ذكرتني ورقة حمدي الاقتصادية مقولة شهيرة لسيدنا عمر بن الخطاب حيث قال وهو يصف خلافته (( أن مثلي ومثلكم كمثل رجل يركب سفينة ، فقام من بين ركابها رجل يحمل فأسا وقال أنني أريد أن أخرق مكاني ، فان أمسكوا بيده سلم وسلموا وان تركوه غرق وغرقوا معه في اليم )) ، وهذه المقولة لها الان معني ووقعا خاصا في حياتنا السياسية ، فاما أن نترك حمدي يمزق السودان بأنيابه وأظافره واما أن نقف في وجه بقوة ونرد عليه ليبقي هذا البلد متماسكا وموحدا ، ومن المؤسف أن ورقة حمدي الاخيرة لم تجد التجاوب المطلوب في الصحافة الحكومية والتي استحت من الولوغ في الفضيحة المدوية ، ونحن في السودان تعودنا علي نقد سياسات الدول الكبري والمنظمات الاقليمية في صحفنا المحلية ، وأحيانا نغطي الِشأن الخارجي أكثر من الداخلي فنتعاطف مع المسلمين في البوسنة والصومال والشيشان لنغض الطرف عن ما يجري للمسلمين من مأسي في دارفور ، وهذه المرة أيضا تم غض الطرف عن ورقة حمدي و التي تفوح منها رائحة العنصرية الكريهة وهي أشبه براكب السفينة الذي عناه سيدنا عمر بن الخطاب بقوله ان أمسك الناس بيده سلم وسلموا ونجوا وان تركوه يفعل ما يريد غرقوا معه في اليم ، فالسودان الان يعيش مرحلة حساسة من عمره التاريخي ، فلأول مرة نشعر بأن السودان سوف يرجع الي تلك التركيبة السياسية التي سبقت عهد التركية ، ووسط هذا الجو المشحون بعدم الثقة والكراهية أشعل الاستاذ /حمدي قشة الكبريت بورقته الموبوءة ليفتح الطريق ممهدا أمام دعاوي الانفصال والحروب الاهلية ، ومن المفارقة أن الذي بيده كنوز السودان من نفط وذهب هو الذي يطالب بالانفصال وليس العكس ومن المفترض أن تكون دعاوي الانفصال صادرة من أفواه المهمشين الذين أمتلأت بهم أرض السودان الواسعة .
وفي محاولة استباقية كان الغرض من تلطيف الاجواء سعي الاستاذ/عثمان ميرغني الي التقليل من خطورة الاراء المتعصبة التي ورد ت في ورقة حمدي وأعتبر أن ما أجيز منها لا يتعدي الثلاثة بنود ، وهي تقليل الضرائب وتمليك الاراضي الاستثمارية وتسهيل دخول راس المال الاجنبي ، وليس المطلوب من حزب المؤتمر الوطني اجازة البنود التي تتواءم مع رؤية حمدي الشخصية لتوجيه الاستثمارات في السودان ، فهو بالتأكيد سوف يستفيد من هذا الوضع الجديد لأنه حضر المؤتمر كرجل مستثمر وليس كرجل وطني يحمل علي عاتقه مشروعا اجتماعيا يربط تدفق الاستثمارات بتطور أهل الهامش الذين أنزووا بعيدا الي ركن قصي وتركوا الملعب خاليا لحمدي وأمثاله وهم يقلبون خارطة السودان شمالا وجنوبا ، ويمني ويسرة ، وغربا وشرقا وهم يدققون في سحنات الناس وعقائدهم ليروا ايهم أحق بالتنمية وايهم أحق بالجهل والفساد ، وكنت اتوقع من حزب المؤتمر أن يدين ورقة حمدي لأنها أتت في توقيت غير مناسب ، وكان من باب أولي أن يتم رفضها جملة وتفصيلا وعرضها للنقد والتحليل في الصحف وليس اجازة بعض بنودها ، فلا شرف من بعد البغاء ولا أمانة من بعد اللصوصية ، والاستاذ/حمدي يختلف عن رجال الانقاذ الاخرين في كثير من الاشياء ، فهو يقول رايه بشجاعة و من غير خوف أو وجل ، ورؤيته حول تقسيم السلطة والثروة كانت واضحة ولا تحتاج لدرس ( عصر ) من الاستاذ/عثمان ميرغني والذي حاول جاهدا أن يصرف أنظارنا عن جوهر ورقة حمدي الاساسية والتي تدعو من غير مواربة الي الغاء كل من اقليم دارفور والشرق من خارطة السودان الجديدة من أجل انشاء جسم جيوبولتيكي مكون من العرب والمسلمين في الشمال .
