، إن كل يوم عود إلى اليوم السابق. لا شيء يكمل لأن ما من شيء يمكن إكماله".(الصفحة3)
وهو نفس الموقف الدي يتكرر على لسان شخوص نص "الأبدية":
"1 – ماذا تقرأ ؟
2 – كتابا عن الساعة البيولوجية في حياة المخلوقات …
1 – أية ساعة ؟
2 – هي داخل الكائنات الحية . كل جسم مزود بساعات خفية لها عقارب تضبط أوقات النوم واليقظة والجوع والحي… هذا ما يقوله الكتاب .
1 – والإنسان، هل له ساعة داخلية ؟
2 – لا أدري .
1 – أنا لا أرى هناك ساعة خارجة عن الإنسان حتى تكون هناك ساعة داخله… انظر إلى الشمس!
الشمس في قلب السماء .
الساعة الحائطية تدق منتصف النهار
القطار يصل إلى محطة المسافرين. نوافد عربات المقدمة تطل مباشرة على...الأبدية ." (الصفحة 32)
وهو نفس الموقف الدي نقرأه في الحوار الصحفي التالي:
"أعتقد انني باختياري لعناوين مجاميعي القصصية أتحاور مع عناوين نصوص مغايرة وأعانق من خلالها الدوائر التي أعشقها. فكل عناوين مجاميعي القصصية تعود بشكل دائري إلى عنوان سابق في الببليوغرافيا الإبداعية الإنسانية وكأن لا جديد تحت الشمس. ويتعزز هذا الموقف مع التقنيات السردية المشغلة لذات الغرض داخل كل أعمال المجموعة: فالمجموعة القصصية "في انتظار الصباح" تحيل بشكل ظاهر على مسرحية "في انتظار غودو"، والمجموعة القادمة "موسم الهجرة إلى أي مكان" تحيل بشكل آلي على رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"... أعتقد ان ان الإنتباه لعتبات النص ضروري للغاية وإهماله كارثة بجميع المقاييس." (صحيفة "العرب اليوم" الأردنية، عدد: 27 يونيو 2004)
4)- الفعل المضارع للزمن الواقف وضمير المتكلم والحوارالمتشظي والراهن المحير يتيم الغد :
الزمن الواقف رافقه استعمال واسع للفعل المضارع كما في نص " العيد":
" تاريخ اليوم على الأجندة الحائطية مؤطـر بالأحمر.
هـل اليـوم عيـد ؟ !
أصبحت أنسى أيام الأعياد فلا أتذكرها إلا صدفة عند تسكعي في شارع المدينة الرئيسي حيث تعبث الأضواء الموسمية بسحنات رواد المقاهي المظللة برايات بالية ولافتـات مكمشة توارت أغلب الحروف الـمكتـوبـة عليـها…" (الصفحة 7)
أو في نص "الفرجة، الضباب والمشروع":
"الضباب الصباحي يمسح معالم ساحة الفرجة وحلقياتها المسائية، يخرس صدى تصفيقات المتفرجين وما علق بالذاكرة من تعاليقهم المرحة، يطمس آثار ثقافة الأمس فلا يفلت من تضليله سوى صياح هذا الديك :
كوكو ريكو !
كوكو ريكو !
صياحه الرنان بين قصدير البراريك المتحلقة حول الساحة يستثير ردودا متفرقة من ديكة نائية.
الديكة تتنادى، تتواصل عبر لا نهائية هذا الضباب :
كوكو ريكو !
كوكو ريكو !
قطرات الندى ترتج لقوة الصياح وتنزلق بطيئة على القصدير، غاسلة الكلمات المشخبطة عليهـا." (الصفحة 19)
أو في نص "في انتظار الصباح":
"خشخشة المذياع تختلط وارتعاشات ضوء الشمعة الوحيدة لهذه الليلة. لسان الشمعة يحترق داخل دائرة ضوء باهت مقاوما طوق الظلام حوله. لم أعد أطيق النوم في هذه العتمة، فوق طاولات هذا القسم المبني على أنقاض مقبرة عتيقة في هذا الجبل المنسي… كم أخاف هذه القبور حوالي !
أخاف أن ينتفض أهاليها في يوم من الأيام. لابد أنني أزعجهم بحياتي بين موتهم…" (الصفحة 25)
5)- تشغيل الصوت واللون كتقنية لصنع المشهد الدرامي وتكثيف الدلالة:
في غياب السارد الموجه للقارئ، وفي رهان واضح على قدرات القارئ على تفكيك النص وإعادة تركيبه ، كانت وظيفية الالوان والاصوات في نصوص الأضمومة في الموعد:
"وأنا مندهش فوق الشجرة أضيء بالمصباح دائرة، مسرحا ، حلبة يتخبط داخلها :
الأسود والأبيض
(الشخير والنجدة)
الأسود والأحمر
(الشخير والأنين)
الأسود والدماء
(الشخير والصمت)
من أعلى الشجرة، أتابع المشهد الحي : سواد متوحش يفترس صديقا مرهقا." (الصفحة 30)
5)- تفجير اللغة:
مطاردة السارد نتجت عنها انتفاضة مكونات النص السردي الصغرى. وانتفاضة اللغة واحدة منها. وتتجلى من خلال كونها أحيانا لغة مكاشفة دافئة لأنها مروية على لسان شخوص النصوص القصصية داتها:
" أحس وكأنني لم أعد أعرف ما أريده. لهذا لا أجد ما أقوله. الصمت يناسبني. أحيانا حين أنتبه لحياتي، يروعني منظري : دائما مجرور، مثل محراث قديم. أحيانا أخرى، أتخيل نفسي بيضة تتدحرج في كل الاتجاهات. أتخيل نفسي بيضة كبيرة. وأشعر بالاختناق تحت قشرتي." (الصفحة 15)
واحيانا اخرى لغة نقدية جارحة:
" هذا أمر، ومن السيد، رجل جبار يملك الأرض والثيران والبغال والعبيد الذين ورثهم عن أجداده أقوياء ومخصيين، لكنه رغم الإرث وشساعة ظل الأجداد، فقد بلغ به الإجتهاد في التفسير والتأويل حد مخالفة خط السلف في أمر جوهري : فهو من حين لآخر يقدم على عتق رقبة من رقابه تكفيرا عن يوم راود فيه إحدى زيجاته أو محظياته أو سراريه فأفطر وإياها رمضان. إلا أن أغلب العبيد المعتقين يعودون ثانية إلى هذه الضيعة رافضين حريتهم وكلهم حنين إلى حياة الماضي والخصاء." (الصفحة 54)
واحيانا ثالثة لغة تعبوية حارة :
" - أيهـا الإخـوة، لنستـعد لكل الـمفاجآت...
- مستعـديـن!...
- جـميـعا مـن أجـل الكرامـة !
- جـميعـا!...
- جميعـا فـداء ا للزعيـم !
- جـميعـا!...
- الكـرامـة أو الـموت !
- الكـرامـة !..." (الصفحة 45)
خاتمة
إن العمل الأدبي ليس تقريرا مختبريا منفصلا عن داتية الكاتب أو الشاعر او المسرحي مبدع العمل. إن الأدب ، سواء كان صرخة أو مجاملة، يبقى موقفا فنيا اتجاه قضية عامة... الأدب يبقى موقفا، ولكنه موقف يعبر عن داته من خلال شكله وأساليب عرضه وليس بمضمونه ومرجعياته. وأضمومة "في انتظار الصباح" حكت مواقفهاجماليا. وهده هي قوة الادب ، وهده هي خصوصيته.