محمد خير عوض الله
[email protected]
منذ وقتٍ بعيد ، والمثقفون السودانيون يطرحون فكرة حزب الوسط ، أو البحث عن المنطقة الوسط ، أو التحدُّث عن عدم استيعاب الأحزاب القائمة لأكثر من رُبع الشعب السوداني .. وغيرها من الطروحات التي تخرج عن سياق ألحان القيثارة السائدة بالتمجيد والتسبيح بحمد هذا الزعيم أو ذاك ، ثمّ انداحت الفكرة ، ليتغنّى بها مثقفون حزبيُّون ( حسين خوجلي قبل سنوات مثلاً ) إلى أن كتب الأستاذ سليمان الأمين في هذه الصحيفة الأحد قبل الماضي ( 17/4/2005م) يسرد قصّته مع تجربة ( المستقلِّين ) وكيف عملوا على إنشاء هذا التيّار منذ أن كانوا طلاباً بجامعة الخرطوم إلى يومنا هذا .. وفي تقديري ، فإنّ هذه الدعوة جديرة بالتناول والتداول اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى كون البلاد تخضع لأقسى عمليّة اختبار منذ أن نالت استقلالِها ،و كون أحزاب مُعيّنة قد زادت على عمرها الافتراضي الذي صمِّمت له بسنوات طويلة ( صمّمت لتصنع الاستقلال وتدير الحراك القائم يومذاك ، صلاحيّتها في تقديري من عام إلى خمسة أعوام ) وأحزاب أُخرى قد تخلّت عن أيدلوجيتها ( لا تكاد تجد أثراً لحسن البنا في حوش الحركة الإسلاميّة ولا تكاد تجد أثراً لماركس أو لينين في حوش الحزب الشيوعي ) وأظنُّ أنّ الحاجة الماسة لإبراز الاتجاه المستقل لم تكن لو أنّ المزايدة اليوم لم تكن واحدة من أدوات التعاطي في إدارة الشأن العام ، هذا فضلاً عن أنّ الملايين التي لا تحتويها هذه الأحزاب البالية ، تتطلّع لقيادات جديدة وأفكار جديدة وطرق جديدة في إدارة الشأن العام ( خالية من الكلسترول الذي هو المزايدة ) ولا يتم كل ذلك إلا بإفراز نمط تفكير جديد تتواضع عليه الساحة بقلبٍ مفتوح .. وبما أنّ الدعوة بشكلها هذا هي أقرب إلى حُلمٍ يهبطُ فيه نفرٌ من كوكب المريخ ليديروا شأننا ، فإنني أدعو إلى تبسيط هذه الفكرة ، بأن ندخل في شروع عملي تستفتحه قيادات جريئة لم تعرف بتمجيد الزعيم ولا التسبيح بحمد التنظيم ، وليسمح لي القارئ (لفائدة النقاش) أن أذكر نماذج قد ينطبق عليها ما أقول ، مثل الدكتور محمد محجوب هارون والدكتور فاروق أحمد آدم والأستاذ عادل ألباز والأستاذ الحاج وراق والبروفيسور الطيب زين العابدين والدكتور مضوي الترابي والدكتور الزهاوي إبراهيم ، والدكتور عثمان عمر الشريف ، والبروفيسور فاروق كدودة ، ذلك فضلاً عن مستقلين حقيقيّين منهُم بروفيسور علي شمو ودكتور بونا ملوال ومولانا دفع الله الرضي ، وعمر عبد العاطي وآخرين .. في تقديري أن تعكف مجموعةٍ ما ، على كتابة قائمة كهذه ، تلتقي على هذه الفكرة ، وبعد أن تتبلور الأفكار والأهداف بصورة واضحة ، سقفها ومحتواها يدور حول الهويّة السودانيّة ( المواطنة ) والرفاهيّة لشعب السودان ( التنمية ) ، بعد أن تكون هذه هي ( أيدلوجيّة ) التيار الجديد ، بلا أي أجندة أو أهداف أخرى ، بعد ذلك يتم التداعي على هذا التيار ، فيدخله الجميع بعد أن يخلعوا قمصانِهِم القديمة دون أن يزرفوا عليها دمعة واحدة ، عند ذلك لا يهم إن كان زعيم التيار السوداني الجديد هذا هو محمد إبراهيم نقد أو مصطفى إسماعيل أو جلال الدقير. البلاد بحق تحتاج للتخلّص من الأنماط القديمة ، وكم أجهدُ نفسي في البحث عن فروقات فكريّة بين الأحزاب اليمينيّة( الآن ) فلا أجد ، و القارئ مشتركٌ في هذا النقاش ، فما هو الذي يجعلني أن أكون حزب أمّة ولا أكون اتحاديا ؟ أو العكس ؟ سؤال حقيقي يبحث عن إجابة ، ما هو الفرق الآن بين مضوي الترابي وسيّد الخطيب وحاتم السّر والشفيع خضر ؟ الفرق فقط في التعاطي مع الشأن العام وفق منطلقات تمّ تحديدها سابقاً ، لكن إذا أبطلنا مفعول ( سابقاً ) فإننا لا نجد أي اختلافات بين الكادر السياسي الذي يشغل الساحة اليوم .. ما هو الفرق بين علي السيّد وكمال الجزولي وعلي حسنين والمحبوب عبد السلام وتيسير مدثر وعلي الحاج محمد وأحمد دريج وأحمد عبد الرحمن ؟ إننا ـ في تقديري ـ إذا أنزلنا (الحمولة التاريخيّة) من كاهل الكادر السياسي اليوم ، فلن نجد فروقاً فكريّة بين الأحزاب السودانيّة ، نحتاج فقط إلى جهدٍ بسيط جداً لبناء تيارين ـ مثلاً ـ يستوعبان الراهن والمستقبل بعيداً عن آثار الخمسين عاماً الماضية ! الديموقراطيّة في السودان مشكلتها أنّها فصّلت مقاساً أكبر منها فظلّت تتعثّر فيه منذ صباحِها الأول إلى يومنا هذا ، الآن نحتاج إلى إعادة التفصيل من جديد ، مستصحبين التطور الفكري وتطور الأداء السياسي في تعاطي الشأن العام الذي أصبح على المحك التنموي الخدمي أكثر من ترفه الفكري التنظيري الذي لا يزال يستهوي قادة حقبة الستينيات الذين لا يزالون يمسكون بدفاتر العمل على طريقتِهِم القديمة البالية .. إنني أدعو لاتحاد حقيقي واندماج كامل بين الحركة الإسلاميّة والحزب الشيوعي والقوميّة العربية وحزب البعث ، كل هؤلاء ينزلوا عن كواهِلِهِم الحمولات التاريخيّة القديمة و يندمجوا ليولّدوا هذا التيار الحديث الذي لا يشغله تدين الشعب السوداني المتدين أصلاً ، ولا علمنته ، إنما تشغله فقط التنمية واللحاق بركب الأمم ، وقتها سيضيق ماعونه بتزاحم المنتسبين إليه. مشكلة هذا التصوّر فيما يبدو لي تتلخص في الإجابة على الأسئلة الآتية :ـ
1. هل ستتخلّى الأحزاب عن التمسك بمنطلقاتِها الواهنة التي دشنتها قبل نصف قرن؟
2. هل للزعامات رغبات صادقة في التخلِّي عن شهوة الزعامة ؟
3. هل تمثّل مصالح البلاد أولويّة قصوى تسبق مصالح التنظيم أو الزعيم ؟
4. هل للتنظيمات والزعامات رغبات صادقة في تعظيم المتفق عليه وتقليل المختلف حوله ؟
في تقديري إن جاءت الإجابات كُلّها ب(نعم) عندها ( فقط ) يلتقي نقد وعلي عثمان وعرمان وغازي صلاح الدين وعبد النبي أحمد وسيد أحمد الحسين ، جميعاً في مركبٍ واحد ، ولِمَ لا ؟؟ إننا عندها ( فقط ) نستطيع رؤية المستقبل بوضوح .. الآن على القواعد أن تثور وعلى النخب أن تتخطى زعاماتها (إن أصرت على مواصلة احتكار الفكر والزعامة ) وتكسّر الأسوار القديمة وتدخل في اندماجات حقيقيّة يسعد بها الوطن والمواطن (بعد صراعٍ طويل مع المرض) ! رحم الله الخاتم عدلان فقد استوعبته ( بكل طاقته الجبّارة ) تفاصيل الخلاف أكثر من كليات الاتفاق وهذا وحده شاهد على ضرورة ما أدعوا إليه الآن .