العلاقات السودانية التشادية لم تبدأ ولن تنتهي بالنزاع الجاري في ولايات دارفور الكبرى منذ سنوات وتداعياته على البلدين وأمنهما واستقرارهما ، فهي ذات تاريخ وجذور راسخة من العلائق الأسرية ووشائج القربى والمصاهرة والدم والرحم، وهى عميقة بعوامل التداخل الثقافي والاثنى واللغوي تميزها وحدة العقيدة والانتماء وبها من التشابه في أسماء المدن والفرقان ما يحمل أكثر من مدلول ، وتربط بينهما المنافع و المصالح المشتركة لحاجة كل بلد للأخر في شتى المناحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، ويحتم الجوار والترابط على التعاون والتنسيق اللصيق والسرمدي تحقيقا لمطلوبات الأمن والاستقرار داخليا وإقليميا ودوليا وصولا إلى استراتيجية إقليمية تعزز علاقات البلدين وتدفع بها لان تكون الأنموذج في التعايش السلمي والمجتمعي الاقليمى ومرتكزا لعلاقات اقتصادية ناهضة تأخذ بقدرات البلدين الشقيقين نحو التكامل والتكافل والاندماج في سياق تسارع العولمة وإسقاطاتها السالبة على البلدان الأقل نموا. والذي يتصفح سجل هذه العلاقات يلحظ قدمها وما كان به من تواصل وحميمية ، ويقف على ما اعتراه من صعاب كما يقف على مراحل تطوره بنجاحاته وإخفاقاته على مر الحقب والأنظمة التي تعاقبت على الحكم في البلدين ، وأنها قد واجهت مختلف التجارب والاختبارات وأصابها التوتر حينا والقطيعة حينا آخر وما ترتب عليها وقتها من آثار ولكنها بعزيمة المخلصين في البلدين وبقوة الإرادة والمصير المشترك عبرت الكثير من العقبات كي تصل إلى ما هي عليه الآن من استقرار منذ وصول الرئيس دبي للحكم حتى أياما قريبة ، وانتظمت مسيرتها واستقرت أوضاعها من ثم في اطر وقوالب واضحة أسفرت عن قيام لجان وزارية عليا وترسيم للحدود وتعاون حزبي وشعبي كبير ، وتواجد لجاليات ليست بالقليلة من كل بلد لدى الآخر ، وقنصليات بكل من الجنينة وابشى ، بل تنسيق اقليمى ودولي كبير شواهده ماثلة ، وغيره الكثير من الخطوات الداعمة لانطلاقتها قدما نحو الغايات الكبار وكل ذلك لا يخلو من عقابيل ومكدرات كشأن اى علاقة بين دولة وأخرى بها حدود ممتدة وتداخل قبلي ومصالح تجمع شعبها بالآخر فضلا عن تقاطعات السياسة الدولية ومصالح الدول الكبرى في الإقليم .
فالذي يريد أن يقّيم علاقات تشاد بالسودان عليه أن ينظر في سياقها الكلى وماضيها وحاضرها لكي يستشرف مستقبلها في ضوء التطورات الماضية عقب اندلاع النزاع المسلح في دارفور على يدي حركتي تحرير دارفور والعدل والمساواة ، والذي استهدف فيما استهدف في مخططه الآثم بعد تفكيك دارفور وتمزيق نسيجها الاجتماعي وتدمير بنياتها الأساسية على ضعفها وإعطاب الخدمات وإصابتها بالشلل بل زعزعة أركان الاستقرار في ربوعها ، رمى إلى إحداث اختراقات و فلتان أمنى على حدود البلدين يهدف لتعكير صفو هذه العلاقات بل نسفها إن تأتى ذلك من خلال تواجد بعض المجموعات المسلحة والفصائل على أراضيها وانطلاقة نشاطها الاجرامى من هناك وتسلل بعض أفرادها إلى المدن والأرياف التشادية لارتكاب مجازر وغارات نهب وسلب وعادة ما تنسب هذه الأعمال إلى الحكومة السودانية نكاية ، أو مجموعات أخرى تتهم بأنها تدعمها أو تغض الطرف عن فعالها ، يصاحب ذلك تحريك لحملات إعلامية مناهضة لتقارب البلدين تضعف من روح الإخاء والثقة المتبادلة ، قوامها جملة من الفتن ومؤامرات التشكيك أعدتها دوائر ومخابرات أجنبية تعمل على تغذيتها وتنفيذها بواسطة الحركات المسلحة فيما تقوم به من حريق ، هدفها الأول ضرب إسفين في علاقات البلدين وخلط أوراق الصراع بعد أن توالت هزائمها و خارت قواها وتشرزمت فصائلها وفقدت السيطرة على الميدان واستبانت الأطراف الراعية لسلام دارفور عدم جديتها في التفاوض ومن قبلها استبانة أهل دارفور لعدم أهلية هذه الحركات في تمثيلها وتسنم أمرها . والمؤكد أن استجابة القيادة التشادية لمثل هذه التوجهات بعد انخراطها الايجابي في تحقيق السلام في دارفور به غرابة و أول ما ترتد آثاره ونتائجه ستكون على الأمن التشادي مباشرة بمثل ما هي الآن على امن السودان والإقليم برمته . وما إعلان تشاد من يومين إغلاق قنصليتها في الجنينة وطلبها إلى السودان سحب قنصليته في ابشى لدواعي أمنية إلا احد بوادر أزمة دبلوماسية قادمة بإرادة تشاد و الخاسر الأكبر فيها تشاد حكومة وشعبا وهى التي جربت الحروب القبلية والصراعات في أطرافها وداخلها وكيف كانت نتائجها عليها إلى اليوم تكاد تشل كل أوجه الحياة فيها .
