تحليلات اخبارية من السودان
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

حكايات فكري الحائر. بقلم د. عبدالباسط ميرغني

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
30/11/2005 3:18 ص


(1) شتات الذاكرة د. عبدالباسط ميرغني
أرهقني صديقي الأستاذ "فكرى الحائر" هذه المرة إذ أتاني بوجه لا يضمر الخداع ولا المخاتلة بل فجعني بأسارير صافية، وأمنيات عرضها السموات والأرض، لا أذن سمعت ولا عين رأت. وصفاء أساريره هي فجيعتي. أن يأتيك فكري الحائر بابتسامة صافية وهو موسوم بالخداع والمخاتلة هذا سر الفجيعة ومكمن الفزع. هو معروف إن تكلم يفصح ولا يبين. يكذب ولاتهتز له طرفة عين. يأتيك من هنا ومن هنالك ومن الجهات الأربعة حاملاً كل خيرات الدنيا فى يد ندية، وكل نيران الجحيم فى اليد الأخرى.
حكايات وأسرار البلد تنساب كصنبور الماء من فمه، إن استرسل حتماً سوف تصاب بالدوخة والحيرة والدوار، وان صمت فما هي إلا غفوة محارب.

جاءني نهاراً والشمس تربعت فى كبد السماء، والشوارع امتلأت بالقيظ، وقال: رأيتُ رؤية الصاحي كالنعسان؛ الناس تركض عراة فى شوارع البلد، ونهر النيل قد جف ماؤه. وعندما أيقنت بأننى ملء السمع والبصر والفؤاد أبديت العجب دهشة!.

وأضاف مسترسلاً: خيول الأئمة ذوى اللحى البيضاء، تدافعت صوب الأسواق. فامتلأت الأسواق القديمة والحديثة وأسواق الأحياء الشعبية عن بكرة أبيها، فتدافع الناس تحت حوافر الخيل، فأختلط الحابل بالنابل، وسالت دماء كثيرة. ولم يجد تجار السوق ملاذاً سوى الهرب، فتركوا أمتعتهم غنيمة للغزاة، وتسلق بعضهم أسوار المساجد والكنائس وزوايا الصلوات، والشطار منهم أبدوا حسن النوايا، فوجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها ضيوفا أعزاء فى السجون والزنزانات.

صمت "فكرى الحائر" برهة قصيرة، فأدركت أن غفوة المحارب قد عاودته، أسعفتني خبرتي العملية بأن الوقت أضحى مؤتيا لإعمال طريقة التداعي الحرَ. وعندما لم تَُجد فنيات الاسترخاء الطبيعي كما يجب، استعنت فى البحث عن مكامن العقل الباطني بأن غرزت حقنة صوديوم أميتال 10 ملغرام فى مجرى الوريد. ورويداً رويداً أنداح الستار عن عالم الوعي واللاوعي.

سمعته يغمغم بضحكة ساخرة: يقيني أنك تعلم تماماً بأننى لست أنساناً مخادعاً، فقط أستعيد صورة طفولتي بألوانها الزاهية ورائحتها وتراب الطريق، وجه أمي ونكهة البن المحروق ها أنا أراها الآن أمامي تطعم أغنامها ودجاجاً لها. وهاهي ظلال العمومة والخؤولة وهاهم يؤدون فرض المغرب أمام الدار. ظلال الرجال تمتد بعيداً فى التاريخ، تصعد وتهوى كأشباح على ضوء الفانوس. الظلال تصعد وكأنها تمشى على الماء، وتهوى كشهب تغوص فى بئر الزمان. المدينة لم تتجاوز طور التكوين، هجين من الألوان والسحنات رسمت على الجدران. امتلأت جدران المعابد القديمة بالألوان. ودوائر الأحزان تنأى رويدًا رويدا. ها أنا أستلقي على سطح ماء أزرق، إرادة بلا حراك وذاكرة بلا جسد. صورة العمومة والخؤولة تطل من هنالك وتترآى كأشباح نخل خاوية. ما أكمل الخليفة قبضته على أمور المدينة. عقد الولاء لم يدن له بعد، الغزاة على الأبواب، والأرض ما تبدلت عدلاً بعد أن امتلأت جورا.ً استعان بالمكر والخديعة فأثمرت بذرة الشقاق بين الرجال، ففرقت بين القبائل وساد شتاتهم. فأرسل بليل عقد نضيد من النجوم والأحلام سارت شمالاً في محاذاة ألنهر دون جرعة ماء ولا سند مرتقب على الأفق، وغبرت في رمال الشمال بذور فتنة موءودة وما سألت عن الآمال الموعودة ولا حفلت بالعهود المعلنة. تبخرت أحلام المصاهرة الملوكية، وأمست ملكة انجلترا في حل من أي ارتباط مأمول، وتأكدت رغبات الغزاة في الانتقام بدفن عشرات من الرجال في تربة، ثمناً في أن لا يكون ريالٌ واحدٌ في مطلب.

