نذكر من هذه القوميات قبائل النوبة والتي انخرط كثير من أفرادها في صف الحركة الشعبية لتحرير السودان (SPLA) بدوافع عدة اقلها مرارة كما يقولون الوقوف في وجه الإبادة والتشريد الذي مارسته الحكومة السودانية تجاه قبائل النوبة ومن ثم البحث عن حقوق شعب قبائل النوبة المسلوبة والمهضومة .
كيف لا ( والحديث للنوبة ) ونحن ماض ارض السودان القديم من حدود سواحل أفريقيا غرباً إلى سواحلها شرقاً مروراً بالوسط ، وحاضر ومستقبل السودان الحالي .
ويحضرني هنا ادعاء احد الكتاب من أبناء جبال النوبة بأن كل القبائل الزنجية المكونة لسودان اليوم هي في الأصل قبائل نوبية ، ونتيجة لهجرتها الجماعية من مكان إلى أخر بحثاً عن متطلبات الحياة أو الهروب من بؤر الحروب والنزاعات مع تداخل عوامل الطبيعة على التركيبة الكلية لها أدى إلى تحولات كثيرة فإرتسمت على ملامح هذه القبائل إشكالها الحالية وتباينت ثقافاتها وكذا نقاطها وعاداتها وتقاليدها كلاً حسب ما اخذ من موقع جغرافي .
أنا لا أستطيع التعليق على هذا الرأي بحكم عدم إلمامي جانب الدراسات التاريخية وعلوم الآثار ولكن فيما يتراءى لي إن شعب جبال النوبة رغم إسهاماته المثبتة على صفحات التاريخ منذ العصور القديمة والوسطى في كل مجالات الحياة إلا إن هذا الشعب أصبح فقيراً جداً لإمكانية قراءة الحاضر وتثبيت معاول صناعة مستقبل التاريخ بل هو لا يعرف حتى الآن ماذا يريد دعك من كيف يصنع ما يريد ، لكن من محاسن الأمور يعرف انه كان رقماً مهماً في كل معادلات حساب التاريخ القديم ، وملكاً تربع على عرش البسيطة شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً على امتداد السودان القديم وحفر اسمه من نور على كل إصدارات كتاب التاريخ . ولكن دمية من إمبراطورية قمر الزمان ورغم غلاء ثمنها مادياً ومعنوياً لا تفيد نفسها بقدر استفادة الآخرين منها كمعروض اثري تاريخي أو كمادة بحث علمية لإثراء الحاضر والمستقبل لمصلحة الآخرين الذين يعرفون ماذا يريدون ويعملون له بكل اجتهاد ومثابرة ، فعلوة ونبتة والمغرة لا يمكن أن تعيد أمجادها في صدر حياة الحاضر إلا من على داخل صالونات المتاحف وأثار البجراوية والنقعة والبركل ، أما اللاحقين فعليهم تحديد ملامح مستقبل حياتهم في ظل المتغيرات العديدة التي فرضت نفسها على واقع كل الشعوب والبحث عن معابر مضاءة توصلهم إلى الهدف دون عثرات والتخلي عن بحث حصان طروادة للرجوع إلى الزمن الغابر داخل أسوار كوش .
فما إن اعتمد حق تقرير المصير في السجلات مبادئ الحوار بين الحركة الشعبية والحكومة السودانية وتهيأت كل الأوساط لاحتمالي الوحدة والانفصال بين الجنوب والشمال ارتبك بهوات جبال النوبة في قراءة إحداث المستقبل بصورة عامة وجبال النوبة بصورة خاصة ، وحتى في مرحلة جلوسهم على طاولة المفاوضات كشريك أساسي للحركة الشعبية ومتصدي أول لحل قضية جبال النوبة لم تكن لهم رؤية ثابتة وواضحة في طرح القضية وإيجاد حلول لها في ظل توارد فرضيات جمة منها الانفصال والوحدة ، أو إطار كامل لمسودة تفاوض ومن ثم تحديد الحد الأدنى للتنازل عن بعض هذه الحقوق من باب الوصول بصيغة توفيقية بحثاً عن السلام وكان ذلك مرده إلى ما قلته سابقاً أن جبال النوبة أصبحت تحمل إنساناً مضطرباً في مكونه الفكري والسلوكي والنفسي حتى صار متقوقعاً داخل الخيال لا تتفق أمانيه وآماله في البحث عن الذات الملكية مع قصر النظر الذي أصابه وأصبح أكثر خوفاً ورهبة من أن يفرض نفسه كرقم واحد في معادلة صناعة تاريخ السودان والذي هو أهلً دون محاباة كما شهدت له دورات تعاقد العصور الماضية .
فبدلاً من الحديث عن سودان النوبة والبحث عن سبل التعايش مع الوافدين إليه خرج علينا جماعة التنين الأسود بحسابات تفاضل بين تبعية جبال النوبة للشمال أو الجنوب في حالة انفصال الجنوب بعد المرحلة الانتقالية ، ويكاد يكون الإيحاء بأن جبال النوبة هي الولاية الخامسة لإقليم الجنوب هو المرمى الذي يشيرون إليه ، كما أن البعض انبرى يتحدث عن مقومات جبال النوبة كدولة واستجداء المحللين والباحثين للخوض في ذاك الخمار غافلين أن الحديث عن دولة يسبقه الحديث عن وطن ، فعندما يبدى بعض أبناء جبال النوبة الاستعداد للتنازل عن وطن بحجم قارة ( أكرر وطن وليس دولة ) والحديث عن ذلك أو الاكتفاء بمرتفعات الحمم وأغوارها يدعم بلا جدال بينات التهم عن نظرتهم القصيرة اتجاه مصائرهم من جهة وما تصير إليه مجمل الأمور ، فالتعامل مع صياغة حياة البشر لا يحتمل مجازات البلاغة بإطلاق الجزء وإرادة الكل كما يدعي البعض عندما تحاصره جدلياً ، ولكن ربما تحتمل فرض متغيرات علوم الطبيعة بحثاً عن الثوابت والحقيقة . فإذا حاولنا أن نوفق بين معطيات التاريخ كما حواها ادعاء الكاتب بأن جميع القبائل المكونة للسودان الحالي من أصل نوبي واتفاقيات ومواثيق الأمم المتحدة في شأن الحدود الجغرافية للدول تتقلص حدود النوبة جغرافياً لتصبح من نملى جنوباً إلى حلفا شمالاً ومن البحر الأحمر شرقاً إلى الأراضي المتاخمة لدولة تشاد غرباً ومع اصطحاب هذه الجزئية كحقيقة يمكن أن تعيد دولة النوبة أمجادها وتصبح كأمة لها كامل إمكانيات صناعة التاريخ وكتابة صفحاته من ذهب ، أما المتحدثين عن جبال النوبة كدولة هم كالذين يأتمرون الناس إلى صياغة مشروع حديث لقانون المناطق المقفولة ، وسوف يأتي يوم التباكي حين يتقدم العالم ويرتفع إلى الثريا فيجلس النوبة القرفصاء داخل ( الكراكير ) ويحكون هذه كانت لنا وتلك كانت لنا ونحن من هؤلاء وأولئك أصلهم منا ، فلن يفيد ذرف الدموع لداء الرمد إن كان مستوطناً أو بالعين كفاف ولا مجال للردة عن صفحات التاريخ أو أدراج ملاحق الراسبين عليها .
ونواصل ،،،
حسن الشريف عبدالله / القاهرة