قدم الراوي مشهد من موكب انتفاضة ابريل1985م،صمود المنتفضون أمام فوهات
البنادق:
" لماذا اعتقل يا ترى؟
سأل الناس لا سبب
حان الوقت ليعرف الناس يعتقلون
من دون سبب"
ثم ما تبع ذلك من تغيير في الحياة ، لم يستغل في تنمية حقيقية، بل خفت صوت
الانتفاضة سريعا وتلاشى، وكأن شيئا لم يحدث.
نزل الراوي من قمة جبل الانتفاضة، يبحث عن آثارها.. واسباب لقمة العيش. ظل
نشاطه موزع بين العمل والدارسة الجامعية، تراوده أشواق العثور علي شريكة
الحياة، في طيف ندى .. أميرة وسمراء.
وجد الراوي في تتطبيق أحد توصيات المؤتمر الاقتصاد الذي تلي الانتفاضة- اخذ
إجازة بدون مرتب لمدة عامين قابلة لتجديد، وجد فيها ضالة المنشودة، أزمع علي
الرحيل للعمل مؤقتا في الخليج،وجد فرصة عمل في شركة خليجية، اخذ إجازة بدون
مرتب، حمل حقيبة صغيرة، بعد أن ودع الأهل والأحباب والبلد ورحل رغم اغراءات
الابنوسية المكتنزة في الطائرة، ألا انه صمم علي ما هو مقدم علية .
وصل الراوي ومن معه إلى جدة، فالرياض مقر إدارة الشركة، كان نصيبه أن يعمل في
فرع في منطقة المدينة المنورة، التي تشرفت بالمصطفي صلي الله عليه وسلم. واصل
طريقه إلى مكان عمله الجديد ، تراوده أشواق الذهاب إلى البيت العتيق والتعلق
بأستار الكعبة.
بدأت أعراض ال " هوم سيكـنس" تظهر علي الراوي، في صورة أحلام اليقظة، أخذ يتذكر
الأهل والصحاب والأيام والليالي، التي قضاها معهم في ارض الوطن، الذي اصبح
بينهما الآن فضاءات وبحور، مدن تسبح في النور وليالي سرمدية كما الدهور.
استلم الراوي العمل في فرع المدينة التي ترقد في حضن البحر، مدينة صغيرة، تسير
الحياة فيها بنمطية، وكذلك دوامات العمل- دوامة الدوامات- دوام صباحي ودوام
مسائي في تتابع، تباعد بينهم عطلة نهاية الأسبوع، حيث الاسترخاء ومواصلة
الدوامات من جديد.
يبعث الراوي رسالة إلى صديقة وزميل العمل السابق/ غابريل ماجوك، يحدثه فيها عن
المنطقة وعمله الجديد في الغربة، حيث يذكر أن الغربة: " تعطى الواحد فينا
الفرصة ليتأمل نفسه ويراها من بعيد.. فرصة للتفكير واستعادة الذكريات وأعادة
اكتشاف النفس.".
يتذكر الراوي رحلة الباص إلى الأبيض في الخريف، فيتنفس دعاش الوطن.. يا وطن مثل
عسل النحل، ريحك طيب،وطعمك عذب، وحلاوتك صادفة، بين الاوطان اخضر طويل وقيافه.
بين تداعيات إجازة زميل الراوي حمد النيل، وطلعات نهاية الأسبوع علي الساحل،
يرسل رسالة إلى خطيبه سمراء يقول في ختامها:" انا جاى باذن الله ليك، ياوطن
اخضر وغالي، ونيل طامح يلالي، فوقو الطير والوزين..".
يروي الراوي حادثة د. محمد علي مع زميله الهندي وملابساتها، ويذكر حادثة شجار
حدثت له مع كمساري الباص في أمد رمان.
يكتب الراوى الي صديقه في السودان عن حكاية ماديبا- نلسون مانديلا.
يا وطن، مثل عسل النحل، ريحك طيب،وطعمك عذب،وحلاوتك صادقة ،بين الأوطان؛اخضر
طويل وقيافة، يواصل الراوي ذكرياته في أم د رمان.
الفصل الرابع عشر: سرب من الطيور يحلق مبتعدا عن الساحل
كنت مع "الهادى " ادرس في الجامعة نفسها في السودان. كانت بيننا كثير من
المساجلات والحوارات في الشئون العامة والاقتصادية منها خاصة. كنا في أريحية
تلك الجلسات، ونحن نخلف رجل علي رجل، نحمل المرأة السودانية مسئولية انفراط عقد
البيت اقتصاديا، رغم انه منضبط ومحافظ في الجوانب الأخرى كافة.
