بقلم : طه النعمان
ظاهرة صحية: ملف (التحالف) حول الفساد
جميل أن نرى بين ظهرانينا حزباً أو جماعة سياسية تنتقل بدعوتها من مجرد التبشير السياسي العام والأيديولوجيات المحفوظة والدعاية التي لا تغادر مربع الأماني الجوفاء والوعود الخرقاء، لتقدم رؤية محسوسة ومحدودة المعالم حول قضية بعينها تؤرق المجتمع، وكادت أن تلتهم كل غض وجاف، وتطرح هذه الرؤية للحوار والنقاش، إثراءً للرؤية نفسها من جانب، وإشراك المجتمع نفسه في بلورتها تمهيداً لتعزيزها بالإقتناع تمهيداً لتبنيها في الممارسة العملية مستقبلاً.
فقد زوّدنا (التحالف الوطني السوداني) بقيادة الصديق العميد عبدالعزيز خالد بملف خاص، أنيق الطباعة والتبويب والتغليف، يحمل اسم التحالف وشعاره المرسوم الذي هو خارطة السودان التي تظللها خطوط تقاطعية، لا أفقية ولا رأسية، وشعاره المخطوط المختصر في عبارة (نحو بناء دولة مدنية ديمقراطية) ورغم أني لم أكن عضواً في التحالف يوماً فلا أعتقد أن هناك من يرفع سبابته معترضاً على بناء (دولة ديمقراطية مدنية).. اللهم إلا الغلاة والبغاة والطغاة وأهل (الفساد) الذي هو موضوع هذا الملف الذي نتناوله بالعرض والتعليق وفاءً لديدن الصحافة الحرة في محاربة الفساد والمفسدين وتعميقاً لروح الشفافية وطهارة الأيدي والنفوس التي غدت مطلباً عزيزاً في هذه الأيام.
يتكوّن ملف التحالف حول الفساد من 24 عنواناً ومقدمة اتخذت اسم (خلفية) وغطى 14 صفحة من القطع المتوسط. وفي الخلفية المقدمة تحدّث (التحالف) عن أن الضباط التنفيذيين والموظفين العموميين هم وكلاء للشعب حين يؤدون واجباتهم التي إئتمنهم الشعب عليها، باعتبار أن كل مناصب الدولة وديعة للشعب، وبالتالي على الضباط التنفيذيين والموظفين العموميين أن يسخّروا مناصبهم لخدمة الشعب وقضاء حوائجه، وألا يستغلوها مطلقاً لمصلحتهم الخاصة.
واستعرضت (الخلفية) ـ المقدمة ـ أحوال الخدمة المدنية في مختلف العهود منذ عهد الحكم الثنائي، مروراً بالعقدين التاليين للإستقلال حيث وصف تلك المرحلة بأن الخدمة فيها كانت (أكثر احتراماً واحترافاً وبعداً عن الفساد من كل رصيفاتها في إفريقيا)، حتى تصل إلى عهد (ديكتاتورية نميري)، لتربط بين ما شهده ذلك العهد من تدهور في الإقتصاد وتفشٍ للمحسوبية وانتشار للفساد الحكومي وتدني مستويات الأداء ليتقوض بذلك أساس الخدمة المدنية التي كانت يوماً مبعث فخر واعتزاز، مشيراً في الوقت ذاته أنه تقصير الحكومة المنتخبة التي أعقبت الإنتفاضة الشعبية وخلع نميري، حيث لم تقم بشئ يذكر لتصحيح فساد الخدمة المدنية، وهو الفساد الذي استشرى في كل مستويات الأجهزة الحكومية طرداً مع تدهور الإقتصاد بعد يونيو 1989م وانقلاب الإنقاذ ـ حسب تقرير الملف ـ الذي أشار إلى أيضاً إلى تصفية الجبهة القومية الإسلامية للخدمة المدنية من كل الكفاءات المهنية التي لم تدن بالولاء لفكرها.
