الذكري السادسة لرحيل مولانا عبدالمجيد إمام
استقلال القضاء وسيادة حكم القانون من مظاهر السودان الجديد
محاربة الفساد والمحسوبية من أولويات حكومة الوحدة الوطنية
محمد الزين محمد
محام ، أوسلو
في مثل هذه الايام من أكتوبر عام 1999م، إنتقل عبدالمجيد إمام رجل القضاء المشهور رئيس المحكمة العليا، ومن مفجري ثورة أكتوبر المجيدة. حيث كان الراحل المقيم من المحامين القلائل الذين عملوا بجد وإخلاص للدفاع عن حقوق الانسان السوداني دون تكسب أو تبضع من أجل مال أو منصب أو دنيا زائلة. هكذا عاش عبدالمجيد وهكذا أنتقل للرفيق الاعلي وللجنان الموعودة.
رحل عبدالمجيد وفي مواجهته عدد من تهم جنائية متعلقة بالتحريض والتخطيط للإطاحة بنظام الانقاذ وذلك لمطالبته بالحريات في وطنه السودان، وهو الذي بلغ الثمانين من عمره، ولم تشفعه الصفحات الناصعه من تاريخه القضائي أو الوطني، رحل عبدالمجيد إمام وهو غاضب لما آل اليه حال القضاء السوداني الذي تحول الي ذراع للسلطة التنفيذية، وفي ظل غياب سيادة حكم القانون الذي أدي الي إستشراء الفساد المالي الذي عم البلاد وأضر بالعباد.
لماذا إستقلال القضاء ؟
بقدر ما كان تاريخ السودان حافلا بعهود الاضطهاد والظلم وكبت الحريات، بقدر ما كان حافلا بعهود الديمقراطية والعدالة واحترام حقوق الانسان. ومن قبل إنقلاب الانقاذ في يونيو1989م، كان أهل السودان يرتلون القران ترتيلا ويفهمون معانية ومضامينه ويطبقونها في حياتهم ومعاشهم، في الحل والترحال. فالقرآن الكريم يعلن للملأ في آياته الاولى ان "لا اكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي"، ثم يؤكد على مبدأ "لكم دينكم ولي دين". وسلوك الرسول محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام"، في الدفاع عن الفقراء والارقاء والمعذبين، مثال حي يحتذى به في إحترام مبادئ حقوق الانسان وتعزيزها وحمايتها. وهذا "عمر بن الخطاب" الخليفة العادل رضي الله عنه ، يطلق شعاره العظيم، وهو يؤنب واليه، لاستكبار ابنه على احد افراد الرعية فيقول: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا". وكان أبن الخطاب يقول للناس: من رأى منكم في اعوجاجا فليقومه".. وكان الناس يردون عليه بقولهم "والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا". وقد روى ان احد الناس قال لعمر: "اتق الله!".. فقال الحاضرون: "او تقول لأمير المؤمنين اتق الله".. فغضب عمر وقال: "الا فلتقولوها، لا خير فيكم اذا لم تقولوها، ولا خير فينا اذا لم نسمعها" . ولكن بعد إنقلاب الانقاذ كان الانقلاب علي الحريات ومبادئ حقوق الانسان التي أكدها الاسلام وحماها وعززها، ولقد كرم الله الانسان ولكن في عهد الجبهة الاسلامية القومية أذل الانسان السوداني وامتهنت كرامته وانتهكت حقوقه وأغتصبت نسائه وأخريات تحولن الي ارامل بسبب محرقة الجنوب والان في دارفور والشرق الحبيب.
كان استاذنا الراحل عبدالمجيد إمام يداوم علي فتح مكتبه الكائن بأم درمان لشباب المحامين الناشطين في مجال حقوق الانسان للتفاكر والتباحث لما ال اليه حال حقوق الانسان السوداني وخاصة أن فترة ما قبل المفاصلة بين الترابي والبشير شهدت انتهاكات واسعة لحقوق الانسان وخاصة وسط طلاب الجامعات ومن أمثال الشهداء: التاية، محمد إبراهيم ، بشير الطيب، سليم، محمد عبدالسلام ، ميرغني محمود النعمان، واخرين من الذين قتلوا برصاص الامن داخل الحرم الجامعي، وأيضا من النقابين دكتور علي فضل الذي قتل اثناء التعذيب في احدي بيوت الاشباح.
