مجدي الجزولي
[email protected]
تعددت و تكاثرت بؤر الصراع السياسي في السودان و افرخت بإنغلاق آفاقها حركات مسلحة اتخذت من الحرب وسيلة للتغيير السياسي, آخرها الصراع الدائر في دارفور. غالب ما كُتب عن الحرب في دارفور إعتمد على مجموعة قطبيات, من بينها مقولات المركز/الهامش, ثنائية العرق العربي/الإفريقي و صراع المزارعين/الرعاة, دون كبير إكتراث لعامل الطبقة الإجتماعية, التي تشكل اداة تحليل معرفي فعاله لإدراك احد محركات الصراع الأساسيه, و في ذات الوقت اداةً تنويرية لتجاوز ضيق التعصب العرقي الى افق مفاهيمي يُثوِّر الصراع الإجتماعي و يجعل منه محفزاً للتقدم.
قدم الشيوعيون السودانيون مساهمات رائده في مبحث الخارطة الطبقية للمجتمع السوداني, و بنشاطهم الفاعل دفعوا بعملية التحديث الاجتماعي خطوات عريضة الى الأمام, يقف شاهدا عليها النجاح النسبي للنقابة العمالية و النادي الثقافي الرياضي و المنظمات الجماهيريه (الاتحاد النسائي, اتحاد الشباب..الخ) في التفوق على عصبيات الدين, العرق, اللون و النوع و خلق وعي جديد برابطة العمل, التي يفرضها الإدماج التدريجي للمجتمع في دوائر الانتاج الرأسمالي. فعالية هذه الرابطه لا تكمن فقط في كونها جديده, بل في انَّها تسارع بفكاك الوعي الفردي و الجمعي من ولاءات و انتماءات لم تعد ملاءِمة للطور الإجتماعي قيد التشكُّل, تعيد إنتاج نفسها رمزيًا بينما اصبحت إملاءاتها على الواقع عاملاً مكبلاً لتطور الفرد و تناغم المجتمع, بل مصدراً للصراع السياسي-الإجتماعي الهدَّام.
تكاد كل المجتمعات الريفيَّه في السودان اليوم تعاني مخاض إنتقال عسير و حتمي من نمط الإنتاج المعيشي إلى النمط الرأسمالي, من دفء الإنتماء القبلي المحدود في كنف القيَّم الأبويَّه إلى صقيع اللاهويّه الحضريَّه و القيّم الإستهلاكيه, من الجهل الذي يورث الرضا الى المعرفة التي تورث الرغبة؛ مخاض كان قد تيسر نسبياً لمجموعات أخرى في مراحل تاريخية سابقة بفضل سياسات تنموية إرتكزت على إستثمار الدولة المباشر في قطاعات الإنتاج و التشغيل وفق أ سس إختيار ربحيَّة بحته, شكلت فيما بعد الجغرافيه السياسيه لثنائية المركز و الهامش و الأساس الإقتصادي لتداخل الفرز الطبقي للمجتمع مع محددات العرق و الدين. القَدَرْ الذي صَبَّ زيت الطبقة على نار العِرق وجد في وعي من لحقته غاشيات المدنيه السودانيه المُبْتَسره من بين ابناء المناطق الجغرافية الأقل حظاً حسب قانون الربحية الرأسمالي, وجد من يتمثله إحتجاجاً تفاوت بين السلمية السياسية و لاهوت التحرير المسلح؛ وعي تداخلت فيه هذه العناصر مجتمعة و أنضجه طموح النخبة المتعلمة في مجتمع تقليدي إلى السلطة و النفوذ.
