.. فانتقل الكـــلام الى خــارج (الحـــوش)؟!
بقلم: ضياء الدين بلال
بداية العاصفة
الورقة التي قدمها الاستاذ عبدالرحيم حمدي وزير المالية السابق "لدورتين" بمؤتمر الحزب الحاكم بقاعة الصداقة التي كانت تحت عنوان "مستقبل الاستثمار في الفترة الانتقالية" وطرح عبرها بجراءة فائقة تصوراً لا يتوقع أحد أن حمدي لم يكن يدرك خطورته، وما يمكن أن يترتب عليه من ردود أفعال عاصفة، ولكن الرجل الذي تمت تحت إدارته في مستهل التسعينات سياسة تحرير الاقتصاد وما تبعها من جدال واحتجاجات لا تزال تطال سيرة الرجل الى اليوم "قدحاً ومدحاً" في الوقت الذي تقذفه مجموعات باللعنات وتحمله ارتفاع معدلات الفقر، فهو عند آخرين من أولياء الاقتصاد الصالحين ترد اليهم كرامات انتهاء صفوف الخبز والبنزين ونعماء التفاح الامريكي والعنب اللبناني..!!
--------------------------------------------------------------------------------
وباختلاف المختلفين حول حمدي وسياسته السابقة وآرائه الحالية، إلا أن ما يجمع عليه، أنه يتمتع بصراحة ووضوح، ومباشرة في عرض معتقداته دون أن يبذل من الجهد الاجتماعي ما يواري بعضاً من رؤاه التي قد لا تسر الكثيرين أو أن يقوم بتقسيطها، وتجزئتها بحيث يتم امتصاصها بهدوء، وبالتالي يكون رد فعلها مجزأ يسهل التعامل معه وتجاوزه بيسر..!!
لذا مهد عبدالرحيم حمدي لورقته التي وجهت بنقد حاد من عدد من الكتاب والاقتصاديين في مقدمتهم الاستاذ طه النعمان وآخرهم الدكتور صديق أمبدة مهد بالقول:
ربط التكليف بين الاستثمار والفترة الانتقالية. وهى فترة محددة سياسياً بهدف واضح فى اتفاقية السلام والدستور والأدبيات السياسية الرائجة وهو: جعل الوحدة بين شتى (أو أجزاء) البلاد جاذبة. بمعنى تكثيف النمو الخدمى والانتاجى فى البلاد بصورة تغرى أهله بالحفاظ على إطاره الدستورى لاستمرار الاستفادة من الوحدة فى مزيد من التنمية الاقتصادية "بعد أن تم لهم اخذ نصيب وفير من التنمية السياسية.
"والتكليف يجيئ من حزب سياسى. وليس من الدولة. ولهذا يفترض أن تراعى الإجابة عليه مصلحة الحزب فى الاستفادة من الاستثمار خلال الفترة الانتقالية ليحقق له مكاسب تضمن استمرار الحزب فى الحكم والاحتفاظ له بقسط وفير من السلطة السياسية.
وعليه فإن اية استجابة مفيدة لهذا التكليف لابد أن تجيب على ما يلى بكل وضوح وصراحة ودون مواربة حتى لا يضيع جهدنا سدى فى انشائيات جوفاء.. وحتى لا يختلط عمل الحزب مع تكاليف الدولة.
الأسئلة التى تجيب عليها الورقة وهى لتعميق فكرته وتركيزها طرح حمدي حزمة منها :
أى نوع من الاستثمار نريد ؟
ما هو اتجاه الاستثمار الذي نريده : في أي مكان أو أي مواقع من القطر ؟
ما هى السياسات أو الاجراءات الأخرى التى لابد من تغييرها؟.
وقبل أن يشرع مقدم الورقة في الإجابة على تساؤلاته وضع فرضيات رآها أساسية.. وهو يمهد لتفجير قنبلة سياسية داوية.. حيث قال:
الافتراض الأول : أن الاستثمار (وهو تدفق أموال داخلية وخارجية كبيرة لإحداث تغييرات اقتصادية واضحة) هو أكيد سياسة مهمة للغاية. ولهذا يجب أن تطوع له سياسات وآليات أخرى وإلا بطل مفعوله أو تضاءل بصورة تفسد هدفه. وعليه ستتناول الورقة هذه السياسات.
الافتراض الثانى : إن التدفقات المالية المتوقعة من اتفاقية أوسلو ومن المؤسسات الدولية والأقليمية سوف تأتى متأخرة وستكون أقل بكثير من التوقعات.