في ذلك المساء جلس أبناء دار صباح وأبناء رعاة البقر مع رهط من أبناء خط الاستواء وبحر الغزال على رأس الفتنة الموءودة ومهروا بالدم سطور صحائف بيضاء وكتب سوداء وتبلورت في رحم الغيب نزعات هوى السلطة والثروة والهيمنة في الأفئدة. تعاهدوا على الثبات في الكرَ والفرَ ورفعوا الرايات عالية فوق ذؤابات شجر النخل والتبلدى والمانجو والباباى ولسان حاديهم يردد:

كلما أنبت الزمانُ قناة رَكب المرء في القناة سنانا .

ها هنا ارتسمت ضحكة خافتة المحيا على أسارير المخادع وهو يراني فى لجة من الحيرة والدوخة والدوار، وريثما تحقق له ما أراد ارتخت عضلات جسمه، وتوافقت كليات العقل والبدن، ودارت دائرة الطمأنينة والاسترخاء، ذهب التردد وتهاوت ألوية المقاومة.
فواصل الأستاذ فكرى الحائر الفضفضة بصوت واهن ولكنه مسموع:

سامحك الله 00أريكة واسترخاء، فتحت على أبواب الماضي 00وكنت أظن أن الماضي ولّى وراح 00 أتيتك قاصداً أن تضمد الجراح 00 وها أنت تفتق الجراح. أي علاج هذا00 يافرويد؟ وأي قسم ذلك 00يا أبا قراط؟

انزلقت ستارة اللاشعور: لقد أخبرتُك عندما هرولت كتائب الفرسان جنوباً00 بقيت في المفازة كالسيف المسلول وحدي، أشرعت الرايات البيضاء وشدوت خارج السرب. سيان لدي أوسمة بطولة وضعت على صدري أو موسوم خيانة تدلت على عنقي، تحملت وعثاء البحث والسفر والذود عند المخاطر، وعففت عند المغنم 00 تحملت نظرات التساؤل والشفقة عند الوهن، وأصبحت كالشادي عجباً وطرباً. كانت لدى الشجاعة أن تركت الخوف ورائى00 آنذاك في الزمان القديم تحت الجسر عند المنحنى، غنيتُ للنهر وعشتُ بهجة الحاضر ممتشقاً سيف الجسارة، لست عاب وغير مكترث لما هو آت. واليوم تداخلت الفصول وصرت أصرخ مستنجداً بماضي ألأحاجي والذكريات، عسى إن رقية، تعويذة، تميمة أو خرافة فانية تعينني على احتمال معاناة الاضطهاد والقهر. وها أنا استلقى على أريكة باردة تتداعى أفكاري لا أرضاً قطعت ولا ظهرا أبقيت.

