لعلّ واحدة من أسوأ أقدار السودان الكثيرة التي ظلت تلازمه هي إتباع حكامه لسياسة المناطق المقفولة لإدارة بعض أجزائه التي قد لا تنسجم مع أهواءهم وأفكارهم الأيديولوجية. فأتبع حكام السودان على مر التاريخ سياسة بناء الحواجز لفصل أجزاء من السودان أو عزلها، تأديباً لها أو إجباراً لها على الذوبان في المركز، أو زهداً فيها، لأنها أصبحت تشكل عقبة كئودة أمام برنامجهم السياسي. وقد تنوعت هذه العوازل والحواجز فتارة كانت حواجز قانونية تم تنفيذها بموجب قانون، ثم ظهرت في شكل مليشيات قبلية عربية تم تشكيلها لحماية خطوط التماس القبلي، أو لتغيير الهويات الإفريقية بفعل السلاح، وأخيرا ظهرت في شكل سياسات اقتصادية تهدف من ورائها السلطة الحاكمة خلق مزايا اقتصادية واجتماعية لفئات من الشعب، وتهميش فئات أخرى.
استن هذه السياسة المستعمر الإنجليزي كما هو معروف لفصل الجنوب في بداية العشرينات بموجب قانون عرف باسم المناطق المقفولة، كان الغرض منه تنمية الجنوب ثقافياً واقتصادياً وسياسياً بصورة منفصلة عن بقية السودان. فلم تنجح تلك السياسة التي طبقت لعقدين ونصف من الزمان، وخرج الجنوب منها متخلفاً اقتصادياً وسياسياً.
وقد ورثت حكوماتنا الوطنية من ضمن ما ورثت من المستعمر إتباع سياسة المناطق المقفولة، بعد أن عجزت عن حكم السودان وإدارته كاملاً بمساحته الشاسعة وتنوع شعوبه وتعدد أديانه. فمورست هذه السياسات كأمر واقع على كل من جبال النوبة ومناطق الانقسنا لفترات طويلة. ثم طبقها الرئيس الانتقالي سوار الذهب عندما انشأ قوات من قبائل عربية لحماية خطوط التماس الإفريقي، ومن بعده انشأ الصادق المهدي قوات المراحيل كعازل لكبح خطر التمدد الإفريقي على بقية السودان العربي، وذلك كجزء من إستراتيجية الحزام العربي المشهورة آنذاك، إلى أن جاءت الإنقاذ وحوّلت المراحيل إلى قوات الجنجويد لنفس الأغراض و لترويع الأفارقة وإبادتهم.
تحت نفس هذه الدعاوى الواضحة التي لا لبس فيها جاءت ورقة السيد عبد الرحيم حمدي وزير المالية الأسبق التي شارك بها في مؤتمر القطاع الاقتصادي لحزب المؤتمر الحاكم، حيث أن الأمر عنده أيضا " يتعلق بالحفاظ على كيان الأمة وهويتها وليس على هيكل وموارد الدولة". وبغض النظر عن تبني الورقة من عدمه، فقد أعادت الورقة للناس ذكرى أيام الإنقاذ الأولى عندما كان قادتها يهددون ويلوّحون بتنفيذ برنامجهم العروبي الإسلامي الأصولي بكل الوسائل حتى لو اضطروا لإبادة كل الشعب وتبقت قلة تؤمن به.
الورقة ترسم خطوطاً عريضة مع شيء من التفصيل لما يجب أن تكون عليه سياسة الدولة حيال التنمية الاقتصادية الاجتماعية للسودان، وذلك بتقسيم السودان عن طريق توزيع فرص التنمية والخدمات على أسس عرقية. وبفرضها لهذه الخريطة التنموية تكون الورقة قد رسمت خريطة طريق سياسية جديدة لما يجب أن تؤول إليه دولة الإنقاذ في خلال السنوات القليلة القادمة. وتطالب الورقة بناء على ذلك بتركيز الاستثمارات في السنوات القادمة على محور دنقلا-سنار+كردفان، واستبعاد أقاليم السودان الأخرى منها، خاصة دارفور وشرق السودان. وهكذا، تغلق هذه الورقة السياسية الباب نهائياً في وجه الأقاليم غير العربية وبعض الأقاليم "المشاكسة"، وحرمانها من فرص التنمية المتساوية، وذلك حماية للهوية العربية، وترسيخاً لسياسة التهميش التي تجعل السلطة والثروة دوماً في يد المركز دون منازع.