ستحوطها بيروقراطية معروفة عن مؤسسات المانحين.
سيتجه ما يأتى منها الى مناطق معينة محددة سلفاً بموجب اتفاقية السلام (هى الجنوب الجغرافى بحدوده السياسية المعروفة زائداً جبال النوبة زائداً جنوب النيل الأزرق. وستشرف عليها مفوضيات محددة لضمان توجيه تلك الموارد الى تلك الجهات. ولذا فهى ستكون اساساً خارج يدنا ولن يفيد منها الشمال كثيراً.
عكس ذلك فإن التدفقات المالية العربية والاسلامية الرسمية وبالذات الخاصة أتت وسوف تأتى على الشمال الجغرافى. ويسهل أن تجذب إليه.. (وربما بتوجيه وحث من الشمال يمكن أن يذهب بعضها إلى مناطق أخرى بعض أطراف الجنوب ودارفور). وعليه فإن المصدر المستهدف فى العملية الاستثمارية من قبلنا يجب أن يكون هذه الاستثمارات.. لما لنا فى الشمال من علاقات شخصية ورسمية مع هؤلاء المستثمرين (الصنادق العربية - المستثمرين العرب والمسلمين - البنك الاسلامى للتنمية ومؤسساته).
إن الاستثمارات الأخرى الضخمة فى قطاع البترول متجهة الآن بالضرورة للشمال حيث الامتيازات الحديثة (مربعات 8 و 9 و 15 ولاحقاً 10 و 12) رغم أن بعضها لا يمانع فى استثمارات جديدة فى الجنوب (الاستثمار الجديد مربع 5 تملكه شركات فرنسية وأمريكية وكويتية وتنازع فيه الحركة) ولبتروناس نسبة مقدرة فى مربعات 5أ ، 5ب.. فى الجنوب وذلك فى مربعى 3 و 7 وللصينيين أيضاً حصص مقدرة فى بعض المربعات. أما معظم خدمات البترول Downstream Operations فسوف تتجه بالضرورة للشمال حيث المربعات الجديدة.
ان القوة التصويتية التى ستحسم أى انتخابات قادمة (حوالى 25 مليون نسمه على الأقل) هى فى الشمال الجغرافى ابتداءً من ولايات الشمالية حتى سنار/الجزيرة/ النيل الابيض وهى الأكثر تدرباً على الانتخابات والأكثر استجابة للمؤثرات الخارجية.. والأكثر وعياً بحكم التعليم الطاغى فى مناطقهم.. وهى بموجب هذا التعليم والوعى الأكثر طلباً للخدمات والإنتاج وفرص العمل ولهذا فإن التركيز لابد أن يكون هنا بالضرورة ومن حسن الحظ أن هذه المناطق قريبة وسهلة للوصول لأنها جميعاً مربوطة بشوارع أسفلت أو وسائل اتصال جوى. ولهذا فإن إدارة حملات انتخابية سيكون أسهل وأسرع وأوفر.
الافتراض الثالث : إن الجسم الجيوسياسى فى المنطقة الشمالية المشار إليه أعلاه وسأطلق عليه اختصاراً "محور دنقلا - سنار + كردفان" أكثر تجانساً.. وهو يحمل فكرة السودان العربى / الاسلامى بصورة عملية من الممالك الاسلامية القديمة قبل مئات السنين.. ولهذا يسهل تشكيل تحالف سياسى عربى / اسلامى يستوعبه. وهو ''أيضا'' الجزء الذى حمل السودان منذ العهد التركى/الاستعمارى/الاستقلال.. وظل يصرف عليه.. حتى فى غير وجود البترول ولهذا فإنه حتى إذا انفصل عنه الآخرون "إن لم يكن سياسياً فاقتصادياً عن طريق سحب موارد كبيرة منه" لديه إمكانية الاستمرار كدولة فاعلة يصدق هذا بصورة مختلفة قليلاً حتى إذا ابتعدت دارفور.. رغم إمكانية خلق علاقات اقتصادية أكثر مع دارفور حتى لو انفصلت أو ابتعدت سياسياً.
الافتراض الرابع : وهو ليس افتراضاً بل أنه واقع حصل فى الجنوب وسوف يحصل فى دارفور وبدرجة أقل فى الشرق وهو:
انحسار موارد اقتصادية هائلة من المركز الشمالى "محور دنقلا - سنار - كردفان" قد تصل بحسابات اليوم الثابتة الى 65% من موارد الميزانية العامة للدولة.. والى 25% من الناتج القومى الاجمالى للسودان.
