في تاريخ السودان‚ ما يخيف اي نظام دكتاتوري‚ ذكرى اكتوبر 1964‚ وذكرى مارس ابريل 1985‚
في الأولى أهلك شعب السودان نظام عبود‚ وفي الثانية أهلك نظام جعفر نميري‚ ذكرى الثورتين‚ تمران عادة (مع وقف التنفيذ) حين تمران‚ في عهد اي نظام دكتاتوري‚
اترك الذكرى الثانية‚ التي اصبحت نسيا منسيا‚ في نظام «الانقاذ» هذا الذي لا يزال يحكم السودان‚ إلى الذكرى الاولى: ذكرى 21 اكتوبر‚ التي مرت امس‚ كما لم تمر‚
اذكر‚ انه في الثمانينيات‚ كان (محرما) بفرمان نميري صارم‚ على الصحافة والاذاعة والتليفزيون‚ أن تأتي من قريب او من بعيد‚ على ذكرى اكتوبر‚ حين تقترب هذه الذكرى‚ أو تأتي‚ أو حتى حين تذهب بعيدا‚ لتنزوي في مكان ما من ذاكرة الشعب‚
الزمان: 1983‚ تحديدا 18 اكتوبر‚
كان الجو شبيها بالجو الذي سبق بأيام اندلاع الغضبة الشعبية في اكتوبر1964‚ كان الجو محتقنا جدا‚ ومفتوحا على الغضب‚
اذكر انني حملت أوراقي الى رئيس وزراء حكومة اكتوبر 1964‚ الاستاذ سر الختم الخليفة‚ والذي كان يشغل في ذلك الوقت منصب المستشار الرئاسي للتعليم العالي‚
خرجت بحوار مطول‚ عن الثورة وخفاياها‚ وليلة المتاريس‚ و‚‚ و‚‚ كان الحوار في مجمله (قنبلة) من رائحة النضال‚‚ وقنبلة من الجسارة و(التحريض) الخفي!
غرس رئيس التحرير في «الأيام»‚ الأستاذ حسن ساتي عينيه في الحوار (الخطر) كنت ارقب العينين (تلتمعان) باصرار غريب‚ ثم‚‚ توارى الاصرار‚ وجاءتني جملته من بين ابتسامة مبتسرة‚ وحزينة:
ـ Sorry‚ هذا الحوار الجميل جدا‚ مكانه‚‚ هذا الدرج!
وحين‚ همَّ الأستاذ ساتي ان يفتح الدرج‚ قلت له (اوكي)‚‚ لكن اعطينيه ‚‚ لدرجي!
و‚‚ ظل الحوار في الدرج‚
وظللت‚ اخرجه من وقت لآخر‚ انفض عنه الغبار‚ ابتسم في وجهه: «لا‚ لا تحزن ياصديقي‚‚ يومك حتما سيأتي!»
و‚‚ جاء اليوم‚
كان ذلك‚ يوم 19 اكتوبر من العام 1984‚
اذكر ان رئيس التحرير حسن ساتي‚ حمل «ترافلنغ باك» على عجل‚ وطار مع «الريس) جعفر نميري‚ في زيارة مفاجئة إلى القاهرة‚‚ زيارة ربما تستغرق يوما واحدا‚ أو يومين‚
«طار» الرجل إذن‚ الرجل الذي كان يعرف بحكم وظيفته كرئيس للتحرير (فرمان) نميري الصارم جدا‚ عن «نسيان» ذكرى اكتوبر‚ ابتسمت في سري‚ و‚‚ ودخلت على نائبه الاستاذ محي الدين تيتاوي:
ــ شوف يا استاذ‚ هذا حوار مع مستشار النميري (سر الختم الخليفة) عن أكتوبر‚‚
ــ جميل جدا‚‚ اذن سننشره يوم «21»!
في تلك اللحظة‚ قفز إلى ذهني حسن ساتي‚ رئيس التحرير الذي يعرف (الفرمان)‚ ماذا لو عاد غدا مثلا قبل نشر الحوار يوم «21»؟ بالتأكيد سيصبح مصيره الدرج مرة أخرى!
ملأت فمي بكذبة‚ وقلت لتيتاوي: اقترح ان ننشر الحوار يوم «20» غدا‚‚ حتى «نحرق» حوار مماثلا لجريدة «الصحافة»‚ ذلك لانني رأيت محررا منها يدخل على سر الختم بعد خروجي!
و‚‚ في يوم «20 أكتوبر خرجت «الأيام» بالحوار القنبلة‚‚ (حوار الخطر) مع رئيس وزراء حكومة الثورة الشعبية‚ في صفحتين كاملتين تفوحان برائحة النضال و(اجمل من رائحة النضال لم اشم رائحة)!
و‚‚ في ذات يوم النشر‚ عاد رئيس التحرير‚ فتح الجريدة‚ التمعت عيناه‚ ابتسم يقول لي: «برافو عليك‚‚ احرزت هدفا من تسلل!»
و‚‚ أو لم أقل لكم ان الصحيفة التي يتخطفها القراء هي الجريدة التي يغيب فيها رئيس التحرير؟