والحالة السودانية لا تختلف كثيرا في مكوناتها عن حالة العراق والصومال ، وذلك لأن بلادنا ايضا خضعت لحكم الحزب الواحد المؤدلج والذي يجمع جسدي الدولة والحزب في ثوب واحد ، وهذه الصورة لم تتغير حتي بعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية ، فالحركة الشعبية وجدت نفسها محشورة في هذا اللباس الضيق ، وحتي كتابة هذه السطور لم تتبلور فكرة انشاء مؤسسات المجتمع المدني لتواكب مرحلة السلام ، فالدولة تتدخل في تشكيل الاحزاب وتستعدي الاطراف السياسية علي بعضها البعض وتشجع الانقسامات داخل الاحزاب مستخدمة الاغراءات مثل السلطة والمناصب ، وأنحسر العمل النقابي وقل تفاعله مع قضايا المجتمع ، بل أن النقابات احيانا تسخدم لغة في تعاملها مع قضايا المجتمع أكثر رعونه وخشونة من الحزب الحاكم نفسه ، وفي احيان كثيرة تجدها تناصر المستضعفين في تونس والجزائر والمغرب من ضحايا الضيم السياسي ووتتجاهل قضايا الحريات الملحة في السودان ، وقبل أيام خرج لفيف من صحفي الانقاذ وهم يناصرون تيسير علوني ولكن لم تتوجه اقلامهم بانتقاد السلطة عندما أعتقلت الزميل فيصل محمد صالح ،وفي أزمة دارفور الاخيرة لن تجد اثرا لنقابة المحامين أو المهندسين أو الاطباء ، ولم يكن سبب غياب هذه النقابات عن ساحة الازمة مردودا الي ضيق الامكانات والموارد المالية ، فخزائنها كما هو معلوم تغص بالمال الوفير المنهمر من خزائن النظام ولكن السبب يعود مباشرة الي مؤازرتها لسياسة النظام في السراء والضراء ، والنقابات في عهد الانقاذ تحولت الي أبواق للدعاية الحزبية السيئة وخضعت بالكامل للايدلوجية السياسية الحاكمة ، وقد علا شأن الذين يقفون علي قمة هرمها فأصبحوا ينظرون بعين التعالي والاحتقار لكل قضية يعتبرونها تسئ لرب نعمتهم ، وتحولوا من مناصرين لقضايا المجتمع الي وزراء دعاية واعلام يقتلهم التكالب الجشع علي موائد الدولة .
وبعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية شكر وزير العدل الجديد الاستاذ/المرضي الرئيس البشير علي منحه هذا المنصب الحساس ، وفي بادرة طيبة تدل علي مدي التطبيع بين وزراء الانقاذ الجدد والقدامي في دعمهم لمكونات الدولة الاحادية صرح السيد/المرضي لوسائل الاعلام بأن وزارته لا تستطيع الامساك بمجرمي الحرب في دارفور لأن بعضهم موجود في صفوف الحركات المسلحة ، وهذا التصريح وان نفاه السيد /المرضي بعد ايام يؤكد ما ذهبنا اليه في السابق وهو أن حكومة الوحدة الوطنية ليست الا ذهاب حاج حمد وعودة حمد ، فوزير العدل السابق علي محمد عثمان ياسين كان يتعلل بنفس الاسباب والحجج الواهية في الرد علي المطالبين بتقديم مجرمي الحرب للعدالة ، والمفاجأت لم تنتهي بعد ، فقبل ايام اعلن رئيس القضاء تشكيل محاكم الاستئناف للنظر في الاحكام التي اصدرها القاضي محمد الابكم في حق بعض الموقوفين ، فتملكنا العجب والاستغراب من همة القضاء السوداني وهو يحاول انقاذ المتهمين بسرعة ولا يكترث لصرخات الضحايا الكثر في دارفور والذين لم تجف دمائهم بعد ، وهذه الخطوة من القضاء السوداني تعتبر هامة ومنصفة في نفس الوقت لأن كل الذين صدرت بحقهم الاحكام لا يعتبرون من مجرمي الحرب ، وكان من الممكن عرضهم علي المحاكم العادية وليس المحاكم الخاصة والتي تكون خصيصا لمعالجة قضايا تشذ عن الروتين العادي لعمل الاجهزة العدلية ، والمحكمة التي تراسها مولانا الابكم لم تكون من أجل النظر في قضايا السرقة والنهب والاختلاس العادية ولكن الغرض منها محاربة مبدأ الحصانة ، وكنا نتوقع أن يمثل بعض المسؤولين الرسميين لاجراءات هذه المحكمة ، حتي ولو من باب المجاملة ، فالمتهمين في جرائم الحرب في دارفور ليس هم المجموعات المسلحة فقط ، فان كان هناك من أستخدم السكين في النهب والاغتصاب فيوجد غيره من أستخدم الطائرة الحربية والدبابة والمدفع في حرق الزروع والثمار ، وليس كل المجرمين مندسين بين حركتي العدل والمساواة وتحرير السودان فبعضهم الان أحتل مناصب سيادية في الحكومة الجديدة .
