شغلتني ظروف أسرية طارئة، ومشاركتي في حفل تأبين فقيد الوطن الدكتور جون قرنق دي مبيور الذي أقامته الجالية السودانية في الإمارات عن الرد على حزمة أباطيل خاوية وترهات ساقها المدعو "عمر حسين أبوشورة" بحقي وحق آخرين في معرض مقال ذي لغة متهالكة لا تشبه إلا صاحبها، نسب لي فيه جوراً وبهتاناً ما ورد في سلسلة مقالات أخرى- لا تقل ركاكة وتواضعاً- ممهورة بتوقيع المدعوة أمل البشاري وآخرين. وربما كان في هذا التأخير خيراً إذ أغناني السفيران المبجلان، سعادة السفير الدكتور على حمد وسعادة السفير الدكتور جعفر كرار برديهما المقتضبين على هذا الموقع عن بيان بعض الأكاذيب التي غصت بها مقالات "أبوشورة" المتهالكة فكذباه في أكثر من واقعة تخصهما، رد الله غربتهما ولهما مني التجلة والتقدير.
أبدأ بالتأكيد على أني لست طرفاً في السجال الذي دار بين أمل البشاري وآخرينها من جهة ومن تصدوا لها من جهة أخرى، ولست أنا أمل البشاري ولا صلة لي بهذا اللغو من قريب أو بعيد، وقد درجت على الكتابة باسمي وصورتي في الصحف السيارة وتحديداً صحيفة "الخرطوم"، وكنت وما زلت أتناول موضوعات جادة وأنتقد سياسات خاطئة وأطرح حججاً موثقة وأنأى بنفسي عن القول الوضيع وأتجنب التجريح وشخصنة الخلافات وأبتعد عن الإسفاف في القول. كل ذلك في وقت كانت فيه مثل تلك الكتابات المعارضة لنظام الإنقاذ تعرض أصحابها لعنت كبير، فأنا لا أعرف التخفي وراء الأسماء المستعارة والشخوص الهلامية، ولست مثل صاحبنا أبوشورة هذا الذي أتى فعلاً ذمّهُ بنفسه حين تخفى وراء اسم مستعار. وأنا أدعوه إن كان يملك ذرة من الشجاعة والرجولة أن يظهر بشخصه الحقيقي على الملأ لأن لي معه ساعتئذ حساب أمام القضاء وأجهزة العدالة، وسأحتفظ بحقي القانوني في مقاضاته عند انكشاف أمره.
قلت في الرد الذي نشرته في صحيفة "الخرطوم" عدد يوم الاثنين 3/10/2005 إنني التحقت بوزارة الخارجية في أبريل 1982 بعد أن اجتزت امتحان الخدمة الدبلوماسية الذي كان أصعب من امتحانات جامعة الخرطوم التي تخرجت منها بشهادة البكالوريوس (الدرجة الثانية، القسم الأول مع مرتبة الشرف في العلوم السياسية في مايو 1981)، وعملت في رئاسة وزارة الخارجية لمدة سبعة أشهر فقط (منها فترة التدريب التأسيسي للدبلوماسيين الجدد خارج ديوان الوزارة) حيث تركت الخدمة الدبلوماسية وسافرت إلى دولة قطر في 13/11/1982، ومنذ ذلك التأريخ انقطعت صلتي بوزارة الخارجية ولم أعد إلى السودان إلا في إجازاتي السنوية المتقطعة، فمن أين لي بهذه التفاصيل التي وردت في مقالات "أمل أبوشورة وآخرين". الواضح لكل ذي لب يفهم أن الذي كتب هذه المقالات هو شخص يملك تفاصيل ووقائع من داخل ديوان الوزارة أو هو شخص كان في الخدمة، على الأقل خلال عهد الإنقاذ، وتحديدأ في عهد الدكتور مصطفى عثمان، ولا يمكن لمن ظل خارج الوزارة لعشرين سنة ونيف أن يملك معلومات تفصيلية كهذه؛ بل هناك أشخاص، ممن وردت أسماؤهم في تلك المقالات، لم أسمع عنهم ولا أعرفهم ولا يعرفوني وليست لي بهم أدنى صلة.
أما اتهام هذا المعتل لي بأن لي علاقة مع مخابرات اريتريا وعبدالله جابر وأني أتقاضى مرتب "معلوم" منها فهي من نوع سخف الكلام الجدير بالتجاهل. فأين أودعت هذه الرواتب وكيف تسلمتها أنا، أين بينتك ودليلك الذي تسند به هذه الاتهامات التي يبدو واضحاً أن القصد منها هو التشويش والتشهير. وما أسهل إلقاء التهم جزافاً عندما يتعلق الأمر باريتريا التي هي في حالة عداء مع حكومة الإنقاذ، فلا هي تستطيع النفي ولا أنا ولا كنا ولا كانوا يا "أبوشورة". ومما هون علي هذا الاتهام المسموم، تعليقات الأصدقاء والأحباب خاصة أخي وصديقي الدكتور إسماعيل أبو، أستاذ الاقتصاد السابق بجامعة الخرطوم، والذي أرسل لي مع الصديق نديم عبد المنعم رسالة طريفة طلبا فيها مني أن أخرج شيئاً من هذا "الهلل الاريتري" الوفير لكي أفيء به عليهما، رد الله غربتنا وغربتهما. أظن هذا يكفي يا براوة!