طالت غفوة المحارب وهو يهذى كأن كابوس حمى الملاريا وعنفه يعذبانه، فاضت الهلاوس، وضجت الهواجس، وتفشى داء الارتياب. وضحت معالم السجن الكبير بضواحي المدينة كسفينة متهالكة على رمال الصحراء، لم يتمالك رجل الأمن سماع الكثير من الهرطقة المشحونة بأنات العنف ومشاعر التعذيب، وقف ثم جلس وتمشى متوتراً كأن صفير شعور بالخطيئة والإثم يطن في أذنيه، فدلق جردلاً من الماء البارد على وجه المخادع كأنه يغسل شراشيف ذنب قديم لوَن بشرته، أنتفض فكري الحائر لبرودة تيار الماء فغمغم مواصلاً التداعي الحُر لأفكاره: نعم كنت مؤهلاً لصيد النجوم والتسامي بعدم الانتماء لأي قبيلة، وقلت وطن النجوم أنا هنا، ترعرعت كالنبت الشيطاني ودفعت مع أترابي عذابات تلك المرحلة، لم أكل ولم أمل والتضحيات الجسام جرحها لم يندمل بعد، عيون زهرة كانت دائماً هي الملآذات الآمنة. آه 00يا زمان التشتت والتنا غضات المهلكة، تبدد الرضا العام وتهشمت كل الخيارات والقناعات المفحمة. دفع به رجل الأمن بقسوة إلى داخل الزنزانة الباردة الموحشة، وقعت الفريسة وكثرت الوحوش وحاصرته الأنواء من كل صوب، راودته فكرة الهرب من الاحتواء ومغادرة الحظيرة وقال الوطن هو المؤسسة الوحيدة الباقية. طاف ألق زهرة فوق الروابي بثوبها الأبيض الأنيق، ونفحته نظرة أعجاب وتجلى، فأحس بأن هواء النيل الرطب يغسل وجهه، كساه خدر لذيذ، وداهمته غفوة المحارب.

وضعتُ يدي على جبينه فكانت باردة كالحديد، مسحتُ على صدغيه وفركتهما قليلا بلفافة دافئة فأحسست نبض الشعيرات الدموية تحت الجلد تستعيد نشاطها، ثم ضغطتُ برفق على الفص الدماغي الأمامي فارتخت العضلات، فآلفت ما بين حركة الجسد والعقل، وتمكنت من الوصول إلى دهاليز الذاكرة، سمعته يسامر نفسه:

اقتحمت عليه خلوته مساءً طالباً النصح والمشورة ودار بيننا همس الشيخ مع المريد:

قال: إياك أن توافق 00 إياك أن ترضخ00 إياك أن تستسلم.
قلت: زدني معرفة 00 زدني مدداً.

قال: عندما حضر الغزاة عمدوني رئيساً للجنة تجديد الحضارة وصياغة القيم الجديدة، قلة الحيلة وكثير الحياء أقعداني عن الاعتذار، فطفقت أقول كلاماًً غير مقتنع به، وملأت الآفاق أحاديث أتعجب عند الاستماع إليها، وجرت على لساني أخباراً أذلت أناساً أبرياء وأكرمت أناساً أذلاء، وقبل ذلك كنت لسان البلد ونبض القبيلة. نزلت هنا دمعة كنزف الدم على الخد، وقال:
تمسك برأيك ولا تذهب ولا تستجيب؛

قلت: زدني معرفة00زدني مدداً!
قال: لا تصالح؛ وأعلم أننا نعيش حياتين، حياة نتعلم فيها وحياة نعيشها.
احترمته، وفارقته مودعاً.

كنت أتتبع أخباره عن بعد، علمت مؤخراً بأنه استعان بالعقار المخدر مهرباً، فسيطر عليه الألم النفسي المخدر ردحاً طويلاً من الزمان، في لحظات التجلي سار عارياً في ردهات الدار وكان أول الراكضين العراة في الدروب والطرقات لاهيا 00 ضاحكاً 00ساخراً:

دفن بالأمس في مقبرة المدينة، غادر المعزين00أنتهى العزاء بانتهاء مراسم الدفن 00بقيت شهادات الكفاءة والتقدير والزمالة الملكية معلقة على جدار الغرفة.

(2) أتساق الذاكرة في سحر الألفة
أقبلت زهرة في تمام الموعد فضج المكان ألقاً وبهاءً وحضوراً وكبرياء، وهزمت فراشتان فوق مجرى نهر النيل الجميل:

قلت: يازهرة الوجد الصوفي أنا لا أصلح لك00 باحات الوطن مسكونة بالمهام الصغيرة والكبيرة.

قالت: الزمان قمئىُ00 و أنت أجمل البشر.