ولما حضرنا إلى هنا.. إلى الغربة كسودانيين أحضرنا معنا كل شيء جميل من الوطن،
وأحضرنا أيضا هذه العادة السيئة معنا – عادة التبذير..
صحيح القول بان الغربة تعطى فرصة للمرء أن يرى نفسه من بعيد، فرصة للتفكير
واستعادة الذكريات واكتشاف النفس.
بدأت أري الأمور بغير ذلك المنظار وأنا هنا من علي البعد، كتبت ل" الهادى"
لمواصلة الحوار:
التاريخ __
الأخ/ الهادى محمد آدم
السلام عليكم ورحمة الله،
وبعد
باعدت الغربة بيننا وكذلك اصبح حال الخطابات لا يجود بها البريد كما كان يفعل،
أرجو أن يكون المانع خير، سوف ا دخل في الموضوع مباشرة لأنني أفكر فيه كثيرا
هذه الأيام.. و ما اكثر التفكير هنا، عاوز أشركك في التفكير، كما اشتركنا من
قبل.. الغربة تعطى الواحد فينا فرصة ليتأمل نفسه ويراها من بعيد.. فرصة للتفكير
واستعادة الذكريات واعادة اكتشاف النفس.
.. هو الموضوع الذي تباحثنا حوله طويلا؛ التبذير عند السودانيين..
لا أريد أن أبدا بي هذا اقتصاد؟ يا غبي؟
أم انه اقتصاد غبي؟
ولكن أبدا من عند مارشال:
الاقتصاد هو العلم الذي يتعلق بدراسة تصرفات الفرد في نطاق أعمال حياته اليومية
وكيفيه حصوله علي الدخل واستخدامه لهذا الدخل.
الحصول علي الدخل واستخدام الدخل، هنا مربط الفرس إذا كان الحصول علي الدخل
سهلا، سوف يكون الصرف في اوجه غير مرشدة. فما بالك إذا كان الحصول علي الدخل
غير سهل، بل بعد مشقة وتعب كثير..
رأى الأول الذي تعرفه أن تبذير الأسرة السودانية، هو مسئولية المرأة؛ تغير
لأنها ليست هي وحدها المسئولة فالرجل هو أيضا مسئول عن التبذير. هذا التغير في
الرأي ليس سببه الغربة، وأن ساهمت فيه.
اعرف تلك النظرة.. وما تعني بها..
ليس تعاطفا مع الجنس الأخر أو الآري – اللطيف أن شئت، وخطب وده كنتيجة لأعراض
الوحدة، التي نعاني منها- هنا من علي البعد.
.. من منا لا يحب رائحة الرياحين.
الرجل للآسف مبذر جدا، بدليل حالنا هنا مثل حال الذي يغرف ويكب في البحر، لا
يوجد استخدام امثل للموارد.
لكي أكون عمليا وبعيدا علي التـنظير القديم وخلف الرجل علي الرجل، ننظر الي ما
قاله الحكيم الصيني:
" لا يكفي أن نحدد المهام وانما يجب أيضا أن تحل المشكلة ووسائل تنفيذها، إذا
كانت مهمتـنا عبور النهر من دون جسر أو قارب فان حديثـنا عن العبور لا يتجاوز
حدود الأحلام، مالـم تحل مشكلة الوسيلة أو الطريقة فالحديث عن المهمة عبث."
يجب أن تحدد الأوليات بدقة شديدة، و يصرف بضبط شديد على البنود المحددة،أي يوظف
الدخل حسب الأوليات بحيث يكون هناك قدر للادخار، وذلك بهدف الوصول لمستويات
عالية من الادخار المحلي، وبالتالي إلى مستويات عالية من التمويل المصرفي
للتنمية.
شفنا في الغربة كيف يوظف الآخرين القادمين من أصقاع الدنيا، مواردهم القليلة
بشكل جيد ومدهش.
وحتى يتجاوز هذا الكلام حدود الأحلام، يجب أن نعمل جميعا من اجل:
أن لا يضطر الناس – باستمرار- إلى التساؤل عن مصدر الوجبة التالية وكيفية
الحصول عليها ، وان لا يشكل عندهم هاجس كيفية معالجة الأمراض التي تصيبهم او
تصيب عضو الأسرة القريب..
واخيرا أرجو أن اسمع منك قريبا.
تحياتي إلى الجميع.
اخوك/ صالح حامدين
*
رغم محاولاتنا في إثناء "حمد النيل" من تنفيذ قراره المفاجئ بالعودة إلى
السودان، نحن زملائه في الفرع، وأصدقائه في المدينة الصغيرة الساحلية وفي المدن
الأخرى، إلا أن الفشل كان حليفا لكل المحاولات.