ويترتب على هذا ضرورة تطوير موارد السودان الشمالى التقليدية بصورة دراماتيكية وسريعة جداً لمقابلة تطلعات أهله اذا أردنا أن نكسب اهل هذا المحور لمشروعنا "السياسى".
الافتراض الخامس: ان أية سياسة واسعة وكبيرة مطلوب تنفيذها بفعالية تحتاج الى ان توكل إلى طاقم من المؤمنين بها للنفاذ بها الى الواقع. والاقتناع بإصدار توصيات سياسية (فى الاطار التنظيمى) ثم التمنى بأن تجد هذه التوصيات طريقها إلى الجانب التنفيذي هو من باب الأمنيات الساذجة فإن أردنا الصدق فى العمل علينا أن نحدث التغييرات الهيكلية.. والانسانية.. والقانونية.. والمالية المطلوبة له.. ولا نعتبر أن ما حدث من تكوين للحكومة الانتقالية الحالية هو آخر المطاف.
الافترض السادس: ان الوحدة قد لا تتم ولهذا يجب أن نعمل للبديل بجد ومنذ الآن وألا نستسلم لافتراض أن الوحدة "ستصبح" جاذبة بقدرة قادر! إن القوى الاجنبية ذات التأثير الفاعل قد تلجأ لتأجيج نار الانفصال إذا فشلت فى تحويل الوحدة إلى ميكانزم لتفكيك السودان وحكمه على شروط الأقلية غير العربية والاسلامية كما فعلت كل دول الحزام العازل للاسلام جنوب الصحراء (من اثيوبيا إلى السنغال مروراً بنجيريا!).
انتهي حديث حمدى.
الاستغناء عن الآخرين
وما هو مثير في الاطروحة التي قدمها عبدالرحيم حمدي لمؤتمر حزبه الحاكم، أنها اختزلت السودان في مساحة جغرافية محددة لها قابلية الاستغناء عن بقية أجزاء القطر، وتفترض في نفسها مركزية شبه مطلقة قادرة على إدارة أمرها كدولة مستقلة مكتفية بمواردها ومتخففة عن أثقال الآخرين وحددها حمدي دون مواربة بمحور "دنقلا سنار كردفان".. وأشار بوضوح لإمكانية التنازل عن دارفور والجنوب وحتى الشرق وتكوين دولة في غيابهم تقع في مثلث "دنقلا، وسنار، وكردفان"، وبهذه الاطروحة يكون الاستاذ حمدي قد جاء بمتغيرين:
الأول: أنه اختار الجلوس على يمين كيان السلام العادل الذي في قيادته الباشمهندس الطيب مصطفى، فهذا الكيان يقسم السودان لشمال وجنوب، ويريد فصل الشمال بامتداداته المعروفة عن الجنوب بحدوده المعلومة.. ولكن حمدي يخترق هذا التقسيم بمعالجة مركبة تتجاوز التقسيمات المعترف بها، لتقسيمات جديدة.. فإذا كانت جماعة السلام العادل تعتبر "الدين" المشترك عاملاً أساسياً لتوحيد الشمال في مواجهة الجنوب والعروبة عامل مساعد، فإن حمدي جعل من الدين والعروبة على حد سواء عاملين أساسيين في توحيد المثلث الجديد، دون أن يضع اعتباراً للمجموعات العربية والمسلمة خارج هذا المثلث في دارفور مثلاً والمجموعات المسلمة في الجنوب والنيل الأزرق.. كما ان حمدى لا يضع اعتباراً تقديرياً لعضوية المؤتمر الوطنى من خارج المثلث ( دنقلا ، سنار ، كردفان) والتى تستمع اليه وهو يتحدث عن اقصائها من كيان لا يزال يحمل لافتة الوعاء الجامع.!!!
المتغير الثاني: إن توصيف حمدي للشمال جاء متوافقاً لحد كبير مع التحديد الذي ورد في منفستو الحركة الشعبية، فقد جاء في الفصل الثامن للمنفستو البند السادس ما يلي: "من المهم في هذه المرحلة أن نتوقف ونعرف المعنى بكلمة الشمال "...." في كل هذا المنفستو والشمال هو المناطق التي تضم مديرية الخرطوم ومديرية النيل الأزرق القديمة، ولا يضم أياً من المناطق الأخرى في شمال السودان دارفور وكردفان وكسلا والشمالية القديمة".. وقد سعت الحركة الشعبية لإقرار هذا التقسيم وفرضه كحقيقة جيوسياسية عبر فكرة تحالف قوى السودان الجديد ضد المثلث الكوكنيالي "الخرطوم - كوستي - سنار".. ومثلث الاستاذ عبدالرحيم حمدي يضم "دنقلا - سنار - كردفان"..!