قلت: يازهرة نجوم السماء00 دونها أقطاب 00 وفضاءات00 وفضاءات.

قالت: أنت أكثر الناس نقاءً 00 وثراء.

هكذا تنساب حكايات الأستاذ فكرى الحائر دونما مقدمات أو نهايات، يقفز من حكاية لأخرى دونما ترابط في اللفظ أو المحتوى، كلما حاولتُ فك الطلاسم تغمرني الهواجس وأضيع ما بين سراديب اللغة والمعنى، لغة فى الوهلة الأولى تبدو مكثفة ذات رسائل ومعاني واتجاهات كثيرة، كلغة الصيادين في المساء، قصيرة ومشحونة برطوبة الماء دون سرد، لغة أشارة مشفرة ومبهرة. ضعتُ في لجة من الحيرة وساورتني الظنون.

قال: هذا سر فتنة الحكاية ! قلق الخوف من موت الذاكرة، شي يسكننا ونفشل في الإمساك به، ليس كالتناهي في جذوة الحزن ولا هو الفناء في طاقات الفرح والأشواق، شيء كالتدافع في نهار المدينة والسكون في هداة ألليل البهيم، كالحياة، مثل تحولات الفصول نعلم أوان مجيئها ولا ندرى مفاجأتها. شي كالطاسة في البحر غطاسه بطنها لؤلؤ وظهرها نحاسه، أصابني الإعياء، ذهب وتركني كالسمكة خارج الماء.

يعلم الأستاذ فكرى الحائر بأنني أوليه اهتماماً خاصاً، هذا الإسراف فى الاهتمام يسعده ويجعله يشحذ كل حيل الدفاع والتبرير والتسامي فى تعامله الإتكالى معي. إن تراكمت مشاغل الدنيا وحالت بيننا يفسر ذلك بأنه التجاهل المقصود، بل أنه الجفاء وعدم الوفاء، يطلق عنان اللوم موقداً مشاعل الدراما النفسية ويحتدم الجدل معه وكأنه يعتلى خشبة مسرح حقيقي.
كلكم كذابون ومنافقون لقد ذهب وولي الإخلاص كما ذهب وولي السودان الانجليزي المصري، وبقيتم أنتم السادة ونحن العبيد.

- كتمت غيظي!
- واصل هو ثورته وسبابه:
خمسون عاماً منذ غادر الانجليز ومازلتم السادة ونحن العبيد، هذا زمان رد الحقوق والخلاص من المستعمر السوداني
- امتلأت العروق بالدم وثورة الغضب؛ وقلت: ليس في شرعتنا عبد ومولى كلنا قد حظينا بما يكفي من الحزن والكآبة وكلنا في الهم شرق، ولكن ''من عفا وأصلح فأجره على ألله''
- تومئ إلي بالعفو والغفران؛ حسناً غفرنا وعفونا سنوات المستعمر الجائرة، من يعفو بيوت الجن ولوثة العقل وذكريات الزنزانات الموحشة الباردة، من يعفو ظلم ذوي القربى وسنين الاضطهاد الضائعة
- دعَنا نتفق أولاً لترتيب البيت من الداخل، ومن ثم نسلك طريق البحث عن النفس المطمئنة
- عدنا مرة أخرى لحدوتة الانحناء للعاصفة، حكاية تلون الحرباء وانزلاق جلد الثعبان، حكاية قديمة وبائخة، تراكمت التضحيات الجسام، في كل بيت فداء وتحت كل حجر عطاء، وتمخض الجبل فولد فاراً، وكأن ود النجومي في صحراء الشمال وغابات الجنوب لا غزا ولا شاف الغزو.

وفي ثورة الغضب تلك رفعت رأسي رأيته ينظر إلى مبتسماً بسخرية فعرفت أنه سادر في ممارسة ألاعيبه معي.

قال: حدثت زوجتي عنك، فأعجبت بما تبذله من جهد لأجلى وقد تفاءلت خيراً خاصة عندما عرفت تلك الذكريات الجميلة التي عشناها معاً بحوش ود العالم. أومأت شاكراً أفضال الله علينا.

قال: هي الآن معي تود مقابلتك.
تغلب العقل على ثورة الانفعال ووافقت على مقابلتها.