إن جملة القيم و المعتقدات و الأفكار السائدة في المجتمع و الموجهة لأنماط الولاءات السياسية و الإجتماعية ترتبط جدلياً بالواقع الإجتماعي- الإقتصادي, تؤثر فيه و تتأثر به, و كل مرحلة من مراحل التطور الإجتماعي بالضروره تتطلب و تفرض ما يلائمها من القيم و الأفكار, التي تفارق بدرجة أو أخرى ما كان سائداً و تساهم في تشكيل أنماط الإجتماع و الإنتماء الجديده, في ذلك تتقاطع و تتداخل المراحل المختلفه, بل و تتعايش كما يشهد بذلك موزاييك الحال السوداني؛ من بوابة التعايش التوافقي هذه تلج فرصة إستغلال الموروث الإجتماعي (الديني, العرقي, القبلي..) في إجتذاب الدعم الشعبي لأجندة النخب المتعلمه. في جانب منه يتموضع الصراع على السلطة في مجتمع قيد التحول كالمجتمع السوداني بين أقطاب الجذب الفاعلة في هذه الصيرورة المنهكة.
المتعلمون السودانيون هم من داوموا على التبشير بمجتمع ذو بنى إقتصادية حديثه- رأ سماليه, يتيح فرصة الإندماج في النمط السائد كونياً, بما في ذلك جملة القيم و التصورات الثقافيه الموجهه للسلوك الفردي و الجماعي, طالت هذه النزعة "التحديثية" حتى الذين جعلوا من الدين تياراً سياسياً, إذ فارقت رؤاهم التصورات الشعبيه المحليه الموروثه عن الدين لترسم صورة مثالية محدثه, الدين فيها رابط أممي عابر للقارات, يتجاوز في تعاليه قيود الجغرافيه الثقافيه و السياسيه للمجتمعات. الوضع الطبقي للمتعلمين يشكل احد العوامل التي تفرض عليهم هذا الدور التبشيري, إذ أن وجودهم و بقائهم يعتمد في جانب منه على المؤسسات و وسائل الإنتاج المادي و الثقافي التي يستلزمها مجتمع حديث, عليه فإن الإختيارات السياسية و الفكرية لهولاء مرتبطه لدرجة ما بهذا الدور و تتفاوت في تعبيراتها الأيديولوجية وفقاً لتصوراتهم الذاتية عن ما ينشدون من تحول.
في المراحل المبكرة لوعيهم السياسي اختار المتعلمون السودانيون بدافع المثالية و ربما شئ من النرجسية هجر الولاءات الطائفية و القبلية السائدة, التي شكلت لحمة غالب المجتمع, فانشأوا جمعية الإتحاد السوداني و من بعدها جمعية اللواء الأبيض بمنأى عن سيطرة ما باتت تعرف في مرحلة لاحقه بالقوى التقليدية, شاخصين بأبصارهم نحو المثال الحضاري المصري, و الذي كان قد تجاوز هذه البنى نوعاً ما. النكسه التي أصابت المتعلمين السودانيين جراء الهزيمه الدمويه لمغامرتهم المعزوله عن عامة الشعب في مواجهة الحكم الإستعماري شكلت علامة فارقة في وعيهم, وجهت بدرجة ما إختياراتهم السياسية المستقبليه, أذ وجدوا أنفسهم أمام طريق طويل و شاق من العمل الجماهيري و طريق قصير و سهل من المساومه مع مراكز السلطة و الولاء التقليديين (أنظر د.محمد سعيد القدال, تاريخ السودان الحديث 1820 – 1955, ط 2, مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي- أم درمان 2002) . بدافع من مجموعة عوامل موضوعية و ذاتية اختار المتعلمون مساومةﹰ جوهرها إتئلاف و إرتباط تاريخي مع الطوائف الدينية, أتاحت لهم إستغلال الولاء الطائفي في تجييش الدعم الإنتخابي لأحزابهم السياسية, و مكنت الطوائف من إدامة نفوذها السياسي وفق قواعد اللعبة "البرلمانية", أكثر ما يعيب هذا الحلف "غير المقدس" بين البرجوازية الصغيره و قوى الإقطاع أنه أفرغ الأحزاب الجماهيرية- مؤسسات المجتمع المدني الجديد- لحد كبير من وظيفتها التنويرية, إذ يستبطن التحديث الإجتماعي تقلص نفوذ هذه الأحزاب بين الجماهير الشعبية, بحكم ما يفرضه التحديث من أنماط ولاء و قيم تبتعد بالأفراد و الجماعات عن نفوذ الطائفة و القبيلة. لا يصلح معيار الخطأ و الصواب للحكم على هذا الإختيار, لكن من المفيد تأمل دوره في إدامة الحالة الإنتقالية للمجتمع. هذه المساومة التوفيقية منظوراً إليها من زاوية أخرى تمثل صورةﹰ حيه لسلوك البرجوازية الصغيرة السياسي؛ الطبقة الإجتماعية التي و بحكم تعليمها و مهاراتها الأيدولوجية أدارت لدرجةﹴ مقدّرة الحراك السياسي في السودان مترددة بين قوى الإقطاع, القوى المنتجة و البرجوازية الرأسمالية حسبما يقتضيه توازن القوى الملازم بجانب عوامل أخرى لطبيعة و جهة التراكم الإقتصادي.