إن تبني السياسة العروبية الإسلامية الآحادية دون الالتفات للآخرين هي سياسة قديمة موروثة منذ الاستقلال، مارستها جميع الحكومات دون استثناء، مدنية منتخبة كانت أم عسكرية، يمينية كانت أم يسارية. و ظلت هذه السياسة تشكل الرابط والقاسم المشترك الذي يوحّد المركز في احتكاره للسلطة والثروة معاً، علماً بأنها أكثر المخاطر التي تهدد وحدة السودان. وسبق أن حذر منها الشهيد المناضل المفكر د. جون قرنق مرات عديدة عند حديثه عن أزمة السودان، ومنها هذا "الموديل" وهو سيادة العنصر العربي وفرضه لبرنامج وهوية عربية وإسلامية واحدة على كل السودان متجاهلا الهويات الأفريقية والديانات الأخرى، مما أنتج مركزا وهامشاً استأثر بالسلطة والثروة في السودان، بصورة قادت إلى التسلح والتصادم والحرب في السودان.
إن استمرار سيادة هذا النموذج من "السودان" سيعني استمرار الحرب الأهلية بين مختلف شعوب السودان، ولن يمنع قيام هذه الحرب أية عملية تصغير أخرى للسودان، أو تجميل لحدوده الاثنية، فمشكلة الهوية هي أصلا مستعرة في الشمال وليست في الجنوب. ومحور حمدي (دنقلا-سنار+كردفان) ليس خالياً من العناصر الإفريقية السودانية الأخرى، و لن يرض سكانه بمثل هذه السياسات التي تزرع الفرقة والخوف في وسطه، لأن بعض أطرافه تعلم أنها ستكون الهدف الثاني لاستمرار سياسة التهميش والتمييز. فالتهميش سلاح ثلاث: عرقي-ديني-جغرافي، واستخدمه المركز بصورته الثلاثية ضد الجنوب، وفي دارفور تم إعمال التهميش العرقي والجغرافي، وفي الشرق والشمالية والوسط يستخدم التهميش الجغرافي.
بنيت الورقة على فرضية خطيرة، يرى حمدي أنها لا محال واقعة وهي أن الدولة السودانية مصيرها إلى تفكك وانقسام، لذا افترض على الإنقاذ أن تختار نصيبها من هذا السودان المتفكك عملا بالمثل "دار أبوك كان خربت شيل لك فيها شلية" فاختار هو وراثة هذا الجزء (دنقلا- سنار+كردفان) المتبقي من الدولة لأنه "النواة الحاملة لملامح وجينات الدولة السودانية العربية". ولا تشعر من سياق الورقة أي ندم أو حزن لهذا الوضع، أو إشارة لمن تسبب في ذلك. ولا ندري إن كانت الإنقاذ ستحتفظ بمسمى "السودان" رغم كل ما يحمله من دلالات لونية قد لا توحي بالأصل العربي لدى البعض، أم ستقوم بتغييره أسوة بكل الأسماء التي قامت بتغييرها تحت شعارات التأصيل. فاسم السودان للأسف ظل يخجل منه السودانيين العروبيين باستمرار!
تجاوزت الورقة فصل الجنوب، وهربت إلى الأمام لوضع ترتيبات أخرى أكثر خطورة تعني بفصل أجزاء أخرى من السودان. ويبدو إن التركيز على مثلث دنقلا- سنار+كردفان لما له من مقومات "عرقية وجيوسياسية وتاريخية ودينية" لإقامة نموذج الدولة العربية الإسلامية عليه أو لأنه " الوعاء الجديد الحامل للمشروع الحضاري" إن شئت، يمثل آخر ملجأ للإسلاميين والنخبة الحاكمة منهم، ومن بعده سيخسرون أضلاع هذا المثلث نفسه، الواحد تلو الآخر، ووقتها لن يبقى لهم إلا التحصّن بالخرطوم دفاعاً عنها باعتبارها تحمل "ملامح" دولتهم المفقودة. وقد حذرنا في كتابات سابقة، من أن استمرار مثل هذه السياسات الآحادية بعد ذهاب الجنوب سيجعل من بعض أجزاء شمال السودان "جنوب آخر".
وتكشف الورقة فشل برنامج الإنقاذ السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي، و الديني، وانكشاف عورتها بعد أن أتضح قصر الجلباب الذي فصلته للسودان "البرنامج العروبي الإسلامي". واعترف السيد/ حمدي بأن الإنقاذ خسرت "سياسياً" كل من دارفور وشرق السودان، ومن قبلهم جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق وجنوب السودان، ثم أنها خسرت كافة المسلمين وغير المسلمين في هذه المناطق المستبعدة. فبدلاً من توسيع الجلباب وزيادة القماش، أو تفصيل جلباب آخر يسع كل أقاليم السودان وكل السودانيين بمختلف أعراقهم وأديانهم وثقافاتهم ولغاتهم، يطالب السيد حمدي بقص رقبة السودان وأطرافه لإنقاذ الجلباب القصير! وحاكى السيد/ حمدي بفعلته هذه أسطورة "البصيرة أم حمد" التي يعرّف بها السودانيون سوء التدبير.