أما تهمة قطع أرزاق أسر خلال حرب الخليج 1990/1991، فهذه فرية يسهل دحضها وتفنيدها. فقد عملت في دولة قطر خلال المدة من 13/11/ 1982 وحتى 1/10/1997، وكنت في الدوحة عند نشوب حرب الخليج الثانية (بعد احتلال صدام حسين لدولة الكويت)، ولم تقم دولة قطر بطرد سودانيين أو إنهاء خدماتهم، بل كانت قطر هي الدولة الخليجية الوحيدة المفتوحة للسودانيين ومنهم مهنيون دخلوها بتأشيرات رعاة الإبل، وما منعهم ذلك عن التوظف لاحقاً في وظائف محترمة تتناسب مع تخصصاتهم ومؤهلاتهم. وحتى "الإخوة الإسلاميين" الذين يهمون أبوشورة ظلوا في وظائفهم وأصبح بعضهم أسياد بلد (على الرغم من أنهم تعاطفوا مع صدام حسين وأيدوه في فعلته الطائشة تلك)، وليسأل أبوشورة عنهم وسيأتيه الخبر اليقين من الدوحة. أما أنا فقد عدت أدراجي إلى وطني السودان في 1/10/1997، وفي 13/4/1998، عاودت الاغتراب عنه وجئت إلى وطني الثاني دولة الإمارات العربية المتحدة متعاقداً مع مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية في أبوظبي، أي بعد انتهاء حرب الخليج بسبع سنوات، فكيف بالله يمكن أن أكون قد عملت حكاية قطع الأرزاق هذه (من السماء السابعة أم بقلب الهُوبة مثلاً؟)، هي قطعاً ليست من شيمي، ثم من أنا أصلاً ومن أكون في ميزان أصحاب القرار حتى أعمل شيئا كهذا؟ ما أنا يا "أبوشورة" سوى "حتة" موظف لا يقدم ولا يؤخر، ولست سوى قليل حيلة واقف على هامش الزمن، دعني في حالي يا رعاك الله.
لم يكن الدكتور منصور خالد وزيراً للخارجية عندما التحقت بوزارة الخارجية، وكان الوزير هو سعادة السفير/ محمد ميرغني (القادم أصلاً من سلك الشرطة خلال فترة سودنة الوظائف حسبما فهمنا بعد أن سألنا عن سبب صرامته). ولكنّ الدكتور منصور هو أستاذي ومعه عملت باحثاً في أحد كتبه التي أعدها عن نظام مايو وتقويمه الهادف للتجربة التي كان طرفاً فاعلاً فيها قبل أن يخرج منها بعد أن انحرفت عن جادة طريقها ولازمها غول الفساد والاستبداد. ومنذ تلك الأيام أصبح دكتور منصور معلمي وموضع تقديري كباحث أصيل ومتفرد، ولو كان منصور خالد في بلد غير السودان لبجلوه وقدروه على نحو لا يضاهى، ولكننا يا عزيزي "أبوشورة" في السودان، حيث المال عند بخيله والسيف عند جبانه، على حد قول ذلك الشاعر.
لست ممن يشخصنون القضايا وليس لي أي شجار شخصي مع وزير الخارجية السابق الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل، وكنت قد حاولت العودة إلى العمل في وزارة الخارجية في عهود قبله تحت إلحاح وتشجيع أبناء دفعتي ودبلوماسيين أقدم مني ممن عرفوا كفاءتي المهنية. وما حقدت على أحد لأن طلباتي قد قوبلت بالرفض في مرات سابقة قبل عهد مصطفى عثمان، ومنها طلب في العهد الديمقراطي الأخير. وهذه مسألة إدارية عادية لا تستوجب جلبة أو تهويلاً في غير محله، وما ضرني أني واصلت التمتع بعملي في مجال الدراسات الاستراتيجية والترجمة وهما من صميم المعارف اللازمة للدبلوماسية من أي ركن أتت.
