بقلم/ ذيو بول شبيت.
يجد الإنسان نفسه أحياناً أمام مواقف حرجة و محرجة يتخيِّل معها المرءُ إنه من الصعوبة بمكان الخروج منها! ولأ أعرف (حقيقةً) من هو صاحب نظرية (الكاريزما) التي ملأت بها صحف الجبهة الإسلامية الشمالية الدنيا ضجيجاً واصفين الشهيد الدكتور بها (بعد أن سمعوها من مراسل البي بي سي في الخرطوم جوني فيشر)، و لكن المهم من كل ذلك إني أعرف إنها تعني الفطرة و سرعة البديهة في شخصية شخص ما – أو قل إنني أتعامل مع هذه الكلمة بهذا المعنى. وبهذه المناسبة، أذكر إنني كنت في (مأمورية) و معي أخي و رفيقي الأستاذ دوت ماكوي كُوك (و هو أُستاذ و متخصص في اللغة العربية و الإنجليزية)، و لمن يعرفون دوت، فهو من جيل الشباب الذين يشار إليهم بالبنان في البلاغة و الفصاحة و البيان (كما يقول الأعراب) في اللغتين الإنجليزية و العربية و من جيل الشباب الواعد في الحركة الشعبية و الجيش الشعبي لتحرير السودان. أخذتنا (المأمورية) إلى جزءٍ نائي من السودان الجديد. جمعت المهمة بيننا و بين شباباً آخرين من التحالف الوطني الديمقراطي. و (كالعادة) برز الأستاذ دوت ماكوي (بفصاحته) المعهودة شارحاً و راسماً مستقبل السودان الجديد بعد القضاء على (كازوق) الجبهة الإسلامية! وفي فترة الغداء و الإستراحة، و بينما أنا و الأخ دوت (نشرب الشاي)، تقدم منه أحد الرفاق من إحدى التنظيمات (المعارضة لإنقلاب الجبهة الإسلامية) و بدأ معه حديثاً حول أيام الدراسة في السودان القديم و عبّر عن (عمق) تقديره (للتفوق) الكبير الذي أظهره دوت في فهم أهداف الحركة الشعبية و رؤيتها في مشروع السودان الجديد كبديل للسودان القديم! و فجأةً (إستأذّن) رفيقنا هذا الأستاذ دوت في إنه يريد أن يسأل دوت سؤال شخصي! (أنا إفتكرت الراجل عاوز مساعدة في حاجة و لا كدة!)، لكنه سأل دوت في لماذا لم يعتنق الإسلام؟ فرد عليه دوت بأن كيف عرف إنه غير مسلم؟ فرد (أخينا) بأن ذلك ظاهر من إسم دوت (الرطاني)، فقال دوت له، ذلك هو السبب في عدم إعتناقي للإسلام! فطلب (رفيقنا) إيضاحاً من الأستاذ دوت، فقال له دوت؛ أنا لم و (لن) أعتنق الإسلام حتى لأ يتغير أسمي من دوت إلى عبدو أو بلال أو ما شابه ذلك! فأصر رفيقنا في المناقشة و قال (طيب ما إنتو برضو بقيتو مسيحيين وشيلتو أسماء زي جون و جيمس و أبرام)، فأجابه دوت قائلاً، أنا لم آخذ أي إسم غير إسمي الذي سماني به (أبويا)، و لكن إن كنت تقصد باقي الجنوبيين كدكتور. جون قرنق – مثلاً، فإنهم قد أخذوا تلك الأسماء لإن الشماليين أخذوا لأنفسهم أسماءً كمحمد و صادق و عمر البشير أو الحسن الترابي!!! و أصر صاحبنا في مواصلة الحوار في ذات الإتجاه فقال لدوت، هل تعني إن كان أسماء هولاء الشماليين (مثلاً) سانتينو أو ألبينو أو صموئيل كان الجنوبيين سيرضوا بالإسلام؟ قال له دوت؛ إذا إتخذ الشماليين هذه الأسماء و إعتنقوا المسيحية، فأنا أؤكد لك إن الجنوبيين سيأخذوا أسماءً مثل دينق، و كوكو و أياري (بلغة الأنقسنا)، و يعتنقوا الديانة الإسلامية!!! لكنني بنفس القدر أؤكد لك أن الجنوبيين لن يتخذوا لأنفسهم أسماءً كالميرغني أو العتباني أو الأمين حتى ولو طبقوا الشريعة الإسلامية! و أذكر في ما تبقى من هذا الحوار أن رفيقنا (هذا) طرح الكثير من الأسئلة و أبدى أكثر من ملاحظة أهمها قوله إنه لاحظ إن الجنوبيين و(خاصة الموجودين في المناطق المحررة) أخذوا في التخلي حتى من أسماءهم المألوفة (لدي الشماليين) من الأسماء المسيحية، وفي هذا قال له دوت إن الجنوبيين لم يتخلوا عن المسيحية بل إن إيمانهم بالمسيحية ذادت بنسبة (كبيرة جداً) و أما ملاحظتك في إنهم تخلوا عن الأسماء (المألوفة لدي الشماليين)، فذلك لأن الدين المسيحي لأ يمنع أن (يسميك أبوك) أو أن تختار إسماً لنفسك بنفسك.
كثيرٌ هي ما نتذكرها من الدوامة التي أدخلت الإخوة الشماليين الدين الإسلامي فيها. فبعد أن كان الإسلام دينٌ يفخر بها أهل السودان كفخرهم بالدين المسيحي، أصبح الإسلام في السودان مُرادفاً للمستعمر الجلابي و محاولاتهم (الفاشلة) في إستعراب من ليس لهم أي علاقة بالعرب و ثقافتهم (المختلة). ذلك في أن جلابة السودان (المستعربة) إشترطت في الإسلام العروبة!!! وكان بديهياً أن يقابل الجنوبيين الخطة اللعينة و الداعية بإخضاعهم قسراً للهوية العربية الدخيلة بالرفض و المعارضة المسلحة، و بالتالي أختار (الثوار) من أبناء الجنوب كل ما هو مضاد للجلابة الشماليين. و أصبح الجنوبيين مسيحيين لأن الجلابة مسلمين، و عندما إحتل الأعراب الجزءُ الشمالي من السودان إتجه الدينكا و النوبة و الأنقسنا للجنوب، و لأن الجلابة قرروا الإنتماء للعروبة (التي هم ليس منها)، ظل أهل الجنوب أفارقة بالأصل و الأصالة، وحتى لو قرر الجلابة أن يتخلوا عن إسلامهم و إعتنقوا المسيحية، فيستخلى الجنوبيين عن المسيحية و يعتنقوا الإسلام – لأن الجلابة سيأتوا للمسيحية بعروبتهم (المشكوك فيها)!!!
و بالرغم من إصرار الجلابة في خطتها (المكشوفة) في إستعراب شعوب السودان بتغيير أسماءهم ليتناسب و حروف اللغة العربية، فإن شعب جنوب السودان قد فطن لذلك منذ وقت بعيد و رفضت هذه اللعبة (البليدة) و لكن الجلابة (ببلادتها) لم تُوفق في إختراع لعبة جديدة!!! و على الرغم من أن خطة الجلابة قد حققت بعض النجاح في تحريف تأريخ السودان و تغيير أسماء أبطال مقاومة الإستعمار البريطاني من أمثال توكماج ميير (المعروف لدي الجلابة بعلي عبداللطيف) و عبدالفضيل الماظ و غيرهم من أبناء الجنوب المناضلين، و تهميش الدور البطولي الذي لعبه أبناء الغرب و الجنوب و الشرق في مقاومة الإستعمار و هذيمته، إلا أن هذه السياسة (التهميشية) لم تنجح في تحقيق ما كان تتوقعها الجلابة من إستعراب كل السودان بنهاية القرن العشرين، بل العكس، فقد فطن حتى الذين إعتبرهم الجلابة (خلاص كلام منتهي) كالفور و أبناء البجة و الهدندوة!!! و فاجاءوا الجلابة بالمقاومة المسلحة و أجبروا الجلابة بمراجعة خريطة (الإستعراب) لتشمل الشمالية و سنار و جزء من كردفان (المسيرية و البقارة و بقية عرب الخلاء) و الشكر (للعبد الرحيم أبو حمدي) مستشار تنظيم الأخوان المسلمين للشئون الإقتصادية و المالية الذي تشجع لأول مرة و أعلن الخطة (على الهواء مباشرةً) بعد خيبة أملهم و فشل خطتهم في إستعراب الغرب و الشرق.