كان الراحل عبدالمجيد امام حزينا ومستاءا لمذبحة رمضان (أبريل 1990) و التي قتل فيها 28 من شباب القوات المسلحة بدون محاكمات عادلة، وكان يردد الراحل المقيم عبدالمجيد بأهمية كشف أسماء جميع الذين تم إعدامهم من ضباط وضباط صف وجنود ، وكشف قبور الشهداء و وصاياهم وتسليم ذويهم متعلقاتهم الشخصية.
في عام 1997م كان عبدالمجيد إمام سعيدا بمشاركة كاتب المقال في الدفاع عن العسكريين والمدنيين امام محكمة الميدان الكبري والمعروفة بمحاكمة العقيد حمال عبدالله واخرين وإتهامهم بمحاولة إحتلال منطقة البحر الاحمر العسكرية، ورغم ظروف المحكمة الغير عادلة ومقرها بإدارة الاستخبارات العسكرية، الا أن الدفاع نجح بحمد الله وتوفيقه في ابعاد أحكام الاعدام علي المتهمين، وذلك بتفنيد أدلة الادعاء الضعيفة والمبنية علي تعذيب المتهمين وشهادة موتي،كما أن الوضع الدولي والمحلي كان مستاءا من تجربة مذبحة رمضان والعمل علي عدم تكررها. لذلك جاءت ادانه المحكمة لجميع المتهمين باحكام مختلفة من سجن وطرد من الخدمة.و كان الانتصار الذي حققه الدفاع بفضل من الله هو الحفاظ علي ارواح المتهمين من مقصلة الانقاذ، ومواصلة النضال من أجل التحول الديمقراطي في البلاد.
كان الراحل المقيم عبدالمجيد إمام مستاءا من التجاوزات لحقوق الانسان في السودان والتي كانت تنتهك تحت سمع وبصر وعلم القضاء السوداني، الذي فقد هيبته وسمعته، حتي رددها المجتمع الدولي بصوت جهور أن السودان يعاني من قبضة السلطة التنفيذية للقضاء، وبالتالي وفي ظل غياب استقلال القضاء وسيادة حكم القانون ،فلا مناص من تقديم المتهمين في الجرائم ضد الانسانية في دارفور أمام المحكمة الجنائية الدولية لكي لا يفلت المجرمين من العقاب.
وكان عبدالمجيد إمام يؤكد لشباب المحامين أن شرعة حقوق الانسان المعلنة عشية قيام الثورة الفرنسية عام 1789، نقطة تحول في تاريخ حقوق الانسان في العالم. فقد بدأت دول العالم منذ ذلك التاريخ تحسب لهذه الحقوق حسابها، في دساتيرها وقوانينها. وجاء"قانون التحقيقات الجنائية" الفرنسي، بخاصة، لعام 1808، ليحيط المتهم بمختلف انواع الضمانات، وذلك للحفاظ على حقوقه في الحرية والسلامة المادية والمعنوية. وقد حذت اكثر الدول حذوه، وتبنت مبادئه، الى ان سادت هذه المبادئ دساتير وقوانين دول العالم. وبدأت المسيرة المعاصرة نحو ترسيخ حقوق الانسان في المواثيق الدولية مع "الاعلان العالمي لحقوق الانسان"، الذي اعتمد من الجمعية العامة للامم المتحدة في 10 كانون الاول ديسمبر 1948. وكان هذا الاعلان فاتحة عهد لعشرات الاعلانات والاتفاقيات والعهود الدولية التي تدعم حقوق الانسان وتؤكد على احترامها وتطبيقها.
