إنتشار الأسلحة الخفيفة وتحديات الأمن الوطنى والإقليمى
تتميز الاسلحة الخفيفة والصغيرة بزهد أسعارها وسهولة إستخدامها وتنقلها ويمكن الإعتماد عليها وإستخدامها فى الحروب غير الكثيفة خاصة النزاعات الداخلية وهى كذلك تشكل الخيار فى الحروب الأهلية فى أفريقيا. بيد أن سهولة الحصول عليها وإنتشارها داخل الحدود وعبرها قد أضاف بعدا خطيرا للصراعات داخل حدود الدولة خاصة فى القارة الأفريقية. وتزايد إنتشار هذه الأسلحة لا يقلل فقط من إمكانية إنهاء الحروب الأهلية المستمرة بل وتزيد من إحتمال نشوب صراعات جديدة. ففى التسعينات من القرن المنصرم تسببت الأسلحة الخفيفة فى قتل حوالى أربعة ملايين شخص وجرح وتشريد ملايين أخرى من العسكريين والمدنيين فى الحروب الطاحنة التى شهدتها دول العالم العالم الثالث، وهو رقم يفوق ذاك الذى تسببت فيه الأسلحة الثقيلة، حسبما جاء فى تقرير بحثى نشرته جامعة هارفارد الأمريكية. كما أن هذه الحروب التى غذتها الأسلحة الخفيفة تسببت فى إحداث مجاعات وعطلت جهود التنمية وتسببت كذلك فى إنتشار أمراض فتاكة كمرض السل ومرض فقدان المناعة المعروف بالايدز وفقدان التغذية للأطفال وإضاعة فرص التحصين كما تسببت فى إرتفاع تكلفة العلاج وحالت دون تحقيق أى تحسن فى مستويات المعيشة. ويمكن أن يساعد توافر الأسلحة الصغيرة فى إنتشار المتاجرة بالمخدرات وفى الأعمال الإرهابية وفى الجريمة المنظمة وأفعال أخرى كثيرة. فمثلا إن البندقية الهجومية البرازيلية ذات المأسورة تطلق 700 طلقة فى الدقيقة أى أنها تستطيع أن تطلق مليون طلقة خلال ظرف ساعتين وثلث الساعة. ويعتقد أن ما يقارب الخمسمائة مليون قطعة من الأسلحة الخفيفة ربما تنتشر الآن فى دول العالم الثالث.
وكانت دول أوربا الشرقية إلى وقت قريب هى أكبر المنتج للأسلحة الخفيفة والصغيرة وهى تصارع أزمات إقتصادية وسياسية مستمرة مما جعلها أكبر سوق لإنتاج الأسلحة الدفاعية. ولكن شكل انضمام بعض هذه الدول ضمن الدول العشرة التى ولجت مؤخرا فى منظومة الإتحاد الأوربى، أهمها بلغاريا ورومانيا وبولندة وجمهورية التشيك، فى مايو من العام الماضى تحولا بوضعها تحت الضؤ والمراقبة الدولية. كما تطلب إنضمامها للإتحاد الأوربى إنتسابها فى فترة مبكرة لعضوية حلف شمال الأطلسى وإتباع سياسات الإندماج السياسى والإجتماعى فى المجتمع الغربى.
وقد لعب حلف وارسو فى الفترة بين 1955- 1991 دورا مهما فى توفير السلاح وإقامة أنظمة لإنتاج وتوزيع الأسلحة فى دوله الأعضاء وكذلك على حلفائه وأولئك الذين يمكن أن يشكلوا حلفاء مستقبليين فى أنحاء العالم المختلفة.