وتعكس الورقة عطالة الفكر الإنقاذي وعجزه عن ابتداع نظام سياسي يستوعب أهل السودان جميعاً، و تضع البلاد بهذا النحو في مرحلة في غاية الخطورة، وهي آخر ما يمكن يصل إليه الوضع المتأزم، وتشكل الإنذار الأخير. ولعلّ السيد حمدي قد استوحى هذه السياسة من الاحتكاك وردة الفعل التي حدثت يومي الاثنين والثلاثاء الداميين، ومن حديث عامة الناس وسفهائهم وحمية الجاهليين التي أثيرت في تلك الأيام، وأراد حمدي أن يرسم بها خريطة لسودانه الجديد. وهكذا، عن طريق وضع استراتيجيات اقتصادية وسياسية مفصلة لأجزاء من الوطن دون أجزاء أخرى، تتنصل الإنقاذ يوماً بعد يوم من مسئوليتها تجاه أقاليم السودان كافة، حتى اضطر أبناؤها إلى رفع السلاح.
اخطر ما في هذه الورقة السياسية هي إظهار رغبة المؤتمر الوطني في تقديم نفسه كمرشح ذو برنامج معلن هو "للدفاع عن العروبة والإسلام في السودان"، وبذلك تربط مصير الإنقاذ ربطاً محكماً بوجود العنصر العربي والدين الإسلامي وبقاءهما في السودان. أي أنها تريد أن يفهم عامة الناس أن حماية الهوية العربية الإسلامية مرتبط ببقاء الإنقاذ في السلطة. وهذه مسألة تحتاج إلى قدر من المواجهة الفكرية الشجاعة والى تضافر الجهود الوطنية لكشفها وتعريتها.
للتجهيز للانتخابات القادمة، تنصح الورقة بتقديم الخدمات السريعة "علوق الشدة" لمحور دنقلا، والترويج للمؤتمر الوطني باعتباره المرشح الأمثل الذي يستطيع أن يحمي "عرب السودان" فيه، من الخطر الإفريقي الماحق الذي يتربص بهم من الشرق والغرب والجنوب. ثم الترويج لذلك عربياً وإسلاميا وشرق أوسطياً لجذب الاستثمارات وتوطينها في هذا المحور، من اجل خلق مقابل عربي إسلامي لمؤتمر أسلو للمانحين.
وبدهاء وخبث ماكرين يضع السيد حمدي أهل هذا المثلث في خانة المتهمين، زورا وبهتاناً، كأنهم "المركز العربي" الذي يمارس التهميش ضد الأقاليم الأخرى. وهذه فرية يعلمها الجميع، لذا يجب الحذر الشديد في التعامل معها فقد سبق أن دافع كتاب-وقعوا في هذا الفخ- عن تماسك مركز السلطة أثناء الفترة الانتقالية فانهالت عليهم الأقلام موجعة. ومعلوم للجميع مدى فقر الولايات الشمالية، وولاية النيل الأبيض، وولاية الجزيرة وولايات كردفان. فهذا المثلث العريض لم يلق من رعاية الدولة شيء يذكر على مر التاريخ، وسكانه يعانون من الفقر والمرض المتوطن، والتهميش السياسي والاقتصادي. وهكذا أراد السيد حمدي أن يخلق تشويشاً متعمدا قصد به تحميل أهل هذا المثلث الذي رسمه تبعات و أوزار حكومة الإنقاذ، وبالتالي إحداث مصادمة بينه وبين الأقاليم الأخرى، بعد أن أعيتهم سياسة مصادمة قبائل السودان ببعضها التي اتبعوها في دارفور وجنوب السودان وجبال النوبة.
إن شعوب هذا المثلث المغلوب على أمره قد أضحت واعية بحقيقة الأزمة السودانية ودور الإنقاذ فيها، ولا تحتاج إلى عرّاب جديد. وقد خبر الشعب نظام الإنقاذ وعلم وعوده وسياساته التي لم تجلب لهم غير الخراب والدمار والجوع والظلام. و سكان هذا المحور حزموا أمرهم منذ زمن بعيد قبل سقوط ورقة حمدي التي أبانت سوءة الإنقاذ ليراها الجميع. فقادة الإنقاذ من أبناء هذا المثلث نفسه-وما أكثرهم- أداروا ظهرهم لمدنه وقراه التي جاءوا منها، منذ أن تمكنوا من السلطة والثروة في البلاد. فبدلا من إعمار مناطقهم فضلوا الثراء الحرام والولاء الأعمى للحزب، والانتماء لنخب الخرطوم، التي شيدوا بها قصورا ونكحوا بها نساء مثنى وثلاث ورباع.
