أعداء الأمس شركاء اليوم
هل ستلعب الحركة الشعبية دوراً سلميا في دارفور الآن؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عزت بعض التقارير الواردة عن القتال الدائر حاليا في إقليم دارفور، غرب السودان ، أسباب النزاع إلى التهافت على موارد شحيحة من المفترض ان يقتسمها قسما السكان المحليين وهم الرعاة والزراع وبسبب النقص الحاد في المياه والمراع (لعامل الجفاف) . ولانتشار السلاح في عقد الثمانينات نتاج الحروبات الإفريقية، حيث كانت تدور رحاها خلف الحدود السودانية مع عدد من الدول، ولوجود صراع سياسى عنيف بلغ اواره فى الديمقراطية الإئتلافية الثالثة وبذا قد اكتملت عوامل البروز الدامي لأسوأ قتال يشهد السودان, هذه حقيقة !!
ولكن فان الحرب التشادية التشادية تحديدا ، والحرب التشادية الليبية بتحديد ادق ، وفى وجود التعصب القبلي الكبير أدت الى إذكاء النزاع فى المنطقة كعاملا خارجيا من جهة نزوع البعض في أقاليم دارفور إلى امتلاك السلاح وإسناد الصراعات في تلك الدول .
وكانت الدراسات أكدت أن أثنية (الزغاوة) مثلاً لها امتدادات مؤثرة في كل من السودان وتشاد وليبيا، بجانب بلدان أفريقية غريبة أخرى , وكل هذا سلط عليه الضوء مرارا وتكرارا ولا يحتاج الى كثير كلام !
لكن الحرب في الجنوب التي انتهت حاليا ، حرب الخمسين عاماً، فقد رمت بظلالها الكثيفة وتأثيرها الواضح، الأمر الذي لم يتطرق إليه الكثيرون او ظل مسكوتا عنه (عنية!) لاعتبارات وتقديرات ما.
وهنا لا بد من الإشارة إلى العلامة البارزة والمميزة لهذه العلاقة والتي تتمظهر فى أنموذج التمرد القبلي المسلح بداية التسعينيات ، وهو الذي قاده السيد (بولاد) رحمه الله , العضو السابق في الحركة الإسلامية! حيث انشق عنها لأسباب داخلية، وبعدها صعد ببعض الجنود والمؤيدين إلى قمة جبل مرة ... حيث اتجه ، وفق التقارير ومعلومات مؤكدة، إلى التحالف مع الحركة الشعبية لتحرير السودان (جون قرنق) التي كانت تقود حربا ضارية بشكل يومى على عدة جبهات متحديا الحكم الجديد الذي يتزعمه العميد (وقتذاك) عمر حسن البشير بهدف توسعة نطاق عمليات الأخيرة بشمال السودان.
****
وبصرف النظر حاليا عن إثبات تلك العلاقة النظر مما يؤكد وجود دور محتمل ومحرك للحركة الشعبية لبدايات ومتوسطات النزاع فى الإقليم ، ومن ذلك ان الحركة الشعبية بقيادة الراحل الدكتور جون قرنق قامت بإغراء بولاد إلى الانشقاق والتمرد على الجيش السوداني في دارفور، بداية عقد التسعينات. فإن الملاحظة المهمة هي ان معظم القبائل الكبيرة في الإقليم أخذت على عاتقها منذ وصول الى انقلاب الإنقاذ الى السلطة ,, الدفع ببرامجها ومقاومة (الجيش الشعبي) المتمرد بجنوب السودان .. ومن هذا القبيل كبح محاولاته إلى توسيع نطاق عملياته العسكرية، عبر بوابة مناطق التماس مع دارفور وكردفان الكبرى.وكانت تلك إحدى بنات المتمرد الجنوبى السابق فى النيل من غرمائه وأعدائه فى الحكم .
وقد اتفق كثيرون، أن توقيف الجيش الشعبي والحركة الشعبية المتمردة في الجنوب، كان هماَ متصلاً، بالنسبة إلى أغلب الحكومات المتعاقبة في الخرطوم... إذ أنها الحركة التي يقودها العقيد الجنوبي (جون قرنق) ، أعلنت منذ خطابها "المنفستو" الأول الثورة المسلحة ضد ما وصفته بالسودان (القديم) وإلى توجيه الصراع بين الأطراف المهمشة، والتي يغلب عليها العنصر غير العربي في السودان، والمركز الشمالي العربي المسلم ! ودعت إلى إنهاء هيمنة العنصر "العربي" وإقامة السودان الجديد ...