كان يريد أن يعود.. أن يضع ما في يده ويعود، لا يهم الثمن الذي يكلفه ، المهم
هو أن يعود.. يعود من حيث آتي.
بدا" حمد النيل" يتصرف بدون اتزان، هناك شيء ما اختل بداخله، لـم يعد تفكيره
سوى، سديد كما كان.
كانت العودة إلي ارض الوطن والي من نحب تمثل الحلم الوردي الذي يأمل كل منا
تحقيقه ، وكم سرحنا مع الخيال نعايش طقوس الاستقبال هنالك عند ارض النيليين.
ولكن رغم زهاء لون الورود وشذا عطرها، إلا إنها تحمل الأشواك. العودة يجب
أن يتوفر لها الحد الأدنى..
كنت أحاول كثيرا مع "حمد النيل" أن أقنعه بالعدول عن قراره المفاجئ بالعودة،
لان الحد الأدنى لـم يتحقق له بعد.
كانت حواراتنا في السابق تنصب علي وضعنا في الغربة؛ عدم تحديد مدة محددة
للغربة كخطة عمل لها فترة بداية – ونهاية واهداف تقيم في نهاية الفترة
المحددة. كنت أقول بأننا لايمكن أن نترك الحبل علي القارب هكذا. يجب أن يكون
هناك هدف واضح نسعى لتحقيقه، وإلا يكون وجودنا في الغربة ماله معني.
كنت ادلل "لحمد النيل" بـحالتي كيف إنني أتيت في إجازة بدون مرتب لمدت سنتين،
محددا أهدافا بعينها؛ تجهيز البيت، الزواج وعمل مشروع صغير مدر للدخل- يساعد
علي نوائب الدهر- ومن ثم العودة. بعد مراجعة الموقف في نهاية الفترة، اتضح أن
المدة المحددة لا تكفي لتحقيق الأهداف. تم تمديدها إلى عامين آخرين. عند قرب
نهاية فترة التمديد كشفت المراجعة أن كل الأهداف لايمكن تحقيقها، لكن يمكن
تحقيق الجزء الأكبر منها- تجهيز البيت والزواج.
وبدأت التفكير في العودة أم المواصلة- مواصلة مشوار الغربة - بعد إتمام
الزواج- صعوبة استقدام الزوجة لغير الجامعي، تجعل الزواج بالمر اسله اكثر منه
واقعا معاش ، وبالتالي الغربة اكثر وحشه.. إضافة إلى القناعة الشخصية أن يكون
الزوجين مع بعض، ليس كل واحد في مكان بعيد عن الاخر.
لذلك كان قرار العودة رغم اغراءات الغربة المالية..
عائد بعد انتهاء المدة، مكتفيا بما تحقق، عائد إلى الوظيفة والجامعة، عائد إلى
سمراء .. إلى الوطن الاخضر..
عاد "حمد النيل" رغم أن العود احـمد، إلا انه عاد بدون تحقيق أي شيء، وفقدان
أهم شيء كان يمتلكه .. عقله.
*
عند الغروب والشمس تضفي علي صفحات البحر لونها الأصفر المائل إلى الحمرة، وانا
ممتلئ بفرح لا تسعه هذه العباءة المفرودة إمامي بلون البنفسج، فرح عظيم تخلله
موجات من الحزن والخوف، الحزن علي صديقي "حمد النيل" الذي تعثر في الغربة
وسقط، الرجاء معقودا أن تكون كبوة جواد ينهض منها في الوطن ويواصل المشوار..
كنت وانا في ارض الوطن اشعر بين الفينه والأخرى بالغربة، كالذي يرى ذيل الأسد
خلف الشجيرات البعيدة،عندما حضرت هنا إلى وكره، وجدت آثار أقدامه وبقايا
فرائسه، لكنني لـم أجده ، ترى هل هو رابض ينتظرني هنالك في الغابة حيث أزمعت
الرحيل..
إحساس بالخوف أن لا يكتمل الفرح الكبير؛ الزواج من "سمراء" كيف تستقبلني البلد
وناسها؟ هل هي كما تركتها منذ أربعه أعوام أم تغيرت.. كنت أرى قبل أن أتى ما
يلي الساحل الشرقي اكثر اخضرارا، الآن أرى الخضرة الداكنة هناك خلف الساحل
الغربي.
أرى سرب من الطيور يحلق مبتعدا عن الساحل.
جدة
خريف 2002م
" انتهي الجزء الأول"
[email protected]