لست مندوب الحركة الشعبية لتحرير السودان في الخليج أو في غيره، ولا أظن أن الشركات تقام في الخيال وإنما لها سجلات بأسماء مالكيها أو مؤسسيها، هل تعرف هذا أم أنك تجهله أو تتجاهله؟ إن كنت ممن يملكون شركات أو يديرونها لكان لي شأن ووضع غير عامل الموظفين المسحوقين الذي ما زلت أرزح فيه إلى اليوم. وعلى أي فالحركة الشعبية الآن شريك رسمي في الحكم وتستطيع أن تنشيء شركات أو مكاتب تمثيل رسمية بعلم أو بدون علم شريكتها "الإنقاذ" أو الجبهة الإسلامية، التي بلغت تتمدد شركاتها في أنحاء الدنيا كلها وبإسم منسوبيها ووزرائها السابقين، وللحركة إن أرادت أن تندب لها من تراه كفؤاً لإدارة تلك الشركات أو المكاتب، إن كانت هناك شركات أو غيرها، وكلن عليك أن تعلم يا عزيزي أن للحركة أنياب تنفذ بها ما تريد منذ قسمة نيفاشا، ولها قادتها وكوادرها الأكثر تأهيلاً وكفاءة مهنية مني بكثير، ولا أظنك أو غيرك بقادرين على منعها أو الاعتراض عليها إن هي اختارتني أو اختارت أي شخص غيري من منسوبيها أو غيرهم لشغل أي منصب دستوري أو وظيفة في أي وزارة أو سفارة ضمن قسمة السلطة والثروة التي جاءت بها اتفاقية السلام الشاملة، بما في ذلك قيادة وزارة الخارجية التي يتربع على قمتها الآن أحد قادة الحركة الشعبية وهو الدكتور لام أكول الذي خبركم عن قرب حيناً من الزمان. ولعلك تفتح عينك جيداً، يأ أصلحك الله، لترى كيف يقبع في هذه المناصب والسفارات أشخاص وسفراء أعادتهم ترضيات واتفاقيات سياسية مع أحزاب وفصائل سياسية إلى مناصبهم في العهد الحالي، فهناك جماعة مبارك الفاضل المهدي وجماعة الشريف زين العابدين الهندي وغير أولئك من أحزاب التوالي والموالاة بالإضافة إلى ضباط جهاز الأمن وجيش الملحقين من جهات أخرى من دخلاء المهنة وأدعيائها؛ لا أظن أنني أقل عن هؤلاء في شيء إن لم أكن أبز الكثيرين منهم على الأقل بأني ثاني دفعتي في الخارجية التي دخلتها بالإمتحان والكفاءة وليس بالواسطة أو التعيين السياسي، والله كيف يا "أبو الشورة"؟. ومع ذلك فأنا أطمئنك، إن كنت أنا شاغلك الشاغل من دون هؤلاء كلهم، لأقول لك بأني زاهد في أمر العودة إلى السودان ولم أعد متحمساً لها كما كنت في السابق، وعندي الآن من المشاغل الشخصية ما يصرفني عن الانتباه لغيره، كما وأنا والحمد لله أتمتع الآن بجني حصاد سنوات طويلة من الشقاء في عالم الإغتراب، إذ أنني في قمة نضجي وتأهيلي المهني الذي يمنحني من الدخل ما يكفيني ويغنيني عن الحاجة لغير الله تعالى ونفسي. ولكن يا سيد "أبوشورة"، أظن أن من حقي كمواطن سوداني خليص، وبموجب دستور الفترة الانتقالية على الأقل، إن كنت قد قرأته، أن أتمتع ببعض حقوق المواطنة التي وردت فيه، اللهم إلا إن كنت تعتبر هذا الدستور حبرأ على ورق أو ضرباً من ذلك الذي أسميته "الاستغفال النافع"!
كان لهذه الهوشة العابرة جوانبها الإيجابية على الصعيد الشخصي، فقد كشفت لي عن قدر كبير من حب الناس لي وتلك نعمة أشكر الله عليها، حيث توالت الإتصالات من السودان (وخاصة إتصال سعادة السفير الهمام محي الدين سالم) ومن أركان الدنيا كلها وتلقيت عددأ هائلاً من رسائل التعاطف من زملائي الدبلوماسيين السابقين وقلة من "المرابطين" في الخدمة وزملاء الدراسة في جامعة الخرطوم وأبناء كردفان وأصدقائي الأعزاء عصمت قباني وفيصل يوسف ود. اسماعيل أبو ود. حيدر بدوي صادق، وأخواني في الجاليات السودانية بالسعودية ودولة قطر وأمريكا وبريطانيا ودول المهجر الأخرى؛ والشكر موصول للإخوة في الحركة الشعبية لتحرير السودان الذين عبروا عن استيائهم لأسلوب طرح الإتهامات بهذه الطريقة السمجة التي تنم عن عقلية يسعى السودان جاهداً للتخلص من إفرازات إرثها الثقيل الآن، لهم ولغيرهم ممن لا يسع المجال لذكرهم هنا التقدير والعرفان.
وختاماً، أعتذر للقارئ الكريم لأني شغلته بكثير مما أسماه الراحل المقيم الأستاذ الخاتم عدلان "عويش الكلام" وأنا لست من الذين يتعاطونه أو يستمزجونه أصلاً، ولذلك يكون العذر. بيد أن المنابر العامة ومنها الفضاء الإلكتروني لها آدابها وأعرافها وميثاق شرفها الصحفي، وينبغي ألا تكون، بالغ ما بلغ الأمر، مشاعاً يرتاده شُذاذ الأفق وأفاعي الكهوف لينفثوا فيه سمومهم، بل الأدعى للمصلحة العامة ألا نترك الحبل على الغارب لمثل هذا الانفلات الذي يتيح نشر غثاء القول وساقطه، أليس كذلك؟