إتفاقية الترتيبات الأمنية و حق تقرير المصير:-
بقلم / مدينق ودا منيل
ظلت إتفاقية الترتيبات الأمنية نقطة خلاف جوهري في مسار إتفاقيات نيفاشا, بل في أحيان كثيرة أوشكت أن تطيح بالعملية السلمية برمتها لحساسية وتعقيدات الموضوع, حيث لأول مرة في تاريخ السودان تتطرق المحادثات الى مسألة وجود جيشين في إطار دولة سودانية موحدة , و يعزى السبب في ذلك إلى أن القوة العسكرية كانت المعيار الذي اتفقت عليه الطرفان ضامناً للإتفاق خاصة الحركة الشعبية لتحرير السودان .إذا نظرنا بتفحص في كواليس المفاوضات فأن بعد الهوة وعدم الثقة الذي اكتنف مسار المفاوضات منذ 1994 قد ألقى بظلاله على مجريات الأمور!!!!! و لكن بصبر و مثابرة مهندسي السلام الأستاذ علي عثمان طه والراحل المقيم الدكتور جون قريق دي مبيور , تمكن الرجلين من تحقيق حلم الشعب السوداني بالوصول بالاتفاق الى بر الامان أي سلام الشجعان,,,,,, سلام التراضي لا غالب ولا مغلوب.
لماذا جاءت إتفاقية الترتيبات الأمنية بهذه الصورة:
تعرضت الاتفاقية لسيل من الأنتقادات بحجة أنها تكرس للإنفصال, و أن المتعارف عليه في اتفاقيات السلام بين الحكومات والمتمردين دائماً أن تنتهي بأستيعاب جزء من قوات التمرد في الجيش الحكومي , هذا الوضع الجديد لم يألف إليه الساسة السودانيين ؟؟؟
لسبب البسيط ويرجع ذلك لعدم أعتراف معظم الساسة بتعقيدات الوضع السوداني نفسه, و إذا رجعنا إلى إعلان المبادئ فسنجد بأنه في حال تعذر على الطرفين الوصول إلى إتفاق, و إصرار حكومة الخرطوم على تطبيق الشريعة الأسلامية في السودان , فأن الخطوة التالية هي اللجوء إلى الترتيبات الخاصة أي منح جنوب السودان حق تقرير المصير.
وبما أن حق تقرير المصير لا يمكن أن نتكهن بنتائجه بل كان الخيار الوحيد أمام طرفي النزاع للوصول إلى حل وسط أي فترة إنتقالية يتم بموجبه فتح أبواب الحوار بين كافة القوى السياسية السودانية للوصول إلى صيغة مرضية لتجنيب البلاد من مخاطر التقسيم والتمزق. وذلك ببذل جهد لتحقيق وحدة جاذبة تصب في مصلحة السودان.
الخلاف الأساسي في تكوين الجيش الموحد:
• بما أن الجيشين أي الجيش الشعبي لتحرير السودان و الجيش الحكومي كانا في حالة الحرب لفترة تزيد عن 21 عاماً لذا أصبح من الصعب دمجهما في جيش موحد وبالسرعة المطلوبة كما كان يخطر ببال الأخرين , حيث أن أتفاقية أديس أبابا شابها بعض الأخطاء الإستراتيجية في دمج الجيشين مما نتج عنه بعض الأحداث الدامية لا زالت ذكرياتها عالقة في الأزهان.
• و جود ما يعرف بعقيدة الجيش , بما أن الجيشين المتحاربين كانا يعتمدان على عقيدة قتالية متباينة فكان لا بد من تكوين نواة لجيش وطني بعقيدة جديدة متفق عليها من الأطراف يتم طرحها وتطبيقها على القوات تدريجياً , متزامناً مع نشر و إعطاء فرصة لنمو ثقافة السلام بدلاً من ثقافة الحرب والإقتتال الذي كان سائداً.
• وجود الجيش الشعبيى لتحرير السودان بشكله الحالي , يشكل الدعائم الأساسية والضامن الحقيقي لحماية اتفاقية السلام , لأن الإعتماد على الضمانات الدولية في ظل المستجدات الدولية مع الاخذ في الأعتبار تغيرات الخريطة السياسية في ظل النظام العالمي الجديد غير كافي لحماية السلام.
• طبيعة المقاتلين , وفقدان الثقة بين الأطراف نسبة لما حدث سابقاً من التجاوزات في ساحات الوغى , على رأسها أنتهاكات حقوق الأنسان و قضية الأسرى والمقاتلين المفقودين.