ويعتبر الاستاذ/علي عثمان محمد طه هو المؤسس الحقيقي للدولة الانقاذية الثانية بعد فك الشراكة مع الدكتور حسن عبد الله الترابي ، وقد استطاع علي عثمان أيضا مستفيدا من خبراته التنظيمية من تحويل الدولة السودانية من مطرحها القومي الواسع لتكون مؤسسة حزبية تتلاعب في ثرواتنا القومية الهائلة كما تشاء من غير أن تشعر بأنها محاسبة من قبل مؤسسات المجتمع المدني ، وبالفعل رضخ رجل الانقاذ القوي لرغبات المجتمع الدولي ووقع اتفاق سلام ناقص مع الحركة الشعبية ولكنه بنفس المستوي رجع بالسودان خطوتين الي الوراء عندما أعلن الحرب في دارفور ، ولا يري علي عثمان في النزاع الدائر في دارفور سوي تدخل تقوم به الصهيونية العالمية والتي أزعجها أن تنهض حضارة اسلامية في السودان ، وهو بهذه الرؤية يخفي الظلال السياسية لهذه الازمة والتي تتمثل في غياب ألية تقسيم الثروة والسلطة والتنمية أسوة بما جري منحه للحركة الشعبية في الجنوب .
ولقد تابعت يوم أمس برنامج الواجهة الذي يعده أحمد البلال الطيب حيث تمت استضافة النائب الثاني لرئيس الجمهورية ليمكث في كرسيه منفردا ليجتر ذكريات نيفاشا ، ولا أدري ما هي قصة أهل الانقاذ مع ذكرياتهم الماضية فصفحات مطبوعاتهم في بداية التسعينات كانت زاخرة بقصص النضال القديمة ، بداية من ذكريات بروفيسور حسن مكي ونهاية بمجاهدات محي الدين تيتاوي ومحمد سعيد معروف وغيرهم من الرموز التي اعتقدت ان يوميات مذكراتهم يمكن أن تصبح حكما علي تاريخ السودان ، فماضي الانقاذ كان بائسا وحاضرها مؤلما ومستقبلها في حكم السودان مظلما ولا يوجد بصيص من الامل بأن شئون حياتنا سوف تسير نحو الافضل ، وبدأ البرنامج بتبادل كلمات الغزل والمديح بين العاشقين أحمد البلال والنائب الثاني ، فبادر أحمد البلال بوصف النائب الثاني بالنزيه الذي لم تتسخ يداه بالفساد فرد عليه النائب الثاني بتثمين البرنامج والاشادة بدوره التوثيقي ، وأستمر بعدها الاستاذ/علي عثمان في سرد تجربته مع نيفاشا يصاحبه انصات مصطنع أظهره أحمد البلال وكأنه يشاهد أحد أفلام الفريد هتشكوك المرعبة ، وتحدث النائب الثاني عن غد مشرق وواعد ينتظر أهل السودان ولم يتطرق اطلاقا الي قضايا الحريات الحزبية والصحفية واشاعة الشفافية في أجهزة الدولية ، وأظن أن النائب الثاني كان يقصد بالمستقبل الواعد فقط الذين استقلوا سفينة حزب المؤتمر الوطني ، وصفة الطهر ونظافة اليد التي أطلقها عليه أحمد البلال الطيب لا تخرج عن باب التملق والتزلف للرسميين الحكوميين ، وهي صفة صاحبت الاستاذ/أحمد البلال الطيب في حله وترحاله مع تقلبات موجة الحال في نظام الانقاذ ، ولا اعتقد ان أستاذنا أحمد البلال يملك صفة رقابية علي مؤسسات الدولة أو أن الله وهبه صفة ( دابة الارض ) التي تطلع علي الناس في آخر الزمان لتدمغ في جباههم هذا مؤمن وهذا كافر ليقرأ لنا حرارة الفساد في جسم رموز الانقاذ والتي تستخدم أجهزتها الامنية في التصدي لكل من يتكلم عن الفساد في أجهزة الدولة ، والمجتمع السوداني الان أصبح بكامله يشكوا الفقر المدقع والرذيلة والمحسوبية والرشوة وغيرها من امراض المجتمع .. ولم تأتي هذه الامراض من فراغ بل هي نتاج طبيعي وافراز متوقع لسنوات الاحتقان التي حكم فيها الاستاذ/علي عثمان السودان مستخدما السيف والنار.
سارة عيسي