وبالرغم من اجتياح الحركة، بالعمل المسلح أغلب أجزاء جنوب السودان ونجاحها في الانتقال إلى أجاء شمالية، مثل النيل الأزرق وجنوب كردفان (جبال النوبة) وأعالي النيل الشمالية .. إلا أن تعويل الحركة الشعبية كان منصباً على التعميق غرباً، طيلة عقد التسعينات وهذا يفسر اتصالاها بأحمد إبراهيم دريج (التحالف الفيدرالي) ومساعدة بولاد في إنجاح ثورته بجل مرة .. واستفادت الحركة من انهيار الوضع الديمقراطي الثالث وانشغال الحكومة الجديدة (الإنقاذ الوطني) في التمهيد إلى قبولها شعبياً. إلا أن التحرك الشعبي فاق التصور عندما أعلنت حكومة البشير قيام (الدفاع الشعبي) والذي تكونت مليشياته في كل أنحاء السودان وبالأخص في دارفور حيث جرى تسليح وتدريب أبناء القبائل للتصدي إلى مخططات الحركة الرامية إلى التوسع بالإقليم .. وبالفعل نجحت خطة الحكومة في إخماد تحالف الحركة الشعبية المتمثل في ثورة جبل مرة، وتم قتل بولاد قائد التمرد، وكان من شأن هذه الحادثة بث الحماسة لتحجيم التواجد العسكري لقرنق ليس في مناطق الشمال التي استولى عليها فحسب، وإنما إرجاع قواته إلى الخلف كثيراً بمساهمة القبائل الجنوبية نفسها، ولم يمضي صيف العام 1992م فيما عرف بت (صيف العبرو9 حتى انحصر نفوذ الحركة الشعبية بأجزاء محدودة من الجنوب والجنوب الشرقي، عند حدود السودان مع جارتيه يوغندا وإثيوبيا.
****
وبالرغم من الضغط الأممى الكبير من أول وهلة ، وقناعة المجتمع الدولي بعدم جدوى القتال الدائر بجنوب السودان، وانه لا بد من إنهائها باى ثمن مهما كان , آثرت الحركة الشعبية المضي في مخططاتها بإقامة سودان جديد، تكون الغلبة فيه إلى العنصر الأفريقي، من واقع تصريحات قائد الحركة، حتى إبان محادثات السلام التي أثمرت مؤخراً، بروتوكولات نيفاشا للسلام الجنوبي، صرح الراحل د. جون قرنق : إن السيطرة العربية الإسلامية هي أساس أزمة الحكم في السودان, وأضاف لوكالة (فرنس برس) سبتمبر 2004م . ما يحدث في دارفور سببه إستراتيجية خاطئة وخبيثة للحكومة السودانية، في إشارة إلى المواجهة بين الجيش السوداني والمليشيات المتمردة في الإقليم وبالنظر إلى الانقسام الذي طال أجهزة الحكم الحالي حيث برزت هنالك اتصالات بين بعض المنشقين (خليل إبراهيم ود. علي الحاج) والحركة الشعبية (جون قرنق) ، زادت وتيرة الصراع المسلح.
****
وبقدر من الإيجاز ، ظهرت ثلاثة جبها ت ترتبط بشكل أو بأخر بالقتال الجاري الآن في دارفور وتعد (جبهة تحرير السودان) وجناحها العسكري (جيش تحرير السودان) هي التنظيم العسكري الأكثر نشاطاً وإليه تنسب معظم العمليات العسكرية هذه الجبهة بدأت في أول بيان ليها باسم (جبهة تحرير دارفور) ثم عادت في بيانها الثاني لتعدل من اسمها دون ذكر أو توضيح الأسباب التي دعتها إلى ذلك، وبدأ من الواضح أنها أرادت اسماً يبعدها من شبهة النوايا الانفصالية، وأن تجعل مطالبها أكثر مقبولية لدى الرأي العام في الداخل ولدى الجهات الأخرى مثل الاتحاد الأفريقي والمنظمة الدولية التي تعول إلى الحصول على الدعم السياسي منها. ويترأس الجبهة محام سواني شاب هو عبد الواحد محمد نور إلى ينتمي إلى قبيلة الفور وهنالك تقارير تشير إلى صلته بالحزب الشيوعي السوداني وصداقته مع عدد من منتسبيه داخل الحركة الشعبية الجنوبية، بينما يشغل منصب الأمين العام (مناي أركو مناوي) ومعظم القادة العسكريين في صفوف الجبهة كانوا ضباط سابقين جرت إقالتهم من الجيش السوداني، ومهدوا لمهمة تدريب عناصر الجبهة، وإنشاء معسكرات بلغت سبعة ، بمعاونة آخرين ينتمون إلى حركة قرنق. وتجدر الإشارة إلى أن القائد عبد الله أبكر القائد العام لجبهة تحرير السودان (دارفور) قتل في أحدى المعارك الدائرة هناك.