حاول بعض المنتسبين لبعض الأحزاب والكتل السياسية الكبيرة توجيه النقد للإتفاق كما جاء في عدة تصريحات , وخاصة ما أسمتها هؤلاء بنصيب الجنوب , و كان حجتهم بأن الجنوب حسب الأتفاق قد منح حقاً متساوياً مع الشمال بالنسبة لتكوين الوحدات المشتركة معللين تفسيرهم بأن الجنوب يساوي ثلث السودان لذا لا يحق مساواته بالشمال, هذا جهل بالحقائق الميدانية خاصة أن الأتفاق الأمني قد تجاوز في جوهره الشمال والجنوب لوجود مقاتلين منضوين في الجيش الشعبي لتحرير السودان من جميع أنحاء السودان لذا فأن تقسيم الجيش الشعبي على أساس الشمال والجنوب غير وارد , و الدليل على ذلك الوحدات المشتركة في كل من جبال النوبة و النيل الأزرق والقوى المشتركة في الخرطوم يتكون قوامها من المقاتلين من جميع أنحاء السودان , لذا الحجة التي نادى به هؤلاء الساسة ليس مبنية على حقائق الواقع, بل هي مكابرة ووضع للعقدة في المنشار لتوجيه إنتقادات غير مبررة أو تنطلق من الفهم المغلوط الذي يتشدق به هؤلاء منذ الإستقلال.
حق تقرير المصير :
لماذا طالب أهل الجنوب وجبال النوبة والنيل الأزرق و أبيي بحق تقرير المصير, هنالك عدة
أسباب نلخصها في الآتي :-
• أن الدولة بمفهومها الحديث عبارة عن عقد إجتماعي لا بد أن يتم بتراضي الأطراف و ليس بقوة السلاح أو بمفهوم الدولة الموحدة المفروضة بمنظور أيدلوجي أحادي أو قومي وبقوة السلاح وتكريس الدكتاتورية.
• شعور أبناء الهامش بالظلم نحو حكومات المركز التى تعاقبت على سدة الحكم في الخرطوم مما جعل أبنائها ينظرون إلى تلك الحكومات بالتوجس وأحياناً بالريبة .
• بما أن حق تقرير المصير حق طبيعي ديمقراطي تمنحه المواثيق الدولية للمجموعات الأثنية والثقافية التي تتمتع بوضع خاص متميز وأي مجموعات وطنية أخرى تتوافر لها المميزات والشروط اللازمة لتنال هذا الحق .
بالنسبة لاهل الجنوب هنالك أتفاق شبه تام من سائر القوى السياسية بأن يمارس الجنوب حقه في تقرير مصيره بعد ستة أعوام من أتفاقية السلام , وبغض النظر عن النتائج التي قد تفضي إليها هذه الممارسة من الوحدة الطوعية إذا توافرت الظروف الملائمة لذلك أو الانفصال و تكوين دولة مستقلة.
السؤال المطروح هل حق تقرير المصير مفهوم مستحدث في القاموس السياسي السوداني !!!!! و الاجابة بالطبع لا, فأن الجدل الذي يدور الأن في أوساط القوى السياسية بأن حق تقرير المصير فرضته ظروف الحرب في الجنوب يمثل فقط أحد وجهات العملة , و يغيب من أزهان الكثيرين من المثقفيين و المتطلعين, أن الكتلة البرلمانية الجنوبية قد طالبت بحق تقرير المصير عام 1954 برئاسة النائب / بنجامين لوكي و هو من قبائل (فجلو) في الإستوائية .لم يجد طلبه في ذلك الحين آذاناً صاغية , بل وجه له لوم و توبيخ من قبل البرلمانيين الشماليين, وقد وصل الامر الى حد تهديده بالفصل من البرلمان و بالسجن تحت طائلة قانون الخيانة العظمى.