ولكن هل يعتبر ما قاله عبد الرحيم حمدي أمرا مستحدثا وجديدا في السياسة السودانية ؟؟ بالتأكيد لا ، لأن هذا التصور كان حبيس الادراج لفترة طويلة ، وهناك ضرورة تملي علي النظام اتباع سياسة المراحل لأعلان تصوره الجديد لحكم السودان ، واذا أمعنا النظر في المكونات الاساسية لنظام الحكم الحالي فسوف نكتشف أن مشروع السودان الحمدوي يسير علي قدم وساق ، فالنظام الحاكم الان يتكون من ثلاثة أنواع من النسيج السياسي ، حزب المؤتمر الوطني وهو الوعاء الجامع للاسلاميين والمايويين القدامي والمجموعات الجهوية ، والنسيج الثاني هو حزب المؤتمر الشعبي والذي لم يقطع الي الان شعرة معاوية مع حليف الامس القريب ، ووفقا لمصادر معلوماتي أن كوادر حزب المؤتمر الشعبي في الخارجية والجيش والامن لم يتم تسريحها بصورة كلية ، وان الاجتثاث من الخدمة شمل فقط أبناء دارفور وبقية أقاليم السودان الاخري ، وبقيت رموز المؤتمر الشعبي الشمالية في صفوف الخدمة المدنية بسبب تشعب العلاقات الاجتماعية التي تربطهم بحلفائهم السابقين من أعضاء حزب المؤتمر الوطني الام ، ومسرحية الخلاف بين الحزبين كانت خطة مدروسة من أجل التخلص من العبء التاريخي للبؤر الاجتماعية والتي كانت تعزف لحنا نشازا في جوقة تم اعدادها بذكاء لتمثل لونا اجتماعيا أحاديا اسمه الشمال النيلي ، والنسيج الثالث والاخير هو منبر السلام العادل والذي يشرف عليه الطيب مصطفي وتموله أجهزة النائب الثاني لرئيس الجمهورية ، وهناك صفة غريبة في منبر السلام العادل لأن هيئتة الاستشارية مكونة من وزراء سابقين كانوا في يوم من يشغلون مناصب قومية في الدولة السودانية ، وهم خليط من الجنسين مؤتمر شعبي ووطني ، فمعروف عن دكتور عبد الوهاب عثمان بأنه من الذين أنخرطوا في مجموعة الترابي بعد وقوع الطلاق البائن مع حزب المؤتمرالوطني في 1999 ، وبما أن السياسة هي فن الممكن حيث لا توجد فيها عداوات دائمة أو صداقات دائمة فقد سلك د.عبد الوهاب عثمان طريقين مختلفين ولكنهما يجتمعان في نقطة واحدة وهي التبشير بدعوة انشاء الدولة الطائفية في الشمال ، وهناك ا شارات صحفية تومض بأن دكتور الشوش ربما يلتحق قريبا بركب بمنبر السلام العادل ، ولقد قرأنا كلمات الغزل التي قالها في حق الطيب مصطفي عندما ألتقاه في مصر ، ومن المحتمل أن يشغل د.الشوش منصب سفير السودان بدولة مصر تقديرا له وامتنانا علي كتاباته الاخيرة حول ضرورة تكوين كيان للحكم يوحد أهل الشمال ليقف في وجه أطماع أهل الهامش المنحدرين من الجنوب والغرب والشرق والوسط ، ورابع المجموعة الطيبة هو الاستاذ/عبد الرحيم حمدي والذي رأي أن توظف الدولة ألتها الاقتصادية من أجل ضمان مصلحة الحزب وبقائه في السلطة ، فهو يدعو لانشاء دولة قوية في الشمال تستخدم مال المستثمر الاجنبي من أجل تثبيت دعائم حكمها في سنار وكردفان ، فحمدي أحتضن سنار في مشروع دولته الجديدة ليس بسبب تاريخها الاسلامي ولكن بسبب الطاقة الكهربائية العالية التي يوفرها خزان الرصيرص والذي يغطي 85 % من احتياجات الكهرباء في السودان ، ولا يعود سبب احتضانه لسنار أيضا لأنها أنجبت الشيخ الحكيم فرح ود تكتوك صاحب مقولة (( كل يا كمي قبال فمي )) ، فعينا عبد الرحيم حمدي مصوبتان نحو خزاني الروصيرص وسنار وهو يعلم أهميتهما الاقتصادية والسياسية ، لذلك ضم حمدي سنار الي مملكته الجديدة طمعا في مواردها المائية التي تغذي الشمال بالكهرباء وليس لحبه لاحفاد السلطنة الزرقاء ، ونفس الشئ ينطبق علي محور كردفان