عبد الماجد عباس محمد نور عالم
إن حركة تحرير السودان قامت على أرضية ٍ من التوازنات و الحسابات القبلية البحتة , فقد تشكلت على عجل و اكتفت في أطوار تشكلها و تخلقها المتعجل بأسماء قبائل الفور , والزغاوة , و المساليت , و اتخذت منها أعمدة تبني و تقيم عليها هياكلها التنظيمية دون أي اعتبار لإسهام كل قبيلة ٍ و تفاصيل مشاركتها في دفع تكاليف فاتورة هذا البناء , من ناحية عدد الأفراد المقاتلين , و تقييم حجمها و تأثيرها العسكري و ثقلها الميداني , فإن في تحديد إمكانية كل طرف من هذه الأطراف الثلاثة , لهو القياس الحقيقي لحجمها و بالتالي نصيبها و نفوذها ككتلة داخل الحركة و تحديد مدى تأثيرها و حدود قدرتها في إصدار و تنفيذ السياسات الداخلية , و صياغة الضوابط التنظيمية و إجازتها, ( وذلك هو الميزان القسط و الوزن الحق الذي يحكم و يتحكم في طبيعة كل جسم مركب ٍ متحالف فهي شراكة و مشاركة بالضرورة و الشراكة دائماً ما تقوم علي نسب محددة و تحديد النسب فيها يكون بحجم الأصول المدفوعة بواسطة كل شريك و بذلك تتحدد أنصبة رأس المال و بهذه النسبة توزع الأرباح و الخسائر ) فهذا ما يقوله علم المحاسبة و هو علم للوزن و دقة المعيار و ينطبق قياسات الوزن هذه في الأجسام و أينما كانت الأوزان بالرغم من إن الحجم العددي و الثقل المادي هو المعيار المؤثر في حجم القرار و كيفية صناعته , و أنه المرابط و المداميك و الأحجار المتراصفة و المتشابكة بعضه فوق بعض مكونا ً أساس البناء و قاعدته و مسئولاً عن تشكل زوايا التنظيم وأركانه , و تحريك ذرات ِ عناصره المتفاعلة و اصل نواة خليته الفاعلة , فمن خلالها تتحدد أوزان الأجسام المتحالفة و مقدار أحجامها و مساحة نفوذها و قوة تأثيرها فنصيب كل كتلة يقوم على مقدار أثرها و حجم تأثيرها , و هذا ما يكون في التحالفات في ظل ( الظروف العادية و الطبيعية ).., غير أن تحالف هذا المثلث الذي شكل دعائم حركة تحرير السودان الرئيسية , ولدت في ظروف ٍ غير طبيعية ٍ و غير عادية , لذلك قد غابت تلكم المعايير و اختفت في توزيع المناصب القيادية و عصب هياكل حركة تحرير السودان (الرئيس و نائب الرئيس و الأمين العام ) السقالات الأساسية في حمل الثقل التنظيمي و المسامير التي تربط و تشد بين أطراف هذا المثلث الذي يكون من قبائل الفور و المساليت و الزغاوة , فأصبحت هذه التقسيمة عبارة عن مفتاح الصيغة الابتدائية و شفرت المعادلة الأولية في تركيب التوازن داخل حركة تحرير السودان فكانت رئاسة الحركة من نصيب الفور بقيادة (عبد الواحد محمد نور) و توكأ المساليت على منصب نائب الرئيس (خميس عبد الله أبكر ) و تمددت قبيلة الزغاوة ممسكة بالأمانة العامة ( مني أر كوري مني) عبر بوابة هذه التوازن تم تشكيل الإطار التنظيمي للحركة عبر هذا العرف الثلاثي الملامح فصارت أنصبة ٍ مقسومة و لكل قبيلة جزءٌ معلوم , و هكذا تمدد هذا الفهم و نمى هذا الإحساس رويداً رويدا ثم طغى و هيمن على اغلب أفراد هذه الكتل الثلاثة حتى رأت آن لها كامل الحق و السيادة في أن تتصرف في الحركة كيفما شاء ت فهي تراها امتداداً طبيعياً لها و لا يحق لأي كائن ٍ مهما كان أن ينازعها , و في ذلك مكمن الخلل , و اصل العلة و الداء , فان مثل هذه الرؤية تعيق من تطور الحركة و تحد من إمكانية التفاعل فيها و تعطل قدرتها على التجديد و المرونة تمنعها من الاندماج و التوحد فتتيبس ويحول التنظيم إلى كتل متصارعة و غير منسجمة فالكل يصير متعصب لكتلته بدوافع العرقية و القبيلة لا برابط القضية و لا بالأفكار , و لا بالقدرة على إنجاز المهام و لا بقدرة الوصول إلى الأهداف الجماعية و تغليبها , ففي مثل هذا المناخ تصعب ممارسة الديمقراطية التنظيمية ككتلة, و جسم ٍ واحد متحد , و متجانس , و يصعب الجلوس فوق طاولة واحدة لاتخاذ التدبير و القرارات و اختيار القيادات و الكفاءات بصورة ٍ جماعية تنبع من التمثيل الجماعي باعتماد القدرة و الدراية .... و لعل هذا جزء ٌ من أسباب الأزمة الحالية داخل حركة تحرير السودان .