شرائح اخرى من المتعلمين السودانيين دفعتها إختياراتها السياسيه المستقلة إلى الإنحياز للمستقبل, هولاء جعلوا من الحركة السودانيه للتحرر الوطني – الجبهة المعادية للإستعمار و من ثم الحزب الشيوعي السوداني وعاء لإرادتهم السياسيه, مستثمرين جهدهم في الكتلة الإجتماعية المندمجة في الإنتاج الرأسمالي الصناعي و الزراعي الحديث, حيث يعرف الحزب المرحلة التاريخية ما بعد الإستعمار بمرحلة "الثورة الوطنية الديمقراطية" و يضع لها تصوراً سياسياً يقوم على ما يسمى "الجبهة الوطنية الديمقراطية" و التي تضم: الطبقة العامله و جميع العاملين بأجر, المزارعين, المثقفين الثوريين, الرأسماليين الوطنيين و جميع العناصر ذات الضمير الوطني (الماركسيه و قضايا الثورة السودانية؛ نص التقرير العام المجاز في المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي السوداني, أكتوبر 1967, دار الوسيله- الخرطوم, بدون تاريخ). مع أن التعريف يقدِّم الطبقة العامله على غيرها فهو أيضاً يشمل جميع الشرائح الإجتماعية المندمجة في التحول من نمط الإنتاج المعيشي الى النمط الرأسمالي الحديث و ذات المصلحه فيه. اكد العمل الجماهيري للشيوعيين السودانيين لدرجةٍ كبيرة ما سطروه في برنامجهم المذكور, حيث غدت النقابات العمالية و المنظمات الجماهيرية و الفئوية المختلفة اوعية محفزة للإندماج الإجتماعي على اساس المواطنة و رابطة العمل و عوامل دفع فعّاله للإنتقال من هياكل إجتماعية- إقتصادية قبل-رأسمالية الى نظم التعريف و الإنتماء الحديثة.
في إتجاه مغاير فضّلَت مجموعات من المتعلمين الإعتماد على العقيدة الدينية كأساس للكسب السياسي وفق رؤية مفارقة للتصورات التقليدية الموروثة عن الدين؛ رؤية سياسية تجعل من الإيمان الديني عقيدة حزبية "علمانية" و حركية, تستجيب في المقام الأول لمخاوف البقاء و الإزدواجية الفكريه للبرجوازية الصغيره, حيث تجمع في صيغة ايديولوجية توفيقية بين الأشواق الرومانسية للنهضة الوطنيه القائمه على التراث و مطلوبات التحديث الشكلانية, كما تجمع بين الرغبة في الخلاص الأخروي و طموحات السلطة و النفوذ الدنيوية. جذب هذا التيار قطاع كبير من الذين واتتهم فرصة التعليم الحديث, إذ وجدوا في تصوراته الفكرية و السياسية ما افتقدوه في "براغماتية" الطوائف من صيغ تحقق رغباتهم المادية في النفوذ المستقل و التحديث الشكلاني و تعفيهم كذلك من المواجهة الصارخة مع نظم القيم التقليدية بل تستثمر و تستغل تلك القيم لصالح التبشير بالمشروع السياسي الجديد و ما يطرحه من تصورات مستحدثة عن الدين و الحياة. صعود هذا التيار و نجاحه اعتمد لدرجة ما على ما طرحه من مقياس لتعريف الفرد و الجماعه, حيث اعتمد الدين مقياساً اوحد متجاوزاً بذلك محددات العرق و اللون و النوع, التي مثلت عقبات صعبة التجاوز كانت تحرم اعداداً مقدرة من المتعلمين الجدد ذوي الطموحات المشابهة من المشاركة في لعبة سياسية تتحكم في قواعدها مراكز قوى تمنعها طبيعتها التقليديه من فتح باب الصعود الإجتماعي و السياسي امام النساء او المغايرين في العرق او الدين و ترتكز هرمية القيادة فيها على الوراثة و ولاء التابعين.
