منذ انعتاق الانسان من وثن الفكر المتخلف و المرحلة الحيوانية للانسان بعدها
تدريجيا اصبح الانسان يدخل في مراحل التمدن و التحضر فنشات المدن و الحواضر
فكان لابد لبنيان الحضارة من تعريف شامل لشقيها المعنوي و المادي . فنمت بعد
الحضارة الاغريقية لتصبح الحياة على اثرها اكثر مؤسسية ثم نشات الدساتير و
القوانين لتنظيم الحياة . و لكن بعد نشوء الكنيسة في بعض المجتمعات الاوربية
نشب الصراع الطبيعي بين المادي و الروحي . و حينها وصفها المفكرون المناهضون
لها انها ليست الا سلطة جبارة متسلطة استخدمت الدين كأداة لتلبية طموحاتها من
خلال القساوسة . وهنا ايضا ظهرت مرحلة من مراحل الحياة يستخف فيها القسيس بعقول
الناس ويحسبهم جهلاء . فكتب الادباء و الشعراء كلماتهم المناهضة للكنيسة فكانت
الفجوة بين الديني والمؤسسة المجتمعية . فظهر مذهب علماني و آخر ديني روحي يصور
الحياة بمعانيها و قيمها بمعزل عن الحياة العامة . الا ان الكنيسة نفسها و
مؤسساتها لم تسلم من الصراع الداخلي كنتيجة للصراع الداخلي للافراد . اذ لاحظ
الكتاب ان القسيس هو الرجل الديني و بيده السلطة الدينية و هو الرجل المادي في
نفس الوقت . الديني بقوله و خطبه و المادي بممارساته . فكفر كثير من الادباء و
الكتاب بادعاء رجال الكنيسة و تمردوا عليهم . رغم ان الادب في بداياته كان يبث
من الكنيسة و لكنه خرج عليها و غدا يمارس من خارجها . و من هنا ظهرت الدعوات
للمؤسساتية للجماعات و الافراد و نمت معها متطلبات بعضم للانفصام عن الكنيسة
في نفس الوقت الذي توجد موسسات تقف بجانب الكنيسة . و الذين تمردوا على الكنيسة
جعلوا شعاراتهم تنادي بالحرية و المساواة و الاخاء و ما تبعها من مفهوم
الديمقراطية . و جعلوها اساس المنظومة الاجتماعية الجديدة التي يجب ان تكون .
ومن هنا ظهرت الحاجة الى قوانين و ضعية ترضي ما يقولون به من مزاعم و ادب
مقاتل و مناضل ضد تسلط الدين علي عقول الناس. و بالتالي نشا نظام جديد يحترم و
يبجل الدساتير و القوانين و انظمة تدعو الى الحرية و الديقراطية . و لكن لم يدم
الوضع هكذا فظهرت في حياة الناس دعوة جديدة كان المبعوث بها رجل من بلاد العرب
يدعو العرب خاصة و كل العالم الى الاسلام ذلك الدين الجديد . و الذي جاء حاملا
في ثناياه حلولا لكل اخطاء الماضي و علاجها . و انتصر الاسلام بقوة الاقناع في
بداياته خاصة في مكة فمات دونه الكثير . و عندما اكتملت للرسول محمد بن عبد
الله دعوته و فرغ من تاسيس دولته و مدنياته تسلم الرسالة من بعده رجال اشداء
استطاعوا ان يقنعوا الناس اما بالحجة او الفتوحات فاصبح الدين الاسلامي بعد ما
ان اعتنقه الكثير من الناس سلوكا فطري و عقيدة مسلم بها يقينيا و عقليا حتى
تقلقل في حياة الافراد و الجماعات و اصبح المكون الوحيد في حياة المسلمين و
حضارتهم . لكن المرحلة التي تلت الدعوة كانت تدعو للمدنية فاصبحت هنالك ضرورة
للاجتهادات و التفسيرات من قبل العلماء . و بانصهار الاسلام في مدنيات و
مجتمعات مختلفة اصبحت المرحلة مهياة لظهور المذاهب و الفرق . و اصبح لعدم
اقتناع كثير من المجتمعات بمفاهيم المجتمعات الاخرى و عدم استيعابها هنالك رغبة
ملحة للخلاف . الى ان وصل الحال الى ما نحن عليه الان في مجتمعاتنا الحاضرة .
حيث المجتمعات المختلفة ذات الطابع البدوي او الطابع المدني ذات السمات
الصراعية التي تقبل هذا و ترفض هذا . و اصبحت مجتمعات مغلقة على ذواتها و
مميزاتها دون مراعاة الفهم القياسي و الاستقرائي للوصول الى الحق . و في هذه
المرحلة التاريخية الهامة من حياة البشر صُدم المثقف المسلم في مسلماته باجباره
على التكيف على ما ينادي به المتزمتون و المتشددون في الدين . و اصبح الدين
طريقا غير سالكا للمثقفين الذين صدموا بادعيئه الجدد المنفصلين عن المجتمعات .