وتتحدث البيانات السياسية لجبهة تحرير السودان عن التهميش الذي تعرض إليه إقليم دارفور واستبعاده أبنائه من قسمة السلطة وانعدام الخدمات الأساسية أو قلتها وتنتقد هيمنة ما تسميه بالوسط النيلي وتنادي بحكم ذاتي موسع وإعادة بناء السودان على أسس جديدة (السودان الجديد) وتقول إن الاضطهاد الوحشي والتطهير لعرقي المدعوم من قبل النظم الحاكمة في الخرطوم، تركت سكان دارفور بدون أي خيار سوى اللجوء للمقاومة المسلحة!
****
التنظيم الثاني الناشط الآن في دارفور هو (حركة العدل والمساواة) التي يقودها خليل إبراهيم المقيم الآن في لندن بينما كان يقود عملياتها العسكرية (التجاني سالم درو) وهو ضابط سابق أقيل من الجيش التشادي ، اختلفت المصادر حول هويته وهل هو تشادي أم سوداني, وأما قائدها العسكري الحالي فهو عبد الله بندة الذي برز اسمه فى بيانات وتصريحات المعارك مع حركة التحرير أكثر مما برز اسم الدكتور خليل إبراهيم رئيس ومؤسس الحركة من اجل العدل والمساواة
وخليل ظل يعمل طبيباً قبل انقلاب الإنقاذ الأخير فى 30 يونيو 89م ، إلا انه صعد الى السطح بحسبانه احد المقربين من الشيخ الترابي عراب وعقل الانقلاب الفعلي . وينتمي خليل إلى قبائل الزغاوة إحدى اكبر المجموعات السكانية فى دارفور وأكثرها تأثيرا على المستوى الإقتصادى والسياسي خصوصا فى سنوات حكم الإنقاذ العشر الأولى ولذا كان عضواً قيادياً في حزب المؤتمر الوطني الحاكم. وعندما حدثت الانقسامات فى صفوف الإسلاميين أثر الطبيب خليل إبراهيم البقاء قرب الشيخ التربي ودعم معارضته لمن في السلطة ( الرئيس البشير ونائبه علي عثمان... وآخرين ) ،
و في مارس 1003م أعلن د.خليل إبراهيم عن تأسيس حركة العدل والمساواة التي أصدر بيانها الأول من لندن باللغة الإنجليزية وبدأ واضحاً أنه يريد أن يتخلى عن عبء أطروحاته الإسلامية السابقة – ولو بحساب محدد- ولذا مال إلي تبنى طرحاً فكريا مرتبكا - علمانياً فى حقيقته – حيث بد حريصاً على إبعاد نفسه وحركته بقدر كافي عن المؤثرات العربية والإسلامية والدليل انه انخفضت نبرة الخطاب الديني الذي يميز أنصار الشيخ الترابي لصالح تزايد مساحات الخطاب الأثني والقبلي لملائمة الجغرافيا الثقافية للمنطقة حيز النزاع آو التي يفترض فيها الحصول على المؤيدين للحركة الجديدة(غرب السودان) !
وبالرغم من هذا لم يشهد على حركة العدل والمساواة انها تدعو إلى فصل الدين عن الدولة كما تنادى الحركة الأخرى من اجل التحرير. وتنادى العدل ببناء (سودان جديد) مدني وديمقراطي كما تتحدث عن تحالف المهمشين ضد سلطة المركز وإتاحة دور أساسي للمهمشين في عملية إعادة الصياغة هذه.