ظهرالمطلب مرة أخرى خلال السنوات القلائل الماضية بعد اعتلاء الجبهة الإسلامية القومية عنوة على سدة الحكم واعلانها الحرب الجهادية ضد أهل الجنوب وجبال النوبة والنيل الأزرق و أبيي , و من باب شعور أبناء تلك المناطق بالغبن وأن الدولة التي ينتمون إليها قد أعلنت الجهاد ضدهم , مما جعل شعرة معاوية التي كانت قائمة بين هؤلاء المهمشين و المركز في المحك , فكر جمع من أبناء تلك المناطق بالمطالبة بحق تقرير المصير للحفاظ على أوضاعهم الثقافية و الأثنية والدينية في وضع خاص او في ظل دولة منفصلة كان أتفاق فرانكفورد بين الفصيل المنشق آنذاك و حكومة الأنقاذ بداية لظهور حق تقرير المصير على السطح مرة أخرى بصورة ضاغطة , و تبعه تضمين الحركة الشعبية له في مؤتمرها بمدينة توريت , و توالى ذلك في أتفاقية شكدوم بين الحركة الشعبية لتحرير السودان و حزب الأمة القومي و كذلك تضمنته أتفاقية أسمرا للقضايا المصيرية بين فصائل التجمع الوطني الديمقراطي. وأتفاقية الخرطوم للسلام أي ما أسمته الإنقاذ السلام من الداخل , و أخيراً بروتكول مشاكوس , بهذا فأن حق تقرير المصير ليس بالامر الجديد, والسؤال الذي لا بد منه لماذا اختفى منذ الخمسينيات ليظهر مرة أخرى و بصوت عالي في حقبة التسعينيات؟؟؟؟
الظروف الدولية خاصة بعد أنهيار المعسكر الشرقي وحصول بعض جمهوريات السوفيتية السابقة على حق تقرير المصير بل تكوين دول خاصة بالقوميات التى كانت يتكون منها الاتحاد السوفيتي ,
كذلك التمزق التى أصاب يوغسلافيا السابقة بعد الفشل الذريع في تسوية مشاكل القوميات فيها.
و أخيراً ما آل إليه الصراع الأثيوبي الأرتيري و قبول أثيوبيا بأن تنال أرتريا أستقلالها.
من يحق له ممارسة حق تقرير المصير .
في أوخر الفترة الإنتقالية يحق لسكان جنوب السودان و أبيي أن يحددوا مصيرهم بأن يصوتوا إما بالبقاء في إطار الدولة السودانية الموحدة أو الإنفصال و تكوين دولة خاصة بهم .
نحاول هنا إستقراء السيناريوهات التي قد يتمخض عنها الاقتراع بعد ستة سنوات :-
أولاً: التصويت لصالح الوحدة و هذه فرضية قائمة , كما جاء في الإتفاق بأن نجعل الوحدة خياراً جذاباً , من هنا وجب علينا شمالين وجنوبين حكومة و معارضة و منظمات المجتمع المدني العمل باخلاص من الآن فصاعداً من أجل جعل الوحدة الخيار الأول حفاظاً لوحدة السودان , وذلك من أجل خلق واقع جديد مهيأ للتعايش السلمي في ظل دولة المواطنة , هذا يعودنا إلى ضرورة تفعيل التدابير اللازمة التالية,
• تغيير المفاهيم بأن نقبل البعض والإبتعاد عن النظرة الإستعلائية المبنية على أساس ديني وعرقي و الثقافة الأحادية الإقصائية و الأعتراف بالتنوع في مكونات الدولة السودانية .
• رتق النسيج الإجتماعي بنشر ثقافة السلام وتطوير قدرات المواطن السوداني لكي يستوعب مستجدات السلام .
• القبول بدفع فاتورة السلام من جميع قبائل وشعوب السودان بتبني سودان جديد يسود فيه العدالة والمساواة بين مكوناته.
• الإبتعاد عن الغلو الديني و إستصدار فرمانات من بعض الجهات ذات أغراض الدنيئة لتحقيق مآربهم الضيقة بربط عضوية بعض أبناء الوطن بالحركة الشعبية لتحرير السودان بالكفر .
• ربط الحل الشامل بقضيتي دارفور والشرق وبأسرع سبل ممكنة لأن تاخر أو تعثر عن حل هذه القضيتين قد تلقي بظلالها على عملية السلام في الجنوب.
محاسن وجود دولة موحدة قوية تلعب دور محوري إقليمياً ودولياً:-
• وجود دولة كبيرة بحجم السودان و ذات إمكانيات من الموارد الطبيعية والبشرية الهائلة و مكوناتها المتنوعة دينياً و ثقافياً و إجتماعياً , بالذات التنوع تجعل بل تتوج السودان أن تلعب دور ريادي ومستقبلية لبناء دولة حضارية قوية .
• الموقع الجغرافي المتميز للسودان في قلب أفريقيا , يمكن أن يعلب دوراً محورياً في الربط بين إفريقيا شمال الصحراء و جنوبه , مما قد ينعكس إيجاباً في بناء الوحدة الإفريقية.
• الأمن القومي للسودان الموحد إجدر من الأمن القومي للسودان المجزء.
• التداخل القبلي بين الشمال والجنوب في ظل الوحدة أكثر سلماً من حالة التفكك و التشرذم.
• مصادر المياه والطاقة في ظل سودان موحد أكثر أماناً و إستقراراً.