إفادة من القبر
وقد أورد المرحوم محمد أبوالقاسم حاج حمد في كتابه: "السودان.. المأزق التاريخي وآفاق المستقبل" عبر تحليله لنصوص المنفستو أن الحركة تسعى لإنشاء حزام أو طوق دائري حول مركز الوسط السوداني اعتماداً على تجميع كل الأطراف ووفق منهج النضال المسلح..!
ويبدو أن الحركة الشعبية لم تصادف كثيراً من التوفيق في مسعاها ذلك منذ فشل تجربة لواء السودان الجديد وطرحها لخيار الكونفدرالية، وأصبحت أطروحة السودان الجديد وفق "التحالف الطوقي"، أطروحة عامة لا يصحبها عمل.. ووضح ذلك بصورة سافرة والحركة تجلس على طاولة الإيقاد كحركة جنوبية تسعى لتحقيق مكاسب تفصيلية مباشرة للجنوب، وترجيء حلفاءها التكتيكيين "التجمع الديمقراطي" والاستراتيجيين "قوى السودان الجديد" الى مفاوضات أخرى وعلى موائد أخرى.. وعندما عاد الراحل جون قرنق الى الخرطوم ووجد ذلك الاستقبال الكبير، عادت اليه أشواق السودان الجديد.. ورأي أن ما كان يريد تحقيقه عبر العمل العسكري "التطويقي" متاح له الآن أن يدركه بالعمل السياسي، خاصة وأن حركته قد اخترقت حتى المثلث الذي وضع في المنفستو كهدف عسكري وسياسي "الخرطوم - سنار - كوستي"!!
التوقيت الخطأ
تأتي أزمة ورقة عبدالرحيم حمدي.. إضافة للقصور الذي لازم كثيراً من جوانبها، في أنها اختارت "التوقيت غير السليم" ففي الوقت الذي بدأت فيه فكرة السودان الجديد بغياب جون قرنق بكل ما به من كارزما دافعة للفكرة بدأت في الذبول والتراجع وفقدت كثيراً من مقوماتها المعنوية رغم المجهودات التي يقوم بها عبدالعزيز آدم الحلو مسؤول القطاع الشمالي من عقد اندماجات لقوى توصف بأنها من مكونات السودان الجديد في الحركة الشعبية.. إلا أن الأطروحة ظلت تعاني من وضع سريري يقترب بها من القبر، ولكن ورقة عبدالرحيم حمدي ستسهم في مدها بروح العافية، وستساعد الحركة الشعبية في أن توصف الملعب السياسي وفق ما يتناسب مع مصالحها الانتخابية وغير الانتخابية كذلك.. بأن تجعل من سكان مثلث حمدي هدفاً تجتمع على كراهيته كل الأطراف حتى العناصر العربية والمسلمة خارج المثلث..!
الصحيح في ورقة الاستاذ عبدالرحيم حمدي - مع التعديل - أن الشمال كما هو وارد بالاتفاقية يجب أن يرتب أوضاعه الاقتصادية بصورة لا تجعل انفصال الجنوب أمراً مفاجئاً ومربكاً، على الا يتعارض ذلك مع السعي في جعل الوحدة جاذبة للجنوبيين، فليس من الفطانة السياسية أن تهدي خصومك مزيداً من الحلفاء، وترى في ذلك إنجازاً لك، تستحق عليه صفقة ساخنة وقبلة على الخد الأيمن..!
فتوصيف الوسط باعتباره مختصراً على الثقافة العربية الاسلامية ومعبراً عنها فقط.. ينتج من الأزمات أكثر مما يقدم من حلول.
فالوسط كما يرى أبوالقاسم حاج حمد "الوسط السوداني ما بين النيلين هو بحكم موقعه الجغرافي مركز التفاعل للأطراف المتحورة حوله.. فالوسط ليس وسطاً لذاته، ولكنه الوسط الذي حكمت عليه مميزاته الجغرافية أن يكون حاكماً لتفاعل الأطراف" لا كما يرى الاستاذ عبدالرحيم حمدي مقابلاً ومتميزاً عليها، فهو نقطة التفاعل لا مختصر الوجود..!!