وفي سياق البحث عن بدائل لفك ضائقة الحصار والتضييق الذي تواجهه ، لم يكن مستغربا لاى متابع أن تلجأ الحركات المسلحة والأطراف الداعمة لها إلى تحييد تشاد لنفض يدها عن ما تضطلع به من دور طبيعي تجاه أشقائها في السودان ، والسعي لاستمالتها بنحو أو آخر إلى صفها إما بتخويفها مباشرة بنقل العمليات بقلاقلها إلى مسرحها الداخلي وتبعات ذلك على الأوضاع الهشة فيها وما تواجهه من متاعب هذه الأيام ، وهى من هيأت لهم الملاذ للانطلاق من أراضيها ووالت بعضهم ودعمته وعملت على إيجاد تسوية سلمية مع بعضهم والحكومة السودانية واستضافت المفاوضات باكرا ورعتها في أكثر من مدينة وما تزال ، ولعل مرد هذه الانتكاسة إلى التردد التشادي في اتخاذ مواقف واضحة تعزز من أمنه وتقارب من تعاونه والسودان لأجل مصلحة البلدين والشعبين واستقرارهما، وامن الإقليم وسلامته وهى اكبر من اى موالاة لمجموعة أو فصيل أو دولة ذات مطامع أو مصلحة ظرفية عابرة . لا ادري إن كانت القيادة التشادية تدرك هذه التبعات وهى تتراجع في خطها السلمي بتثبيت علاقات الجوار وصونها وتعزيز آفاق التعاون ، ولكنها على النقيض تستجيب لضغوط داخلية متنفذة موالية لبعض الحركات قبائليا، يضاف إليها الضغط الخارجي بأجندته ، فتتنكب تشاد الطريق وتبدأ في اتجاه عداء ومواجهة غير مدروسة العواقب لإضعاف السودان وهو يبدأ مرحلة جديدة من تاريخه بعد حرب طويلة وتبعات جسام ، استطاع في نهاية المطاف إيقافها باتفاق السلام الشامل في الجنوب وغدا ينشد الاستقرار والانطلاق ففجرت له أزمة دارفور التي استهدفت سلام السودان وامن تشاد لتعود بالإقليم إلي دوامة النزاعات القبلية وفتن الحدود وتبعاتها ، فتنقلب الجارة تشاد بهذه الخطوة التراجعية والتي يتوقع لها إن تتوالى تباعا على نحو ما يشاع خصما على استقرارنا كما هي اليوم اريتريا ورئيسها افورقى والمخطط ذاته قديم متجدد في فتح الجبهات على بلادنا وإعاقة تقدمها باستدامة استنزافه وطعنه في ظروف لا تحتمل مثل هذه المواقف.
لا احد يجهل أن تشاد وليبيا واريتريا لهم مصالحهم وأهدافهم في قبولهم بتواجد المسلحين على أراضيهم ولكن مدى سيطرتهم علي تحركاتهم ولجم خطاهم في تهديد سلمنا فهذا هو المحك !؟، وربما لم يكن هذا بخيارهم بقدر ما هي ركون لضغوطات الاجنبى واملاءته على المنطقة والهادفة لزعزعة الاستقرار وتمزيق السودان وطمس هويته وذهاب سيادته القطرية ، وتبقى الحقيقة أن الرهان على حركات مسلحة وترجيح كفته على مصالح الوطن والشعوب وسلم الإقليم والمنطقة هو سلاح ذو حدين ربما ارتد إلى خاصرة من يوفر الدعم والرعاية والملاذ ، ليصبح أكثر اشتعالا. هذه الحركات المهيمنة على حريق دارفور عجزت عن تحقيق اى شيء في ثورتها المزعومة غير الخراب والدمار هناك ، وتخوض التفاوض الآن مكرهة على مائدته وليس في نيتها الوصول إلى نهاية سياسية سلمية واختلافاتها وخروقاتها ملء السمع والبصر ، والأطراف الأجنبية الداعمة والمساندة لها فشلت في توحيدها ورتق فتقها الذي يزداد اتساعا كل صباح ، وبعض منسوبي الرعاية الإفريقية لسلام دارفور باتوا يتكسبون من إصباغ الادانات والتهم على حكومة السودان ويساندون التمرد جهرة ويسيئون لسمعة البلاد إقليميا ودوليا ، ودوائر كثيرة ومنظمات وكنائس مستفيدة من اى تعقيدات تأتى تتمنى للمفاوضات الجارية بابوجا أن تنهار اليوم لتقوى كفة الحرب ، ولعلاقاتنا بتشاد أن تتردى ويعملون لأجل ذلك ، وربما غدا ليبيا وأفريقيا الوسطي . فالقرار التشادي بسحب القنصليات به من الإشارات والنذر ما يكفى ينبغي أن يحاط بدوافعه في هذا التوقيت ، والذي يصدر من تصريحات للطرف التشادي غير مطمئن، وأشراط ذلك كانت في تقارب تشاد مع العدل والمساواة وعودة مجموعة من الإصلاح والتنمية إلى هذه الحركة وغيره من القرائن . السودان يلزمه حيال ما يدور ويتوقع عدم الإفراط في النوايا الحسنة ومسيرة السلام الحقيقي تبدأ في الانطلاق ، وان الاعتماد على هكذا مبادرة افريقية جديدة اسما بما تحمل من قنابل موقوتة دون كابح بها من المخاطر ما بها ، والإرهاصات توجب عليه الاستعداد للأسوأ قبل أن تتدحرج العربة إلى الهاوية التي يريدها أعداء السلام في المنطقة من تجار الحرب وسماسرتها الإقليميين .