لكن ما هو أكثر حزنا ان الخريطة «التوزيعية» لهؤلاء الاطباء هي خريطة مجحفة جدا: «90» منهم في العاصمة والبقية في الولايات‚‚ ولا طبيب واحدا للعيون في كل الولايات الجنوبية‚
هذه الأرقام قال بها تقرير لتليفزيون (ام‚بي‚سي) من الخرطوم فيما كانت الكاميرا تكشف بعينها عن اعين تبحث عن الضوء‚
طبيب عيون همام تحدث عن هذا الأمر المحزن بحزن شديد قال: هذه الخريطة «التوزيعية» لأطباء العيون تقول باختصار ان هنالك طبيبا واحدا للعيون لكل خمسين الف نسمة في الخرطوم وطبيب واحد لكل مليون نسمة خارج الخرطوم ولا طبيب واحدا لملايين من البشر في الجنوب‚
خريطة أطباء العيون تكشف شيئا مهما ومؤسفا في ذات الوقت: السودان الذي يعاني من توزيع غير عادل للسلطة والثروة تسبب في حروبات يعاني من توزيعات غير عادلة أخرى في المهن‚‚ ومن هذه المهن تلك المرتبطة حتى بنعمة البصر ونعمة الحياة‚
خريطة أطباء العيون يمكن ان تكون هي هي خريطة أطباء غير العيون في السودان مع اختلاف بالطبع في الأرقام‚
السودان - اذن - يعاني أزمة أطباء‚ الأزمة أسبابها معروفة: الهجرة‚‚ وتلك اسبابها معروفة ايضا ومن اسبابها أسباب سياسية وأسباب أخرى متعلقة بالفقر وضمور الامكانات في المستشفيات‚
أزمة هجرة الأطباء ليست هي الأزمة (المهنية) الوحيدة‚ هنالك هجرات للكفاءات من مختلف المهن: مهندسين واساتذة جامعات وصحفيين وقضاة ومحامين ومصرفيين و‚‚ و‚‚ القائمة بالتأكيد تطول‚‚ مؤتمرات كثيرة انتظمت حول الهجرة: اسبابها وكيفية (محاربتها)‚ قدمت الكثير من الحلول‚‚ لكن كل هذه الحلول ظلت حبيسة أدراج الى ان أكلتها العتة‚
بالطبع لئن كانت كانت الحكومة السودانية «معذورة» فيما مضى في مواجهتها هذه الأزمة كما ينبغي فإنه ليس من عذر الآن تحديدا في هذا الوقت الذي دخل فيه السودان «نادي أغنياء النفط»‚‚ وفي هذا الوقت الذي يؤسس فيه السودان لتغيير كبير على أسس جديدة قالت بها اتفاقية السلام بين الشمال والجنوب‚
في السودان وبعد وقت (لنقل ليس قليلا) من تحميل نفطه الى الخارج قفز السؤال: أين تذهب أموال البترول؟
السؤال يأخذ وجاهته من حقيقة أن لا شيء تغير على صعيد الخدمات في سودان ما بعد تدفق عائدات النفط وأولى هذه الخدمات بالطبع تلك المرتبطة بحياة الناس في المستشفيات‚
ربما يجيب من يجيب بغير اجابة وزير النفط عوض الجاز لمستشار الرئيس مبارك الفاضل المهدي ذات خناقة «أموال البترول نشتري بها أمثالك»‚‚ ربما يجيب من يجيب: اموال البترول كانت تذهب لحماية وحدة السودان تلك التي كانت تهدرها الحرب في الجنوب‚
حسنا‚ الآن‚‚الحرب انتهت‚‚ وينبغي بالتالي ان تذهب فاتورتها الى ما ينفع الناس في السلام‚
السؤال القديم سيطرح الآن بشدة: أين تذهب اموال البترول؟
الاجابة بالطبع لن تحتمل أي محاولة للكذب أو الالتفاف أو حتى التأتأة أو الثأثأة أو الشأشأة‚
و‚‚ حين يظل السؤال قائما بلا اجابة فيما تظل الخدمات خاصة العلاجية من انهيار لانهيار وتظل هجرة الكفاءات بمعدلاتها المخيفة بسبب (الفقر) وضمور الامكانات فإن (حربا) أخرى ستندلع في السودان‚‚ حرب هذه المرة على «شركاء حكومة السلام» تلك التي فشلت في التوزيع العادل لكفاءات أبناء السودان في مختلف المهن على كل السودان‚‚ وفشلت في الارتقاء بالخدمات من اموال البترول‚
و‚‚ من قال ان البترول سبب للصراع العرقي أو الجهوي فقط‚ في السودان لا يعرف البترول‚‚ ولا تعرف صراعاته التي لن تنتهي!