لم تتوقف خطة الأعراب في تحريف التأريخ و تغيير أسماء أبطال المقاومة الوطنية، بل ذهبوا بالخطة اللعينة لتشمل كل أوجه الحياة في البلد، فكم سمعنا بأسماء رياضية سودانية خارج السودان بعد أن أُجبروا على الهجرة بعد أن ُطرِدوا من الفريق القومي السودان لكرة القدم لأن( إسم الواحد فيهم كوكو و يور و شارلس)، فخيّرهم إتحاد الكرة العام بأن يختاروا بين أسماء عرب أو الكنبة!!! و بهذا يهزم ساحل العاج السودان في أمدرمان و هو ما لم يحدث في التأريخ بعد أن كان السودان إحدى مؤسسي الإتحاد الإفريقي للكرة!!! و بالرغم من إنني مشجع (الكوديفوار) يوم المباراة إلا إنني آسف لحال (جيراننا في الشمال) من مثل هذه المهازل!!!
أن العروبة المزعومة من قبل أهل الشمال لن يأتيهم بشئ بل بالمزيد من العزلة و كراهية أهل السودان حتى لأناس مساكين مثل عرب الخلاء البقارة و المسيرية المتوهمين بالعروبة!!! فهولاء سودانيين مساكين لأ يعرفون غير أن يرعوا (بهائمهم) و يأكلون (ملاح الروب و القراصة) وهم جيران للدينكا في المجلد!!! و بالرغم من أن بعض عرب الخلاء ساهموا في حملة المسلمين ضد أبناء الدينكا في شمال بحر الغزال مثل النقوك و التويج و ملوال جيرنيانق، إلا أن معظمهم وقفوا بجانبنا أثناء الحرب و مدونا بالدواء و الوقود و معلومات تحركات و خطط المراحلين و المجاهدين من جيش السودان القديم، و بالتالي ساهموا حتى بالرجال في النصر على الجلابة. و هذا ما يدعونا في عدم التفكير (الآن على الأقل) في أخذ ثأر أبناء النقوك و شمال بحرالغزال الذين قتلهم عرب الخلاء المراحيل عندما كنا نقاتل العدو في الكرمك و ييي و كاودا. و أدعو هنا كل الجنوبيين من أبناء السودان الجديد بالعفو عن المسيرية أولاد النمر والثعلب بعد أن تخلوا عن أرضنا و عرضنا في مقاطعة أبيي و ذهبوا للمجلد حيث ولدوا. لأ نريد منهم أي ديات و إعتزار طالما هم سيحترموا الحدود الذي رسمه الخبراء الدوليين و الذي بموجبه تنازلنا عن بعض أراضينا في المجلد. فليزهب الكل إلى حاله (و أهله)؛ هم مستعربين و نحن سودانيين أفارقة و كفى.
أما الجلابة الشماليين؛ فخيراً فعلوا (بحشر أنفسهم) في الإنتماء للقومية العربية، لأنني لأ أعرف ماذا سأخذ ليكون هويتي إذا قرروا بأن يكونوا سودانيين أفارقة مثلي و رفيقي دوت ماكوي!!!
عاشت السودان الجديد دولةً إفريقية و مفخرة للأفارقة، وعاشت الحركة الشعبية لتحرير السودان راعية و حافظة للسودان و هويتها السودانية الإفريقية، و الفناء للسودان القديم و المستعربين من أبنائها و بناتها.