لقد شهدت أمريكا الوسطى إستخداما كثيفا لهذا السلاح الخفيف فى توتراتها الداخلية ونزاعاتها عبر الحدود كما هو الحال فى شرق ووسط وجنوب شرق أوربا خاصة الحرب البلقانية التى إمتدت لمعظم دول الإقليم، ولم تكن القارة الأفريقية بدعا من هذا؛ فقد إستوطنت فيها النزاعات المسلحة منذ حرب التمرد الأولى فى جنوب السودان والحرب الأهلية فى إقليم بيافرا بنيجيريا والحرب الأهلية الكنغولية أيام الراحل باتريس لوممبا وما شهدته كل من أنغولا وموزمبيق وتشاد والصحراء الغربية فى المغرب وحرب الجنوب الأخيرة والصراع الدامى فى الصومال الذى غيب الدولة بالمرة وحرب البحيرات العظمى وصراع الهوتو والتوتسى الذى راح ضحيته مئات الآلاف من الأرواح البريئة فى حرب عرقية وحروب الثوار الأثيوبيين والأريتريين للإطاحة بحكم منقستو هايلى مريام والصراعات التى ظلت تشهدها أفريقيا الوسطى والحركات المسلحة فى مصر التى إستهدفت السياح خلال العقد الماضى وصراع الحركات المسلحة والسلطة فى الجزائر والصراع بين جيش الرب والحكومة اليوغندية والصراع الممتد بين التجمع الوطنى والحكومة السودانية وبروز الحركات المسلحة فى الشرق وفى دارفور التى ما زال الدخان يخرج من أفواه بنادقها. وتشكل كل هذه النزاعات المسلحة التى استمرت لعقود وقضت على الأخضر واليابس وزادت البلاد الأفريقية فقرا على فقر والإنسان الأفريقى مرضا على مرض. كل ذلك يدفع إلى التساؤل ما هى أسباب هذه النزاعات ومن يقف وراءها ومن يمولها ومن المستفيد منها وما هى المخاطر الإضافية التى تجرها مثل هذه الصراعات أو يتسبب فيها إنتشار السلاح الخفيف؟ ولن أستطيع أن أجيب على هذه الأسئلة بالتفصيل، فأهداف كل صراع مختلف فى دوافعه ومسبباته وفى أصحاب المصالح من ورائه والرد كذلك يحتاج إلى تدوين سفر كبير وليس مقالا فى ثمانمائة كلمة أو يزيد قليلا. ولكن الإجابة إجمالا تقول بأن البعض يرفع ظلامات تتداخل فيها مصالحه مع مصالح آخرين. ومن يزودك بالمال والسلاح والدعم المعنوى لا يفعل ذلك صدقة بلا مقابل وإنما يتوقع أن يحصل على واحدة من أربعة: إما إعادة المال وقيمة السلاح مضاعفا عند حسم الصراع أو الوعد بإمتياز إستغلال خيرات سواء كانت على ظهر الأرض أو باطنها أو تمكين الممول من السلطة وأسرار عسكرية وإستخباراتية أو للحرب بالوكالة لمقاتلة عدو. وشواهد ما نقول واضحة فى التاريخ قديمه وحديثه والناس فى بلدى يتبادلون الهمس المسموع عن حالات ظلت فيها بعض الجهات الداعمة للجهات التى ترفع السلاح تتبرم عن قرب التوصل لسلام وبذلك قيدت تحركات بعض القيادات فى أراضيها ومنعتها السفر وغيبتها من مفاوضات السلام. وحالة أخرى تتمثل فى موقف التحالف الأوربى حول النفط فى السودان والذى تمثله ثمانون منظمة منها صاحبة النشاط الدينى ومنها التى تعمل فى صناعة النفط . ظل هذا التحالف يقود الحملة الشعواء ضد السودان ويحرض دوله بعدم الإستثمار فى السودان بل وعمل على الضغط على شركات أوربية وإخراجها من العمل فى مجال النفط فى السودان بحجة أن النفط أدى إلى إستعار الحرب وتهجير المواطنين. ولما جاءت إتفاقية السلام مثل النهار الأبلج حاول هذا التحالف أن يزيح شركاء السودان من الشركات الآسيوية التى وقفت معه ساعة العسرة ذلك بوضع هذا التحالف الأوربى لرزمة من الشروط للإستثمار فى قطاع النفط فى السودان فى المؤتمر الذى تزمع إقامته فى نيروبى تشارك فيه حكومة السودان وحكومة الجنوب وعبر حركة إيحائية بمشاركة ممثلى التجمعات المحلية ومنظمات المجتمع المدنى تحت مسمى "النفط لدعم السلام" وهى محاولة إلتفاف. وبذلك تجعلنا نتساءل هل تشاور التحالف الذى يريد أن ينتقل من خانة المحرض فى كل المنابر الدولية لفرض حظر على نفط السودان إلى مهتم به هل تشاور مع الحكومة السودانية فى هذا الأمر؟ ولماذا إختار نيروبى لعقد هذا المؤتمر فى أمر يهم الإستثمار فى السودان وليس كينيا؟ ولماذا لم يختار الخرطوم؟!