ثانياً :محاسن الأنفصال للجنوب من منظور جنوبي اذا تعذرت الوحدة :-
• قيام دولة علمانية ديمقراطية في الجنوب أي حسم جدل الدولة الدينية التى أقعدت السودان لسنوات عديدة مما يمهد لوجود عاصمة قومية علمانية لكل قوميات الجنوب.
• حسم موضوع الهوية , بما أن سكان جنوب السودان إفارقة مائة بالمائة فأن جدلية عروبة السودان أو أفريقيته ستضع له نهايته.
• حسم مشاكل التعريب و أسلمة وبعض الأمور الثقافية بين الشعوب السودانية .
• فتح آفاق جديد لأهل الجنوب بخروجهم من النزاع الذي أخذ جل طاقاتهم و خسرتهم لسنين في مجالات التنمية مما جعل جنوب السودان أحد أفقر مناطق العالم .
• التركيز على التنمية والدور التى يمكن أن تلعبه الجنوب في منطقة شرق أفريقيا مع الأخذ في الأعتبار أن الثروات الموجودة في الجنوب أكثر من الموجودة في معظم دول شرق أفريقيا .
• قيام دولة في جنوب السودان قد يكون عائقاً لتوسع النفوذ العربي الإسلامي الى أعماق أفريقيا و بالتالي وضع حد لتوسع نفوذ الجبهة في ضوء ما يسمى بالمشروع الحضاري أي تصدير و دعم مجموعات أسلامية عقائدية متطرفة.
ثالثاً : المشاكل التي قد تواجه الكيانين والمنطقة برمته:-
• تقسيم الموارد و خاصة المائية وبعض الموارد المشتركة مثل المراعي و غيرها.
• مشاكل الرعاة في المناطق التى تعرف بمناطق التماس و التداخل القبلى.
• النزاع على بعض المناطق الحدودية مما قد يخلق مشاكل مثل ما يحدث الآن بين الهند وباكستان و ما يدور الأن بين أثيوبيا و أرتريا مع الفارق في طبيعة كل نزاع.
• وجود مجموعات سياسية تشارك المجموعتين فكرياً مما قد يتسبب في نزاع قد تضر كيانين سياسياً و إجتماعياً و إقتصادياً,
• النزاعات القبلية في الجنوب و إمكانية تدعيمها من قبل الشمال لخلق حالة من عدم الإستقرار في الجنوب.
• وجود مجموعات أخرى أفريقية في الشمال لا تعترف بعروبة الشمال وإمكانية دعمها من الجنوب مما قد يخلق اوضاع غير مستقرة في الشمال.
• وجود مجموعة الموتمر الوطني و جماعة الموتمر الشعبي و إمكانية إستقلالهم أيدلوجياً من قبل الشمال أي ما نسميه قنابل موقوتة.
• و جود مجموعات علمانية تشترك فكرياً مع أهل الجنوب , وإمكانية تعاونهم مع الجنوب لتغيير النظام في الشمال بالقوة مما قد يتسبب في عدم الإستقرار.
• الحدود الشاسع التي تمتد لمسافة تتراوح ما بين 1500 ألى 2000 كيلو متر من أفريقيا الوسطى ألى أثيوبيا وإمكانية مراقبة هذه الحدود و إمكانية قيام عصابات النهب والسلب و تجار المخدرات و المناوئين للأنظمة في البلدين بنشاط قد يصعب مراقبته.
• عدم التعاون المستقبلي بين الكيانين في الإتحاد الإفريقي مما قد يؤدي إلى الإستقطاب قد تؤثر سلباً على الوحدة الأفريقية.
• الأثار الإقليمية و خاصة في منطقة القرن الأفريقي و منطقة البحيرات العظمى و مثالاً لذلك كيف تأثرت دولة الصومال بالنزاع الإقليمي بين أثيوبيا و أرتريا والمتمثل في نقل قتالهم الى داخل الصومال بدعم الملشيات المقاتلة داخل الصومال.
• أي نزاع مستقبلي قد ينشب بين الشمال والجنوب قد يؤدي الى سباق التسلح أي زيادة المخصصات الدفاعية على حساب التنمية و بالتالي الأنفاق العسكري لامحدود قد ينعكس سلباً على شعوب المنطقة , و بالتالي ستتبدد الآمال المعقودة على الرخاء والإزدهار .
خلاصة: يجب أن نفكر جدياً ونترك العواطف جانباً و نناقش بعقلانية كل الفرضيات المطروحة على بساط البحث على ان, نتحمل ما قد تتمخض من النتائج أمام الأجيال القادم......
الجوال 5802130
الدار 4664549
المكتب 4773253
[email protected]
[email protected]
الدوحة - قطر