من وجهة نظر طبقية وجدت البرجوازية الصغيرة ضالتها في تيار الإسلام السياسي: ايديولوجيا حركيه تنافس الطوائف على قواعدها الدينية و قوة دفع سياسية منحازة بوضوح الى نمط التحديث الإقتصادي الرأسمالي دون كبير إكتراث للأحلام اليسارية في العدالة الإجتماعيه و عبء التحالف مع القوى المنتجة, مما يؤهل هذه الطبقه الإجتماعية لتحالف اكثر ربحيّة مع قوى رأس المال. خرجت الرأسمالية السودانية خروجاً وئيداً من رحم الإقطاع و شبه الإقطاع (انظر القدال), حيث شكل فائض الإنتاج الزراعي في المراحل الأولى لتطور رأس المال الخاص المصدر الأساس لتراكم الثروة, لذا اعتمدت هذه القوى في تمثيل مصالحها السياسية على الطوائف. لأسباب موضوعية تختص بملكية الأرض و القدرات التقنية و الرأسمالية ظلت الدولة بعد جلاء الاستعمار هي صاحب العمل الاول في البلاد و استمر القطاع الحكومي مهيمناً على هيكلة الاقتصاد, وفقاً لذلك لزمت البرجوازية الصغيره جانب الطبقات المنتجة في الصراع السياسي محتشدةً خلف شعارات اليسار, بحكم مصلحة "الأفنديه" في اوضاع وظيفية مميزة و قطاع حكومي متنفذ, و هو ما سعوا لتحقيقه باسم "جماهير الشعب العامله". فرض تدهور الإقتصاد و إفلاس مؤسسة الدولة القائمة على إنتاج و تسويق محصول نقدي وحيد على البرجوازية الصغيرة تغييراً في إتجاه البوصلة السياسية, وفرّت له الجبهة الإسلامية الغطاء الفكري المناسب. إن انحياز قطاع كبير من المتعلمين لتيار الاسلام السياسي, كما تشهد بذلك آخر انتخابات ديموقراطية في البلاد, تقف وراءه عدة عوامل دوليّة و محلية, ايديولوجية, اقتصادية, اجتماعية و طبقية, عمليّاً وفر هذا الانحياز الضمان الجماهيري لإستيلاء الجبهة الاسلامية على السلطة السياسية في يونيو 1989. قام نظام الجبهة باعادة هيكلة الاقتصاد السوداني وفق مفاهيم "تحرير الاقتصاد", "الليبرالية الجديدة" و موجّهات صندوق النقد و البنك الدوليين, حيث تشهد تقارير الأول على رضا متزايد عن اداء الاقتصاد الجديد و التزامه الصارم بخطط "التكييف الهيكلي". هذا الإنقلاب الاقتصادي ما كان له ان يتم دون احكام قبضة حديدية على القطاعات العمالية و المهنية وذلك اول ما وجهت له سلطة الجبهة اهتمامها, حيث عمدت مباشرة الى حل جميع النقابات و الاتحادات العمالية و كتابة قانون جديد يضمن افراغها من وظائفها المطلبيه. اطاحت غزوة "تحرير الاقتصاد" بغالب القطاع الحكومي الانتاجي و بدعم الدولة للسلع و الخدمات الأساسيّه, في ظل غياب رأسمالية صناعية مقتدره دفعت هذه السياسه بمجموعات سكانية كبيره حضريه و ريفيه خارج دائرة النشاط المنتج؛ الهامش الاقتصادي الذي بات يعرف بالقطاع غير الرسمي, دون ان يتلقاهم نظام للتعليم و التدريب يعيد تأهيلهم للمنافسة في سوق عمل قاس في رأسماليته الجديده, يلفظ من الايدي العامله اكثر مما يستوعب.