إن سياسة الإنقاذ في إفقار الأقاليم وتجويعها وتهميشها لهي سياسة قديمة ظلت تتبعها منذ زمن بعيد، إلا أن هذه الورقة أفصحت عنها وجعلتها علناً للكافة. ولها ملامح كثيرة: فطريق الإنقاذ الغربي قد تم نهب أمواله وسرقتها، ولم يحاكم احد بعد. وجمارك بورتسودان تم تحويلها لسوبا، و جمارك مليط بدارفور تم تحويلها لدنقلا، وجمارك حلفا القديمة تم تحويلها للعبيدية، حتى تحرم هذه المناطق من نصيبها من عائدات الجمارك. والخطط الإسكانية في مدن الشمال والوسط يستبعد منها أبناء بعض القبائل الإفريقية. ولا تزال قرى ريفي سنار والدمازين تعيش في ظلام دامس لأكثر من نصف قرن، رغم أن الكهرباء تولد عندهم، وتحملها للعاصمة أعمدة عظام، تولى ظهرها لهذه القرى تاركة إياها في ظلام دامس.
والإنقاذ لا تؤمن بحقوق الأقاليم الديمقراطية مطلقا، لذا تفرض عليها الوصاية والهيمنة بتعيين الحكام والوزراء من الخرطوم، والحكم الاتحادي الإنقاذي نموذج آخر للحكم المركزي، رغم تسميته الخادعة، والوالي يستمد سلطته من سلطة عمر البشير، والمجلس الإقليمي لا يستطيع سن قوانين تخالف شريعة الخرطوم. فهل تكفي هذه المسوغات الإسلامية العربية الجديدة التي ساقها السيد حمدي لجعل المؤتمر الوطني جاذباً لأهل هذا المحور؟ وهل يقبل أهله باستمرار هذه الهيمنة لسنوات أخرى.
إن القول بفكرة المثلثات في السودان فكرة قديمة وجدت قبل أن يأتي بها السيد حمدي. فقد سبق أن أطلق الصحفي المخضرم الفاتح النور في الستينات نعت " جمهورية العاصمة المثلثة" ليصف به ما وصل إليه الحال من المركزية في السودان. ثم جاءت الحركة الشعبية بفكرة سيطرة مثلث الخرطوم –سنار- كوستي، جاعلة إياه المركز الذي يهمش الآخرين ويميز بينهم عرقياً ودينياً واقتصادياً وسياسياً، قبل أن تعلم بالتهميش الذي مورس ضد أبناء هذا المثلث وأنه كان اشد وأمر لأنه تهميش ونهب للخيرات معاً، فهو تهميش مزدوج. ورددت نفس الفكرة بعد ذلك حركة تحرير السودان في الغرب.
إن المثلث الوحيد الذي استأثر بالسلطة، وانفرد ببرامج التنمية وخيرات البلاد طيلة العقود الماضية، وتعالى على بقية السكان وعمل على تهميش الأقاليم سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، هذا المثلث الجهنمي هو العاصمة المثلثة ليس يعلوها مثلث آخر. فإن كان الأمر يتعلق بالسلطة فلينظر الناس ليروا أين تمركزت السلطة طيلة الخمسين سنة الماضية. وليروا أين تركزت ثروات البلاد و أموال النفط. الإجابة في الحالتين واضحة وضوح الشمس: هي الخرطوم لا غير. إن مثلث الخرطوم هو مركز السلطات والثروات. فالمركز هو سياسة وشخوص، وزمان ومكان، اجتمعت جميعاً في الخرطوم.
وخاتماً، إن افتراض الانقسام والتفكك الذي بنيت عليه ورقة السيد حمدي يفرض على القوى الوطنية العمل المشترك لتفاديه وإبعاد شبحه، ليظل السودان كما هو موحداً بأراضيه الشاسعة، وبأجناسه المختلفة، التي لابد من إيجاد طريقة ونظام سياسي يستوعبها جميعاً في دولة واحدة تقوم على أساس هوية وطنية تستمد عمقها من المواطنة المتساوية. فإذا كانت المواطنة متساوية ومحمية بالدستور والقوانين، فإن الهوية الوطنية التي تنبثق منها ستكون واحدة لا محالة: هوية سودانية.
* متخصص في شئون الكونجرس.