طالعنا السيد عبد الرحيم حمدي في الآونة الأخيرة بورقة قدمها في إجتماع للمؤتمر الوطني عن " مستقبل الإستثمار في الفترة الإنتقالية " إقترح فيها إنشاء محور ليكون نواة لسودان آخر غير الذي عرفناه وعرفه العالم عنا . بني محوره علي قواعد عرقية ودينية ليشمل ما سماه بمثلث " دنقلا- سنار – كردفان " , واستبعد من المحور الشرق ودارفور والجنوب , أي من لم يرهم أهلا لهذا التشريف . الطرح بشكله الحالي يثير بعض التساؤلات الهامة وهي أنه بني علي ما اعتقد بوجود قواسم عرقية ودينية مشتركة بين الشتات الجغرافي الذي جمعه في محوره " الجسم الجيوسياسي في المنطفة الشمالية ---- محور دنقلا – سنار – كردفان أكثر تجانسا وهو يحمل فكرة السودان العربي / الإسلامي " , واستبعد باقي السودان بسبب عدم نقائهم العربي أولتشكك في توجههم الإسلامي . خطورة الطرح أن مقترحه أشبه بتاجر يعمل بالسوق العربي بالخرطوم أو سوق أمدرمان ويسعي خلف الربح المادي ويشحذ الرواد والزبائن لحزب المؤتمر الوطني- " نفترض أن تراعي مصلحة الحزب في الإستفادة من الإستثمار ليحقق له مكاسب تضمن إستمرارية الحزب والإحتفاظ له بقسط وفير من السلطة السياسية ". لا يهمه من أجل ذلك تصنيف الناس علي أسس عنصرية وتفتيت وطن عاش فيه أهل السودان ترحا وفرحا وحربا وسلما. أقل ما يقال عن المشروع أنه مهين ومستفز لأهل الشمال خاصة وغيرهم من العرب والمسلمين الذين عناهم المشروع ولا سيما بينهم رجال ونساء أفنوا أعمارهم خدمة لهذا الوطن وقدموا فلذات أكبادهم صونا لوحدته أرضا وشعبا. علاوة لذلك فهو تصور غير عقلاني ولا يخدم المرحلة الحساسة التي يمر بها السودان للم الشمل وتوثيق عري الوحدة والأخوة بين أبناء الوطن كافة كما لا تحتاج المرحلة أن ينصب فيها السيد حمدي نفسه موظفا في الداخلية ليدقق في هويات الناس وانتماءاتهم . وفي الجانب ا لآخر نريد أن نسأل السيد حمدي : متي كان التجانس , بمفهومه هو , شرط وجوب لتنمية مرجوة ؟ ما نراه في ا لعالم من حولنا لأكبر شاهد علي ذلك , إذ أن السيد حمدي يعلم , قبل غيره من الناس , أن سادة الإقتصاد الحر في العالم كأمريكا وإنجلترا وسويسرا وغيرهم يعانون من قضايا شائكة في عدم التجانس اللغوي والعرقي والمذهبي ولكن التنمية عندهم لم تتوقف بل هي تسيرعلي خطي ثابتة ومتطورة . وعلي العكس تماما يرون في التعدد العرقي والديني مصدر إلهام وابتكار, لا كما يراه السيد حمدي . ولكن ربما غاب عن السيد حمدي , في غمرة حماسه لمشروعه , أن التجانس العرقي والديني , وأن توفرا , لا يدرآن مخافة الفرقة والتناحر والشتات , وقد لا يكفيان , رغم أهميتهما , في إرساء قواعد وحدة طوعية وتنمية مستدامة . لو كان التجانس المذكور كافيا وداعيا لاستقرار سياسي واقتصادي لكانت الصومال جنة الله في الأرض وما ينقصها ناقص من مقومات الوحدة القومية – الجغرافيا --- التاريخ المشترك – اللغة --- العرق --- الخ. رغم ذلك فهي أضحت أكثر بلاد الأرض إحترابا وتشظيا . والسؤال الذي يطرح نفسه هو : هب أن التناحر والإحتراب دب في محوره الجديد أنراه سوف يعدل في مشروعه مرة أخري ويقصي مجموعة أخري لعدم التجانس أم نراه يأوي بنفسه إلي ركن قصي في أقصي الشمال ويتحصن به ؟ هذه أيضا من الفرضيات التي يجب أن تناقش في مشروع بهذه الأهمية .
نقطة أخري تطرق لها صاحب الفكرة كدعامة هامة من دعامات التنمية في جمهوريته الفاضلة ونادي بتطبيقها وهي مشاريع في غاية الأهمية إفتقدها الشعب السوداني بمجيئ الإنقاذ للسلطة وهي مجانية التعليم والصحة والوجبة المدرسية " رابعا التركيز علي توفير الخدمات الرئيسية التالية التعليم والصحة ودعم الوجبة المدرسية ومكافحة الجوع علي مستوي يومي ومباشر ". لا ينبغي هنا أن نتشكك في صدقية الرجل وحسه الوطني ولكن فقط نقول : أما كان أجدر به أن يطرح بل ويسعي لتنفيذ هذه السياسات عندما كان قائما علي وزارة المالية ؟ أم أنه خشي أن يستفيد منها أصحاب الحوجة الحقيقية من السودانيين في أصقاع البلاد الذين طحنتهم سياساته الإقتصادية التحريرية ونبذهم هو الآن من محوره لكيلا يكونوا عبئا ثقيلا عليه. فالرجل لم تتنزل عليه الفكرة وحيا من السماء بين يوم وليلة , بل ربما كانت تخامره منذ فترة طويلة من الزمان لأنه سعي لتنفيذ بعض مفرداتها عندما جيئ به كوزير للمالية وابتدع سياسة تحرير الإقتصاد التي أصابت الشرائح المستضعفة من الشعب في مقتل حتي أصبحت بؤرا ملتهبة ثم يجيئ هوالآن ليتنصل منهم ليخلي كاهله من أي مسؤولية تجاههم.