أزمة دارفور في احد جوانبها مثال صارخ و مكلف لإشكالية التنمية وفق برامج اعادة الهيكلة في بلد نامي ما زالت انماط الإجتماع و الولاء فيه تحددها نوازع العرق و القبيلة و الدين, تتكثف فيه الايدولوجيا لدرجة الموت, تصطرع قواه السياسيه دون قواعد حاكمه و يتردد متعلموه فكرياً بين موروث يستغلونه غطاءً لمصالحهم الذاتيه الآنيه و حداثة تجذبهم و تخيفهم في آن واحد, لا يستطيعون الإقدام عليها مخلصين و لا يقدرون على هجرها رغبة في منجزاتها و ذلك في عالم مندفع لا ينتظر ريثما يحزم المترددون امرهم.
إن العملية التنمويّة الناجحه هي التي تجمع بين التنمية المادية و التنمية البشرية و تحقق فائضاً انتاجياً يضمن تشغيل و تطوير القوى العامله من حيث الكفاءة الانتاجيه و المهنيه بما يرفع مستوى السكان المعيشي و طاقتهم الإستهلاكيه في حدود سقف الفائض الإقتصادي, لتحقيق ذلك تتكامل قطاعات الإنتاج و التعليم و الصحه و النقل و الطاقه و المياه و الخدمات الأخرى في وجود النظم الادارية و السياسية المناسبه التي تؤمن امتلاك الجماهير للمعلومات و مشاركتهم الفاعله و الواعيّه في إتخاذ القرار.
وفق شروط الانتاج المعيشي استطاعت النظم الأهلية المحلية في دارفور لقرون استيعاب و معالجة الصراعات الداخليه الناجمه عن هجرة المجموعات السكانيه والتنافس الطبيعي على موارد محدوده, حيث تكاملت البنى الفوقية للمجتمع مع الشروط المادية للحياة ضامنة استقرار نسبي. تعددت تفاسير المجتهدين فيما يخص جذور الصراع الدموي في دارفور و اسبابه المباشره, و هي في عمومها و كثير من تفاصيلها صحيحه, لكن لماذا الآن ؟ ما سر انخراط فئات من مواطني دارفور في حركة احتجاج مسلحة على رأسها قيادات شابه غير تقليدية بل صفويّه ذات طموحات سياسيه سلطوية تتعدى الإقليم؟ ظنّي انه بخروج الدولة عن دائرة الإنتاج انسحب صاحب رأس المال الأول و صاحب العمل الحديث الوحيد في الإقليم ليحل محله رأس المال التجاري أي توقفت تنمية قطاع الإنتاج مع تمدد نشاط و ثروة المضاربين من جانب و إفقار بقية شرائح المجتمع من جانب آخر. اختلال ميزان التنمية هذا صاحبه توسع كمي محدود في قطاع الخدمات املته الضغوطات السياسيه بغرض اسكات اصوات الإحتجاج المبكره, حيث ازدادت اعداد مقاعد الدراسه و اسرة المستشفيات برغم القصور الهيكلي في التمويل الرأسي للصحة و التعليم و تنمية قطاع الإنتاج و التشغيل, عليه ازدادت اعداد خريجي المدارس و الجامعات ولكن في غياب بنية اقتصادية انتاجية/ خدمية تستوعب عملهم و تكمل دورة التنميه. بذلك وجد هولاء انفسهم خارج دائرة الإنتاج المعيشي و لم تسعفهم قدراتهم التنافسية في ايجاد مواقع تناسب طموحاتهم في سوق العمل الرأسمالي في المركز, إذ ان الدوله قد اعتزلت دورها في ضمان ديموقراطية التعليم و التدريب و التشغيل استجابة منها لشورى شيوخ صندوق النقد الدولي و مطلوبات ميزانية الحرب متعددة الجبهات. بتعبير آخر تخلقت طبقة من المتعلمين وشبه المتعلمين دفعتها إعادة هيكلة الإقتصاد خارج دائرة الإنتاج الضيقة بينما تمددت مساحة وعيها الى