وتشير بعض التقارير الصحفية إلى أن خليل إبراهيم كان أحد المشاركين الأساسين فى إعداد الكتاب الأسود، وهو وثيقة حوت حصراً دقيقاً لكافة المناصب القيادية في السودان منذ الاستقلال، لإثبات مقولة هيمنة وسط وشمال السودان على السلطة واستثارة بها، كما انه دوام على الالتقاء بالدكتور جون قرنق ...
****
وأما التنظيم الثالث المشارك في أحداث دارفور هو حزب التحالف الفيدرالي الذي يتزعمه احمد إبراهيم دريج وهو سياسي سوداني من غرب السودان ينتمي إلى قبلية الفور وقد لعب ديج أدورا بارزة في السياسة السودانية منذ النصف الثاني للتسعينات إلا أن حزبه بقى جهوياً على الدوام يحمل مطالب دارفور. ويبدوا أن احمد إبراهيم دريج الذي يقيم الآن في لندن قد لحق به التعب والملل من الحياة السياسية في السودان فأصبح شريف حرير ونائبه في الحزب هو الشخصية الأكثر نشاطاً. فشريف حرير ينتمي إلى قبيلة الزغاوة وأصدر بيانات ينسب فيها العديد من الأعمال العسكرية الجارية إلى حزبه ثم عاد وذكر أن العمليات العسكرية تعبر عن تحالف عريض من أبناء دارفور وإن كان من الواضح أن علاقة حزب التحالف الفيدرالي غير ودية، مع حركة العدل والمساواة حيث يلجا شريف حرير إلى الإشارة الدائمة للانتماء الإسلامي لخليل إبراهيم.
****
واضح أن حركة قرنق يرحمه الله أورثت أدبيات كثيرة، وألهمت الحركات المسلحة في دارفور تراثاً فكرياً وثقافياً هائلاً، للاستعانة به في كفاحها ضد السودان القديم.
وتشير بعض التحليلات إلى وجود العلاقة التي تنظم تبادل الرؤى حول العمل الميداني، وأوردت تقارير صحفية معلومات عن إرسال الحركة الشعبية، فيوقت سابق ، لعدد من خبرائها العسكريين، حيث يقود أولئك الضباط التدريب والخطط الحربية بالانطلاق من معسكرات المسلحين في (روكري) و(سلك) حيث يوجد القائد (أكود) وهو من أمهر راسمي الخطط العسكرية، وتلقى ومعاونوه دورات مكثفة بإسرائيل منتصف التسعينات كما شارك ضمن الهجوم اليوغندي الذي رافق قوات الحكومة بجنوب السودان مارس 1997م.
كما أفادت تقارير أخرى، ان الراحل جون قرنق ظل يلتقى زعماء الحركات المسلحة، مثل د.خليل وعبد الواحد ومعهم رئيس الأسود الحرة (متمردو شرق السودان) ,مراراً وتكراراً ، في العاصمة الإريترية اسمرا . كما التقى أكثر من مرة د.على الحاج وخليل وآخرين من المؤتمر الشعبي المنشق وذلك لتطويق قدرات خصومه (الحكوميين) على مائدة التفاوض بنايروبى حدث هذا بألمانيا أكثر من مرة كان أخرها قبل حوالي شهر تقريبا من التوقيع على بروتوكولات اتفاق السلام فى يناير 2005م.
****
فيما يبدو ان زعيم الحركة الشعبية عنى بالضرورة ما يريد توصيله عندما قال " ما يحدث في دارفور سببه إستراتيجية خاطئة وخبيثة للحكومة" ، وهو ما أشاعه الاهتمام العالمي الكبير بما يسمى مليشيا الجنجويد بافتراض أنها مجموعات عربية صرفة – عرقيا- ومسلحة تساند الحكومة في دارفور.
ولكن حذر شديد ميز زعيم الحركة الشعبية في التعامل مع الإعلام بالنسبة الى ملف الأزمة بإقليم دارفور، وهو ما يفتح الباب واسعا الآن بعد رحيله وتنصيب نائبه الفريق سلفا كير نائبا أولا فى الدولة السودانية ان تلعب الحركة الشعبية دوراً سلمياً مغايرا لدورها السابق الملىء بالتناقضات . وفى الحقيقة فإنها بما تمسكه من خيوط في دارفور مؤهلة في ذلك وأكثر !