من طرائف طرحه قوله " إنه لا يستطيع أن يطلق يده في التدفقات المالية التي تفد إلي السودان بغرض التنمية --- لإنها تتجه إلي جهات محددة سلفا هي الجنوب الجغرافي زائدا جبال النوبة زائدا النيل الأزرق وستشرف عليها مفوضيات محددة لضمان وصولها إلي تلك المناطق ولذا فهي ستكون خارج يدنا ولن يفيد الشمال منها شيئا " .
هل يعني هذا القول أن السيد حمدي عندما كان وزيرا للمالية يطلق لنفسه العنان فيما تصل إليه يده ويحولها إلي جهات يخصها بالجود والعطاء ويستثني جهات أخري ربما " لايحبها " ولكنها في أمسّ الحوجة لأساسيات الحياة , ولا سيما لم يكن هنالك رقيب أو حسيب كما سيحدث مع التدفقات المالية القادمة. وهنا تُطرح النزاهة كمعيار للأداء المهني العام . ما يؤيد هذا المفهوم مرة أخري قوله " إن التدفقات المالية والعربية والإسلامية سوف تأتي علي الشمال --- لما لنا في الشمال من علاقات شخصية ورسمية مع هؤلاء المستثمرين العرب والمسلمين والبنك الإسلامي للتنمية ومؤسساته " . السيد حمدي يريد أن يستثمر ما أتاحه له المنصب العام كوزير لمالية جمهورية السودان لجلب إستثمارات تنموية يؤثر بها جمهوريته المزعومة حتي يكون الشمال خاتمة المطاف لكل خيرات السودان " إن معظم خدمات البترول سوف تتجه بالضرورة للشمال " وكان الأوجب عليه أن يعيد صياغة الجملة ويستبدل كلمة " تتجه " التي يستشف منا الحركة اللاإرادية بكلمة " توُجه " لتكون أكثر تطابقا لنهجه وسياساته الإنتقائية . ومن باب تثبيت دعائم محوره أيضا ولإسعاد سكانه يقول سيادته : "يمكن أن توجه بعض الإستثمارات لبعض المناطق الأخري كشرق السودان إذا توفر الإستقرار السياسي ودارفور إذا توفر نفس الشرط وأيضا مناطق الجنوب" . هذا التصدق الإستثماري المشروط للأصقاع المستثنية في محوره هل هو من قبيل التفضل " والمحنة الشديدة " أم لوجود حوجة فعلية لتسيير وإكمال مشروعه التنموي أم لإستغلال سياسي " وهمبتتة " إقتصادية ؟. ما لم يرد أن يتذكره السيد حمدي بأن لا عائد لإستثمارات توجه إلي بقاع ملتهبة أصلا أججت نيران الحرب فيها سياسات إقتصادية ظالمة كالتي يروج لها السيد حمدي ومن يؤمن برءاه حتي أفقدتها الإسقرار السياسي الذي هو فرض عين لأي تنمية مطلوبة . كان الأجدر بالسيد حمدي أن يقترح مامن شأنه تخفيف البؤس والفقر والمرض في تلك البقاع حتي يوطد دعائم حلمه في محوره ويكون لإستثماراته جدوي إقتصادية.
رغم هذا الطرح الإجحافي الذي لا يخلو من غرض شخصي ولا يسمو به إلي العلمية والواقعية نود أن نطمئن السيد حمدي بأننا في شرق السودان علينا أن نغتبط كثيرا ولا نذرف الدمع مدرارا أو نعض علي أناملنا من الغيظ تحسرا علي شرف سوف يفوتنا من عدم انضمامنا للمحور الجديد الذي يبشر به السيد حمدي وذلك اقتناعنا منا بهويياتنا الحالية التي لا نري سببا لإستبدالها بهويات جديدة تصرف لنا عن طريق مفوضيات إستشارية وبيوت خبرة لا نحفظ لها سبقا ولا فضلا. ما نوده هو فقط هو أن نخاطب أهل السودان قاطبة وأهلنا في الشرق خاصة من منتسبي المؤتمر الوطني ونقول لهم ماذا أنتم فاعلون وها هو السيد حمدي جاءكم مكشرا عن أنيابه ويريد أن ينقصكم من وطنيتكم المثلي بدعوي عدم عروبتكم وطعنا في إسلامكم وخوفا من أن تفسدوا عليه محوره الحالم .
لعله من الواجب في هذا الجانب أن يبدي المؤتمر الوطني رأيه صراحة في هذا الطرح النشاذ ولا سيما والحزب يطرح نفسه كحزب قومي لكافة أهل السودان بشتي أطيافهم العرقية واللغوية والدينية . ما نراه هو أن الحزب بطرحه القومي ليس وعاءا مناسبا ليستوعب طرحا يفرق بين أهل السودان ويعيد ترتيب جغرافيته وهو بهذا يكون ذو عائد مدمر للحزب واستراتيجياته المستقبلية . من الممارسات الحزبية المتبعة في العالم ما درجت عليه بعض الأحزاب التي تحترم عقلية أعضائها أنها تتبرء من أفعال وأقوال بعض الشخصيات الحزبية لتنفي عن نفسها شطط بعض أفرادها وذلك حفظا لمكانتها وصونا لسمعتها . وفي حالة لم يفعل الحزب ذلك فهذا يعني أنه يبارك هذا التوجه ويكشف عن وجه غير المعلن عنه , ويكون هذا مشكل آخر يجب التعامل معه كما ينبغي .