لماذا سيادة حكم القانون؟
منذ غلبة العقل على الغريزة ومع تطور الحضارة البشرية وتحولها من شريعة القوة - شريعة الغاب - الى شريعة الحق، نشأت الحاجة الى القضاء وسيادة أحكام القانون. فعندما يكون الحق للقوة، يتكفل القوي من نفسه وبذاته بأن يمنع اعتداء من هو اضعف منه عليه ، او بأن يأخذ منه حقه، لهذا كان لا بد للفرد ان يدرك شيئا فشيئا بان قوة الجماعة هي الاقوى حتما ودائما، وأن من مصلحته الفردية ان يخضع لقوة واوامر الجماعة بمقابل ان تتولى الجماعة حمايته من كل اعتداء على شخصه او تجاوز على حقوقه، وان يتعاملوا في علاقاتهم على اساس ما تعارفوا وتواضعوا عليه بأنه الحق، وهو مجموع ما رسخ في النفوس من كل مل تلاقوا وتعاقبوا عليه جيلا بعد جبل من التجارب الدنيوية والمعتقدات الدينية والمفاهيم الاخلاقية والعادات والتقاليد. ومتى اصبح الحكم للحق، فان المحتكم الي الحق لم يعد يستطيع ان يحصل بنفسه ومن ذاته على الحق الذي يدعيه، والا فإنها الردة الى تحكيم القوة. فلا بد عند التنازع على الحق من طرف آخر يفصل فيه بين الطرفين. هذا الطرف هو الحكم او القاضي. من هنا يصح القول، أن القضاء وسيادة أحكام القانون (بمفهومهما البدائي قبل التنظيم) قديم قدم الحق، نشأ مع نشوء فكرة الحق تلبية لحاجة تحقيقه واقراره، ومن ثم فانه لا يزال حاجة تنمو وتتطور الى الافضل والاكمل والارقى لدى كل شعب وكل دولة، وهو الاساس في عملية البناء الوطني وهو الاساس لاي حكومة تنشد الوحدة الوطنية وترغب في سلام شامل وعادل ودائم وتنمية مستدامة.
هذه الحاجة التي استدعت وجود إستقلال القضاء وسيادة لاحكام القانون، وتلك الغاية التي وجد من اجل تحقيقها وهي احقاق الحق واقامة العدل، انما هي تشترط حياد الحكم الذي هو القاضي. فبدون هذا الحياد، اي عندما ينحاز القاضي الى هذا او ذاك أو يكون أداة للسلطة التنفيذية كأحد أطراف النزاع لكأن هذا الاخير هو الذي يحكم لنفسه بنفسه تحت ظل القاضي وعن طريقه وباسمه، فنكون امام ردة جديدة الى تحكيم القوة، كيفما اختلفت وسائلها، تحت اسم وظاهر الحق. وهذا ماحدث شخصيا لعبدالمجيد أمام رئيس حزب المؤتمر الوطني المؤسس والمعلن عنه في يناير 1986م ومركزه العام بالصافية، فحينما اردت الجبهة الاسلامية القومية أن تغيير ثوبها ولتعلن عن أسم جديد أختارت أسم الموتمر الوطني، وفي التاريخ القريب يعلم أهل السودان أن الدكتور الترابي مولع بتغيير الاسماء وفقا لفتوي لكل مرحلة اسم جديد وحينما يتسخ بالفساد والمحسوبية وغدم رغب الشارع السوداني في التعامل معه يعلن عن اسم جديد لمرحلة جديدة، وهذا ما دفعه لاختيار اسم المؤتمر الدلالة التنظيمية والفكرية لمعاني الديمقراطية والشوري، وعندما اعلنت الحكومة عن اسم المؤتمر الوطني لحزبه الجديد، تقدم غبدالمجيد امام كاحد مؤسسي الحزب- مع غيره مثل مركزية مؤتمر الطلاب المستقلين بالجامعات والمعاهدالعليا والثانويات والخريجين بالاضافة الي الوطنيين وسط الاطباء والمهندسين والمحامين واساتذة الجامعات والقطاعات المهنية الاخري- برفع دعوي قضائية ضد الحكومة ومسجل للاحزاب بأن المؤتمر الوطني اسم لحزب موجود من عام 1986 وله تاريخ وبرنامج، وما حدث هو قرصنة من الحكومة، ولما كان القضاء أداة من أدوات السلطة التنفيذية شطبت الدعوي بدون أي سند قانوني سليم. ومن ناحية أخري يشاهد قضاة السودان أحد أعلامهم مهان في صندوق خلفي لعربة تايوتا بوكس تتبع لجهاز الامن ويعتقل في حراسة بالقسم الاوسط أم درمان وعمره الثمانين عاما بدون وجه حق!! أي قضاء هذا؟ والكل يعلم أن العدل أساس الملك.
بالرغم من هذا فان هناك بعض القضاة الذين يرفضون وسائل الضغط والتأثير عليهم او من التدخل في شؤونهم عموما، فهؤلاء قلة، لا سبيل الى مواجهتها او مجابهتها، ان استقلال القضاء شرط لتحقيق الحياد، والحياد شرط لاحقاق الحق وإقامة العدل. انهما شرطان مترابطان متلازمان يتحصل منهما أن لا عدل بدون حياد ولا حياد بدون استقلال. وهذا ما يخلص بنا الى قول الراحل المقيم عبدالمجيد إمام:
ان القضاء اما ان يكون مستقلا او ان لا يكون، لانه يصبح عندها خدعة شائنة، ظاهرها الحق والعدل وباطنها الجور والظلم .