والذي تمتد فوقه شرايين البترول التي تغذي قلب دولة حمدي بالمال الوفير ، فخط انابيب البترول يبدأ من بانتيو ويمر فوق أراضي واسعة من اقليم كردفان ، ولذلك بقيت منطقة كردفان حيوية في محور حمدي ، وأضف الي ذلك أهميتها النابعة من قربها لبعض حقول البترول الخارجة عن سيطرة الحركة الشعبية ، وتحتاج الانقاذ لفترة ستة سنوات وهي عمر اتفاق نيفاشا من أجل احتضان اقليم كردفان ، وبعد انتهاء الغرض فسوف تعمد الانقاذ الي التخلص من عبء كردفان لترضع جنينا واحدا وهو ابن الشمال الشره ، ومن حق عبد الرحيم حمدي أن يسقط دارفور من حساباته لعدم وجود مصلحة اقتصادية في هذا الاقليم يمكن توظيفها من أجل احتفاظ حزب المؤتمر الوطني بالسلطة ، فكل ما هو موجود في دارفور لا يزيد عن الماساة ، فالحرب قد حرقت الزروع ويتمت الاطفال ورملت النساء ، ورحلت روح الحياة المدنية عن الاقليم بعد قصف القري والمجمعات السكانية بالطائرات ، فهذا الاقليم أصبح مصدر قلق بالنسبة لرجال الانقاذ ، وأصبح البوابة التي يدخل منها طائر الشرالذي يحمل بين جناحيه مرض أنفلونزا الطيور المميتة ، فالحرب في هذا الاقليم جرت انتباه المجتمع الدولي الي طبيعة النظام الحاكم في الخرطوم ، وجلبت معها أيضا ظاهرة المندوبيين الاميين والذين يتوافدون كل يوم علي السودان ليشكلوا مصدر خطر حقيقي علي النظام ، وأعتاهم من ناحية الخطورة مفوض الامم المتحدة يان برونك ، صاحب الصوت المسموع في أوروبا ومجلس الامن ، واذا أنفصل اقليم دارفور عن لحمة السودان سوف تكون الانقاذ قد تعافت بحق وحقيقة من مرض الصداع النصفي ونجت من سيف العقوبات الدولية المعلق فوق راسها منذ عدة اشهر ، ونفس المعيار ينطبق علي اقليم الشرق ، فقد لفظتها الانقاذ عظمة بعد أن أمتصت آخر جرام من الذهب كان موجودا في هذا الاقليم .
والان حان وقت الحصاد ليعرف كل امرئ كم جني من أرباح خلال هذه الفترة ، وتتطلب المرحلة القادمة القاء بعض الحمل من الزورق لتخفيف الثقل لكي يبخر في اليم بسلاسة وهو يحمل علي متنه الناجين من أعضاء حزب المؤتمر الوطني ، ولم يتم استخدام القرعة لنعرف من الذي سوف يرمي به ليكون طعاما للتماسيح والاسماك ، فقد وقع الاختيار بالفعل علي دارفور والشرق لتكونا من الاراضي المنبوذة والتي زهد فيها الطامعون ، ولتذهب هذه الاصقاع الي الجحيم بعد استنفاذ قيمتها الدفترية ، ومشكلة حمدي أنه أطلق لافكاره حبل العنان ولم يتمالك نفسه شعوريا وهو يبوح بالسر المكنون في وجوه الاشهاد ، والان قد خرج الجني من الجرة ومن الصعب ارجاعه مرة أخري ، ولم تعد هناك طريقة ممكنة للتراجع أو التحايل علي النقاط التي ضمنها الاستاذ/ حمدي في ورقته ، أو تفسيرها بشكل لم يقصده سعادة الوزير السابق ، لأن الفكرة باتت وضاحة وجلية لأنها أنتقلت من رزم الورق المكدس الي حيز التنفيذ العملي ، وحمدي يعتبر رجلا بكل المقاييس صعبا في المعادلة الانقاذية ، فهو الوزير الوحيد الذي كان يتمتع بالحصانة المطلقة وعلو الكلمة ، وكان له مطلق الحرية في اتخاذ القرارات الاقتصادية الهامة ، وتدعمه في ذلك الطبقة الرأسماليه داخل حزب المؤتمر الوطني ، وهي بالتأكيد طبقة لا يستهان بها بعد أن اشتد عودها بعد العوائد التي جنتها من ثورة تفجير البترول ، وبذلك يصبح راي حمدي ملزما لقادة الانقاذ وليس أقل من ذلك . وهو رأي من يملك مفتاح الثروة والغني وليس راي الهتيفة وحارقي البخور والذين لا يفقهون حرفا واحدا من دروس البرفيسور حمدي القيمة .
الا أن التقيكم
سارة عيسي