أفق طموحات البرجوازية الصغيرة. هذا التناقض بين الشروط المادية لإعادة إنتاج الحياة و وعي الأفراد و المجموعات له دور يستحق الإنتباه في توليد ما بات يعرف بشعور "التهميش". إختارت هذه الشريحة الحرب وسيلة للتغيير بدلاً عن الإحتجاج السياسي السلمي مستثمرةً في العرق و القبيلة جامعاً للولاء و المؤازرة في طفرة نوعية و امتداد كمي لتراث الصراعات القبلية على الموارد المعيشية و وافق هذا الإختيار مصالحاً إقليمية و دولية كانت وقوداً إضافياً لناره الحارقه. أحد العوامل الدافعة لهذا الإختيار تتعلق بطبيعة الأحزاب السياسية السودانية و ضيقها عن إستيعاب ما إستجد من متغيرات إجتماعية- إقتصادية في قوالب سياسية, تنظيمية و برامجية تحول دون النكوص عن ما احرزه السودانيون من تقدم على درب البناء الوطني عبر تاريخ طويل من النضال الشاق مادياً و معنوياً. تراث الأحزاب الكبرى في تجييش الولاء الشعبي إعتمد على وسيلتين أساسيتين: الأولى الولاء الطائفي العقدي, في هذا الخصوص تكفلت الخلخلة الأيدولوجية الناجمةعن الشرط الحديث بإخراج هذه المجموعات من دائرة النفوذ الطائفي, الثانيه هي المساومة كتلك التي قامت عليها الأحزاب بين الطائفة و المتعلمين؛ بوجود الأحزاب خارج السلطة السياسية و اضمحلال قاعدتها الإقتصادية تبعاً لإنجذاب رأس المال الى مركز السلطة الحاكمة وفق تحالف المصالح بين الإثنين, لم يعد في يد الأحزاب الكثير الذي يمكن أن تقدمه لقيادات شابة طامحة الى السلطة و النفوذ. مرة أخرى يلعب الشرط الطبقي لهذه المجموعات دوراً بارزاًً في إختيارها تصوراً مانوياً عن العروبة و الأفريقانية اساساً للدعاية السياسية و وسيلة لتجنيد الدعم الشعبي, إذ أن طموحها الذاتي و طبيعة بنية الأحزاب يفرضان عليها الإستقلال عن الطوائف و من ثم ما من مقولة ايديولوجية أفضل من العرق تصلح لتسييس الفقر لصالح رغبات صفوة صاعدة في مجتمع رعوي-زراعي هجين العناصر يشارك المركز المزعوم نفس الدين.
خاتمة القول أن النتائج الكارثية لسياسات "التكييف الهيكلي" على المستوى الإجتماعي تحتم على اليسار السوداني استعادة دوره في التوطين السياسي لقضية العدالة الإجتماعية عبر صياغة وعي طبقي جامع يسحب البساط من تحت أرجل البرجوازيات الصغيرة الصاعدة في الجهات السودانية ويلم شتات اعراق و لغات و أديان المنتجين نساء و رجال على هدى من "العدالة و المساواة" و يداوي دمامل الرق و الإستعلاء المحتقنه و لليسار في ذلك كسب سابق و تراث مجيد. ان المقولات المتحفيّة للخمسينات و الستينات ما عادت تصلح لإضاءة ظلام "الليبرالية الجديدة" و فض حجاب العرق الذي يحيكه إنتهازيو الجهات و اباطرة "المال و البنين" في "المركز", أو كما قال لسان حكمة مهدي السودان: ”نحن رجال و هم رجال, لكل حال و بلد و زمان ما يليق به, لكل وقت مقام و حال و لكل زمان و أوان رجال“ (من مأثورات الإمام المهدي). في حال غاب هذا الجهد لن تجد مظلمة "التهميش" تعبيراً سياسياً لها سوى ما تصدره بندقية العرق الإنتهازية من رصاص و لنا في حروب القارة الأبدية تبصرة و نذير.