إهمال جانب الكثافة العددية للمقاتلين و إهمال حجم تأثيرهم في الأحداث و تقييم ذلك التأثير و جعله أحد مكونات الوزن و نقاطه و المعيار الحقيقي لذلك الاتزان و حجمه أدى إلى بروز أصوات المقاتلين الذين اعتبروا أنفسهم اكثر من مجرد كيان عسكري و بذلك يرون ضرورة تمثيلهم في لعب دور ٍ سياسي داخل إطار قيادة الحركة , بذلك يكونوا هم الذين يقررون كيفية اختيار القيادة عبر الثقل الميداني و العددي للكيانات المكونة لحركة تحرير السودان ( الزغاوة و الفور, و المساليت ) عبر مؤتمر تأسيسي يقوم بطريقة ديمقراطية و يعتمد على الكثافة العددية الميدانية بكل تأثيراتها و في ذلك المؤتمر يتم اتخاذ القرارات السياسية و تحديد العلاقة التنظيمية بين القيادة السياسية و العسكرية و تشكيل الكيان على أساس المشاركة الحقيقية والمبنية على قدرات كل طرف من الأطراف و مساحة تأثيره و حجم تحكمه في الأرض..., ومما لا شك فيه بأن هذا الطرح المنطلق من قيادة الميدان ,قد يصيب معادلة التوازن السابق التي كونت تحالفاً اكتفي بمشاركة القبائل تحت مظلته كقبائل فقط من دون تحديد لحجم هذه المشاركة و نصيب كل طرف و من حيث عدد أفراده و وفرة عدته و عتاده و مساحة تأثيره و حجمه ... إن مثل هذا الطرح سيشكل هزة كبيرة داخل الكتل القبلية المكونة لهذا التنظيم و يضعها في امتحان عسير ربما لا تصمد فيه هذه الأضلاع المكون لمثلثها و قد تهتز أركان البناء و التركيبة المشكلة لحركة تحرير السودان ... إذا قام المؤتمر العام سيكون الفيصل في الاختيار و تشكيل الإطار القيادي بالأغلبية العددية للحضور المتواجد في المؤتمر و القوة العددية و العسكرية لكل طرف سيكون أداة الحسم و التغير .. فقبيلة الزغاوة تمتلك قوة ضاربة و عدداً أوفر من المقاتلين و تتحكم في مساحة مقدرة مقارنة بقوات الفور و المساليت ... لذلك فهي التي تسعى لتغير المعادلة القديمة و إبدالها بأخرى جديدة تبنى على الميدان و قوته الضاربة فان من يمتلك الغلبة فيه , و عنده الكثافة القتالية و العددية سيتمكن من التحكم في حركة تحرير السودان , قبيلة الزغاوة تميل كفتها مرجحة القبيلتين , وبذلك تدعو لحسم الخلافات التي تقع بين الشركاء في ساحة المؤتمر العام التي دعت له بالأراضي المحررة , و هذا طرحٌ فيه الكثير من المنطقية و يرتكز على ثوابت ديمقراطية ( بحسم الخلاف في وجهات النظر عن طريق تغليب رأي الأغلبية و قوة الصوت الانتخابي ) بينما تتمسك الأطراف الأخرى بنصوص المعادلة الأولى و معيار التوازن القديم ( الذي تبنى تشكيل الحركة بالتمثيل الصوري لها و الذي وزع المناصب القيادية بنسبة ٍ اسمية ٍ لكل قبيلة من القبائل الثلاثة ) فتتلخص وجهة نظرها في أن المؤتمر العام لا يحافظ على هذه النسب التقسيمة و لا يهتم بهذه الموازنة و بذلك يكون المؤتمر العام ما هو إلا محاولة إقصائية و حركة التفافية تهدف لابعاد الفور عن زعامة الحركة و تري إن في ذلك تكريساً لهيمنة قبيلة الزغاوة ضمن سياق محاولاتها التحكمية بغرض الانفراد بجسم الحركة و احتكار قيادتها .
إن التصارع بين هذين الرأيين قد كون استقطاب و سبب تجاذب بين أضلاع المثلث المشكل لحركة تحرير السودان , و من ثم تحول إلى تيارين متجاذبين مما اسهم في عدم الانسجام و إشاعة جو من تضارب القرارات فبدأت أركان التنظيم مضطربة ً و مهتزة , و إذا استمر الأمر على ما هو علية الآن فسيؤدي إلى انشطار الحركة و تفكيك أركانها و ربما ينشب صراع بين مكوناتها و وقتها ستخسر دارفور قضيتها و يتقلب الملايين من أبناءها الذين نكلت بهم الحروب و شردهم الدمار سينقلبون على أعقابهم خاسرين , وهذا ما لا يرضاه عاقل مؤمن بعدالة قضية دارفور و تواقا ً لحلها , فهل لهذا المأزق من خروج و هل لهذه المعضلة من حل يحفظ للناس حقهم و وحدتهم و ترابطهم , فهل يمكن تجاوز كل الأخطاء و السمو فوق الأنا , و تحقيق و تغليب مصلحة دارفور و أهلها فوق المصالح الصغيرة و الأطماع الشخصية .