إن موقع السودان وتمدده ليلامس معظم أقاليم أفريقيا كإقليم شرق أفريقيا ومنطقة البحيرات بما فيها الكونغو وإنتمائه إلى منطقة القرن الأفريقى وإلتصاقه بإقليم وسط أفريقيا المتمثل فى تشاد وأفريقيا الوسطى وكلها أقاليم شهدت وما زال بعضها يشهد صراعات يتأثر بها السودان وتجعل من إنتشار السلاح الخفيف عاملا يزيد حدة الصراع بين الحكومة والحركات المسلحة. ولكن الأخطر من تسرب السلاح فى الإقليم هو تسرب أفراد وجماعات فى الإقليم لتشكل طرفا فى النزاع ومناصرة طرف على آخر يدفعها فى ذلك مصلحة مباشرة وغير مباشرة. فالفقر والجفاف والمرض الممتد فى الحزام السودانى من غرب القارة السمراء إلى شرقها فى أريتريا يجعل التماثل الإثنى والعرقى يدفع أطراف من خارج السودان لمناصرة أطراف داخله بحجة الإمتداد العرقى الذى لا يعرف الحدود. فراعى الأبقار فى النيجر أو مالى مثلا الذى يشاهد ثروته تموت بسبب الجفاف يدفعه ذلك للبحث عن مراعى جديدة عبر الحدود أو يتطلع إلى الهجرة لبلد آخر ربما تشكل له الحرب الدائرة فى أطراف السودان تطلعا تدفعه لمناصرة طرف من الأطراف دون أن يسأله الطرف المستفيد عن هويته، خاصة وإن كانت تربطه به صلة عرق أو قبيلة فيندفع الطرف القادم فى العمل على إيقاع الخصومة والمشاحنة بين القبائل المتعايشة فى المنطقة كمناداة القادم بالهوية الأفريقية ضد العروبة، وكأن الأفريقية عرق وليست إنتساب جغرافى وكأن العرب قدموا بالأمس من الجزيرة العربية ويجب إعادة من يتحدث العربية من أهل السودان أو عرب ليبيا أو المغرب أو الصومال إلى أرض الحجاز واليمن، فيصبح جواز مرورة القادم الجديد للسودان ليست هجرة منفعة سلمية كما فى السابق حيث شكل القادمون من دول الجوار الأفريقى ودول الحزام أيدى عاملة فى عدد من المشاريع التنموية فى السودان منها مشروع الجزيرة وبعض المشاريع الزراعية المختلفة ولكنها هذه المرة أضحت هجرة مسلحة و(مصلّحة) ربما يرتفع السقف فيها للتفكير فى أخذ مواقع فى الحكم فى البلاد الجديدة. وهذا المثال يمكن أن ينطبق على حركات معارضة أخرى فى الإقليم التى تؤدى دورا فى النزاع لتحمى به نفسها.
والأمر لخطورته يقتضى إحياء مشروع جمع وتدمير الأسلحة الخفيفة فى حالات إقرار السلام الذى بدأته الأمم المتحدة فى يوليو من العام 2001 ولكن أحداث 11 سبتمبر 2001 قلبت الموازين حيث أصبح محاربة الإرهاب هو أولويات أمريكا فتأخر مشروع القرار الأممى. وفى حالة عمليات حفظ السلام ليس هناك إجماعا فى أولوية جمع هذه الأسلحة وتدميرها كما لم يشكل جمعها وتدميرها جزءا أصيلا فى مهام الأمم المتحدة بشأن عمليات نزع السلاح. وكما يجب تفعيل التشريعات الوطنية والإقليمية والدولية فى رقابة صناعة وإنتشار السلاح الخفيف والتعاون الإقليمى الوثيق فى ذلك. وعلى المستوى الوطنى كذلك يجب أن نشرع فورا فى البدء فى تعميم الوثائق الثبوتية ذلك بإصدار البطاقات الشخصية الممغنطة بكامل المعلومات والسكن وتعميمها حتى على السكان الرّحل عبر إداراتهم المختلفة ومنع التعامل بدونها حتى لا تمتلئ بلادنا بهجرات غير منضبطة يختلط فيها حق الأجنبى بحق المواطن وتنتقل فيها سلوكيات وصراعات بواسطة غرباء لا يعرفهم الوطن وحتى نتجنب تجارب ماضية ظل يذكرها البعض فى أن حركة التمرد الأولى أصدرت وثائق وجنسيات سودانية لمواطنين من دول مجاورة خاصة بعض الذين ناصروها فى سنين حربها على السلطة. وكل عام وأهل السودان أعمق نظرة وأكثر بصيرة حتى لا تجر عليهم الغفلة المصائب المريرة ،،،