ان الحرية التي يقوم عليها استقلال القضاء هي حرية ملزمة ومسؤولة، التزامها القانون ومسؤليتها القضاء بوحي من الضمير. فاستقلال القضاء لم يشرع لينعم به القضاة، بل لينعم به المتقاضون. فلم يكن في الماضي دساتير تعترف بمبدأ استقلال القضاء، ولا كانت قوانين تعمل على حمايته وصونه، ومع هذا لم يكن الالتزام بمبدأ استقلال القضاء غائبا كليا عن واقع الممارسة القضائية. واصبحنا في عالم الاعلانات والدساتير والنصوص، ومع هذا لا يسلم القضاء دائما من التجاوز على حرمة استقلاله، ولا يسلم القضاة من الضغط ومحاولة التأثير عليهم من هنا وهناك، ومنهم من يسقطون، ومنهم من لا يسلم من ذات هوى وشره نفسه فالعبرة من حيث النتيجة للنفوس لا للنصوص، نقصد بذلك ايمان صاحب السلطة باستقلال القضاء مما يردعه عن التدخل في شؤونه، وايمان القاضي باستقلال وظيفته وخطر مسؤوليته مما يقويه على الصمود بوجه كل تدخل او تجاوز قد يتعرض له من اي سلطة او من شخص او من جهة. ان استقلال القضاء قد اصبح مبدأ مستقرا راسخا في ضمير العالم ووجدانه، فمهما استبيحت الانقاذ حرمة هذا المبدأ فإن الحاضر هو على كل حال خير من الماضي ولا بد عاجلا او آجلا ان ياتي يوم يتحقق للقضاء استقلاله الكامل، قولا وفعلا واعلانا وتطبيقا، وعنئذ يكون السودان الجديد.
لماذا محاربة الفساد والمحسوبية؟
ان سير الانسان على طريق التطور الحضاري مستمر ومتواصل، واستقلال القضاء وسيادة حكم القانون ومحاربة الفساد والمحسوبية عنوان للمفهوم الحضاري للجماعة الانسانية، ويقول عبدالمجيد إمام: ان قدرة الانسان وقابليته علي محاربة الفساد هي عملية صعبة وليست مستحيلة وهي في الواقع غير محدودة، وان هذه القابلية التي اصبحت مستقلة عن كل فكرة تريد ايقافها لا نهاية لها ،وان اساس محاربة الفساد هو استقلال القضاء وسيادة حكم القانون". وما حدث خلال ال16 عاما الماضية من فساد ما يزكم الانف في سودان الانقاذ هو إستشراء الفساد المالي والانفاق الحكومي الغير مسؤل لاوجه الصرف، وإعتراف الترابي بذلك، وسجلات نيابة الثراء الحرام والمال المشبوه ونيابة المال العام تحتوي علي جزء يسير من جرائم صغار الساسة وصغار الموظفين اما جرائم امثال الحوت الازرق فلامر لله وحده كما يظن البعض. فالفساد مثل السمكة لا تعيش الا في بيئه مائية ، فالفساد لا يعيش الا في بيئة يغيب عنها استقلال القضاء وسيادة حكم القانون كما شبها الراحل عبدالمجيد إمام ، فاذا كان هناك قانون رادع و قضاء نزيه واداءة تنفيذية رادعة، لماكان هناك فساد وفاسدين ، ففي ظل نظام ادراي ومالي وقانوني سليم تضعف فرص الفساد ويخشي الفاسدين من العقاب. لذلك أي توجة نحو حكومة وحدة وطنية بدون مراجعة للانظمة الادارية والمالية هو إعتراف بالفساد السابق وحماية للفاسدين وهم بالضرورة مثل السرطان فإن لم يستأصلوا من جذورهم فسوف يؤثرون في جسد واطراف الحكومة الجديدة ولن ينصلح الحال وحتما ستعود حليمة لعادتها القديمة.
اللهم أرحم عبدالمجيد إمام بقدر ما قدم لدينه ولشعبه من قيم ومبادئ وسلوك قويم ونموذج طاهر..
اللهم أدخله الفردوس الأعلي،،
أمين..أمين ..أمين
محمد الزين محمد، 21 أكتوبر2005، أوسلو