واعتبرت (الخلفية) أن الفساد العام في أجهزة الدولة احد الأسباب التي أفقرت السودان رغم غناه بالمواد الطبيعية..
وحتى يبدو التحالف أكثر واقعية فقد لفت نظري إشارة إلى أنه ليس هدف هذه الرؤى، أو الورقة، استئصال الفساد الحكومي في السودان، معتبراً أن ذلك هدفاً (يستحيل تحقيقه وأية محاولة في هذا الشأن قد تشمل خرقاً لحقوق الإنسان وتتعارض مع مباديء الحكم الديمقراطي، وإنتهى إلى أن الأهداف التي تسعى الورقة لتحقيقها هي (أن يكون الفساد الحكومي جزءً ضئيلاً وغير مؤثر في الحياة السودانية).
الحقيقة، لقد استوقفني هذا الجزء بالذات من ملف أو ورقة التحالف حول الفساد، لما صاحبه من عدم توفيق في تحديد الأهداف وصياغتها على نحو مفهوم ـ وهذه مسألة جوهرية ـ فلا يمكن لمن يريد أن يتصدى لقضية الفساد أو لأية جريمة كانت أن يقول إن هدفي ليس إستئصالها بل تقليلها. وأستطيع أن ألمح المناقشة التي دارت حول الموضوع وأن أحد المداخلين قد ذكر أن إستئصال الفساد لن يتم بشكل كامل وضرب مثلاً بدول عديدة مايزال يستشري فيها الفساد رغم غناها وديمقراطيتها.. ولكنني لا أستطيع أن أفهم الإستنتاج السريع الذي وصل إليه هذا الجزء (المختصر جداً) من الورقة الذي يقول إن أية محاولة في هذا الإتجاه (إستئصال الفساد الحكومي في السودان) قد تشمل خرقاً لحقوق الإنسان وتتعارض مع مباديء الحكم الديمقراطي.
لم أفهم لأني أرى أن حقوق الإنسان ذاتها ومباديء الحكم الديمقراطي الراشد تستلزم إعمال مبدأ الحقوق والواجبات، والمحاسبة الشفافة وسيادة القانون مهما كانت أحكامه مؤلمة أحياناً، وهذا ما ستذهب الورقة نفسها إلى تفصيله لاحقاً.. وكأني أشعر أن الخلل صاحب الورقة في هذا الجزء نتيجة الصياغة وربما الابتسار والإختصار المخل.
على أية حال، ربما كانت قيمة ورقة (التحالف) في تبنّيها المبكر لقضية الفساد وتنبيه القوى الأخرى لضرورة الإهتمام به، وأكثر من ذلك الإهتمام بالبرامج التفصيلية في مواجهة القضايا الملحة والإبتعاد عن التعميمات السياسية واللفظية في مواجهة واقع معقد، وهذه قيمة حقيقية يجب الوقوف عندها ملياً.
لقد اقترحت الورقة بالفعل أشكالاً للرقابة والمحاسبة والشفافية وتفصيلات عديدة بينها أداء القسم، وإبراء الذمة ووسائل العقاب في حالات التجاوز، وأجهزة ومؤسسات لمراقبة الأداء العام، وحرية الحصول على المعلومات، وكيفية تنسيق المشتريات والعطاءات الحكومية.
لكن القاريء المتأمل، يجد أن الورقة تستحق الإهتمام لقيمتها الريادية، لكن مرة أخرى، فالورقة ذاتها أو ملف الفساد يستحق عملاً وبحثاً يعكف عليه متخصصون وخبراء في مجالات الخدمة المدنية والإدارة والقانون، ليقدموا دراسة موثّقة ومفصهلة تبنى عليها مقترحات تتخطى التعميم الذي لم يخل منه الملف، المهم أن التحالف أطلق (مبادرة) تستحق التشجيع، ولا شك هي مظهر عافية بدأت تدب في أوصال (أجسامنا السياسية).
* نقلاً عن صحيفة (الوطن).
--------------------------------------------------------------------------------