اصبع الطريق وعرا المفكر و المثقف فية كمنطاد طريد و شريد يغرد خارج سرب مجتمعه
الذي نما فيه . فلا يفكر الذين ضعفت هممهم انه يمكن ممارسة الاقناع بحد السيف و
هو رمز للقوة و العنف و ان يكون فهمهم في ذلك بشكل مطلق في زمن قد اصبح الاسلام
فيه سلوكا يمارس في كل المجتمعات المسلمة و ان تباينت طرق فهمه او وسائله لكن
في النهاية هذا مجتمع مسلم . فحد السيف لا يكون الا للكافر الذي لم يعتنق
الاسلام بعد و هذا السلوك ايضا مع الكفار لا و لن يكون اسلوبا للحوار في عالم
اصبح فيه الاقناع بالفكر و الحجة . فقط يحتاج الي الالمام بنفسية المتلقي ان
كان جاهلا او عالما او مثقفا او مفكرا . فبروز السيف هنا بمسابة تاجيج الصراع و
نشوء العداوة القائمة على الخصومة و الحرب الفكرية المسبقة النوايا . فكلما
اصبح الصراع عقدي خالص فيه درجة عالية من التعصب اصبح ابعد عن سلوك الحوار
الهادف المثمر و بالتالي يكون البعد عن نقطة الالتقاء امر جائز و واقع في حياة
الفرد و الجماعة . و عندها يصبح المفكرون اصحاب الجماعات الاسلامية لا يحلفهم
الحظ في القياس الجيد و الاستقراء الواضح للمجتمعات التي يعيشون فيها و بالتالي
يكون الانفصام عن المجتمع . و هذا بالتالي يودي لان يكونوا غير مهيئين سلوكيا
او اخلاقيا او معرفيا و ينتج عن ذلك تسلط رجالات الدين مما يودي الى ممارسة
الدكتاتورية و احادية الفكر و الانانية السلطوية مما ينتج عنه فساد سلطتهم و
رفضها من قبل الجمهور .
كما ان انتاج اى فكر مخادع او فيه مغالاة في الخدع السياسية تودي الى سقوط
النظام عندما يتشرب اتباع النظام من السوقة و الدهماء افكار الراعي الاكبر
للمنظومة او المؤسسة اى كان نوعها دينية سياسية او سياسية . و لكن الفاجعة
الكبرى عندما تهتز الثقة بين الراعي و الرعية فان الصراع الداخلي للمنظومة قد
يكون وشيكا و الانهيار قويا و مدويا و يكون البعد عن المباديء و الانسلاخ و
بصورة مذرية . لان ممارسة الديمقراطية بصورتها النفسية المكبوتة قد تؤدي الى
الانهيار لان الاتباع قد تربوا على ذلك وهنا ينفرط العقد الجميل الذي كانوا
يفرحون به . فينكشف ضعف همم المنظرين و المفكرين . و انا هنا في هذا البحث انما
اريد ان اشير بعد هذه المقدمة الطويلة الى تجربة الاسلاميين في السودان و فشلهم
الذريع . وان كانت المعركة في عصرنا هذا ضد الكفر و الضلال فماذا يعني الكفر و
الضلال؟ عندما جاء الاسلام جاء ليعتق الناس من ظلم انفسهم و من ظلم بعضهم بعضا
. لكن السلطة في السودان قد مارست هذه الاشياء بعينها و انتفت عنها صفة الحركة
الاسلامية لان الشعب البسيط لا يحتاج الى شعارات عظيمة او افكار براقة لاقناعه
بل يحتاج لمن ينصفه و في بلد كالسودان يحتاج لحكمة خاصة و كما اعترف راعي
الحركة حسن الترابي انهم كانوا غير مهيئين ربما اخلاقيا او سلوكيا او معرفيا و
هذه هي صفات القادة و الثوار . فالصراع اشبه بالازلي في المنظومة الاسلامية
السودانية . فقط عليهم ان يهتدوا بعقولهم لماذا جاءت المذاهب في الدين الاسلامي
؟ و لو اخذنا المذاهب السنية الاربعة كلها صحيحة و ان اهتدى المسلم باى واحدة
ليس فيه خطا . و لكن حب السلطة و اقصاء الاخر هو ديدن الجماعة الاسلامية في
السودان التي خاضت تجربة فاشلة من اولها الى اخرها و انها لم تحفظ مكانتها في
وسط المجتمع السودني بما ارتكبته من فظائع و تقتيل و ارهاب .
أ/احمد يوسف
حمد النيل
الرياض