قديماً قيل إذا عُرف السبب بطل العجب و إذا عرفنا أسباب المرض و مسبباته سهل علينا العلاج و المعالجة , فإذا نجحنا فيما ذهبنا إليه في محاولاتنا التحليلية و التشخيصية في رصد مكامن الاختلال و الخلل داخل جسد حركة تحرير السودان – دارفور و إن أصبنا في تلمس جذور الداء و عرفنا مواطن الأوجاع و الآلام , فإن لكل داء ٍ دواء .
أذن كيف لنا أن نعالج هذا الخلل بما يتفق و فرضيتنا هذه , أحسب أن ذلك ممكناً إذا ما تمكنا من إيجاد و صفة و صيغة تحفظ التوازن القديم و تحقق في نفس الوقت اطروحات المؤسسية و تكفل ممارسة الحق الديمقراطي في إطار التنظيم و حق إجازة القرارات و انتخاب القيادات من داخل المؤتمر التأسيسي لهيكلت التنظيم في تشارك مع القوات الميدانية و ضرورة تمثيله في أجهزة التخطيط و التنفيذ السياسي . قلت إن هناك ثلاثة دوائر رئسيه, مؤثرة و فعالة بجسم حركة تحرير السودان و تحديداً هي دائرة الرئاسة , و الأمانة العامة و القيادة الميدانية وإن هذه الدوائر قد شكلت أس الصراع و بؤرة التوتر داخل جسد الحركة و ذلك نتيجة ً لعدم حملها لخصائص الحركة التكوينية و صفاتها التوازنية في تركيبتها الداخلية ... و بمعني اكثر تجريداً و وضوحاً فإنك لتجد تمثيل قبائل الفور و الزغاوة و المساليت داخل حركة تحرير السودان فإن ذلك هو الإطار العام و القاسم المشترك و الرباط الجامع لهم و لكنك لا تجد مثل هذا الشرط العام ممثلاً داخل الدوائر الثلاثة فإنك لا تكاد تجد للزغاوة و المساليت و ممثلي الميدان و غيرهم في دائرة الرئاسة و نجم عن هذا إفراز الإحساس بأن الرئاسة قد غدت ضيعة و ملكاً حراً و حكراً محضاً لقبيلة الفور وبها تفعل ما تريد دون ضابط ٍ أو رقيب و نفس هذا الأمر ينطبق على دائرة الأمانة العامة , فقد ساد الإحساس عند الأطراف الأخرى من أنها صارت حاكورة من حواكير الزغاوة و ذلك نتيجة لعدم تمثيل الفور و المساليت و التكوينات الأخرى فيه , وقس على ذلك في دائرة الميدان و إفرازات ذلك أدت إلى تكوين تيارين متعاركين متصارعين غير منسجمين و قيادة مضطربة و تنظيم مهدداً بالتلاشي و الانهيار و الذبول ...أذن في تحويل هذه الدوائر الثلاثة من حالة الممارسة الفردية و تحويلها إلى حالة الممارسة الجماعية تحت ظلال المؤسسية و بذلك يكون لدينا مؤسسة الرئاسة تتمتع بكامل الأهلية و تتبع للرئيس و لا يحق للرئيس إصدار أي قرار دون الرجوع اليها تجيز مؤسسة الرئاسة قراراتها بالأغلبية مع ترجيح تام لكفة الرئيس في حالة تساوي الأصوات مثلاً , هكذا يكون الأمر في كل الدوائر ... هذا مثال لتقريب فكرة توسيع الدوائر الثلاثة و مزج العناصر المشكلة لحركة تحرير السودان فيها و تقييد السلطة الفردية داخل كل دائرة من الدوائر والتخفيف من حدة صبغة القبيلة الواحدة وانفرادها بالدائرة , ممارسة اكبر قدر من الديمقراطية داخل الجزيئات التنظيمية مع جماعية المشاركة في إصدار القرارات , و خلق الاستقرار التنظيمي مع تقليل فرص التصادم و التحاكك الداخلي .
بهذه الفرضية يمكن أن نحفظ شكل التوازن مع توسيعه ليستطيع استيعاب ممارسة الديمقراطية التنظيمية و يمكنها من خلق هياكل ترتكز على مؤسسات ٍ تقوم على جماعية الأداء . و على الذين يعملون من اجل القيام بالمؤتمر التاسيسي أن يدعوا لتوسيع هذه الدوائر الثلاثة مع الإبقاء على رموزها و رؤوسها الحالية , و بذلك يمكن تضيع الفرصة على الذين يراهنون و يسعون لتفكيك هذه الحركة و هزيمتها بسلاح أبناءها و بناتها , فتنهار قضيتها و قضية كل أهل دارفور بل هي قضية السودان أجمع .