ذهب إلى الباب ورحب بشخص غير مرئي ولا وجود له في الواقع الماثل.
سلمت عليها، وأجلستها في الكرسي الذي أمامي.

سارقته اللحظ فوجدته لحنا من التحنان ينشد طمأنة خذلان الزوجة ومواسياً لها حرمان السنوات الضائعة، مترنماً في صمت:

يا مسافر براك شاق المفازة بليل هاك يا حبيبي قلبي ليك دليل

قالت الزوجة: هذا هو المكتوب فى اللوح المحفوظ بل ذلك هو الموسوم على الجبين ولا بد أن تراه العين، أم يا ترى أنه الحظ العاثر الذي يسمونه خيبة الأمل وحسرة السنين الضائعة، مهما يكن فالحياة معه جديرة بأن تعاش. رأيتُ فى أخلاصها وقناعتها وجه أمي وددت لو أرقد على صدرها.

أتى هو هارباً من غفوته مقاطعاً: هاهم يتحدثون عن صياغة أفكاري ووجداني ولكن هيهات! ثم وقف منتصباً يكاد رأسه يلامس الفضاء، خبروهم أن هذا الوجدان قد حفر من صفوان فى فؤادي منذ مئات السنين. ها هي أصواتهم، تطرق في رأسي، وها أنا أسمعهم يتحدثون ويتآمرون ويطاردونني. أري كل الطرق مغلقة، كل الدروب والمعابر مؤصدة. الا معبر الضحية والجلاد، القاتل والمقتول، العاقل والمجنون. ها أنا أراهم من كل الاتجاهات قادمون، من الصحراء قادمون، من الغابة يركضون، ها أنا أسمعهم في كل القنوات يتحدثون؛ عن الكسب الرخيص يثرثرون، كلماتهم باردة بلا معاني، أصواتهم القبيحة أكاد أحسها تأتى من جوف صدري وأياديهم عندما تمتد بالسلام أحسها تغص في قفصي الصدري تسكن رئتاي وداخل أحشائي.

تهاوى جالساً وواصل ثورته: خبروهم أن يهتموا بذاتهم ورغباتهم المريضة وشهواتهم المنحرفة وهواياتهم الشاذة في تعذيب ودمار نفوس البشر ويتركونني أدب في فجاج أرضي وشأني، وتهاوى في غيبوبة ثانية، عينان جاحظتان وفم ممتلئ بزبد البحر. أسرعت بوضع قطعة ثلج على صدغيه وعطر نفاذ على انفه، وسمعت صدى صوته يأتي ويغص في دهليز بئر سحيق، وتناهى هو في غفوة محارب عميقة.

أتاني اليوم صديقي فكرى الحائر في حالة كونه رائق البال متسق الأفكار ومترابط الكلمات. ليس كإنسان مخادع. إذا تكلم يفصح واضحاً. لا يكذب ولا يهتز له جفن أو طرفة عين. يأتيك من هنا ومن هنالك ومن الجهات الأربعة حاملاً كل خيرات الدنيا في يد ندية، ولا تحس بنيران الجحيم في اليد الأخرى.

حكايات الود والألفة تنساب كصنبور الماء من فم فكري الحائر، إن استرسل ترى درراً نادرة وتسمع قولاً رصيناً، حتماً تكون من المسرورين وتقول آلا ما أجمله من إنسان وما أروعه من طيب معشر وحسن سريرة، وان صمت فما هي إلا غفوة محارب.

توسمتُ الخير في نفسي، وشعرت بأني أسلك طريق المعافاة الناجع. وكاد الغرور أن يجد طريقه إلي نفسي ويملأني، وسرعان ما تلاشى الشعور بالغرور وتبددت ثقتي بنفسي، إذ أخبرتني زوجته بأنه كان بالأمس في زيارة وضيافة الحاجة آمنة بت الأمين. الحاجة آمنة بت الأمين الصديق الصدوق والخل الوفي لوالدته الحاجة بتول بت الخير. الحاجة آمنة كانت دائماً ما تنادي الأستاذ فكري الحائر بالحبيب ود الحبيبة، واستمرت هذه المناداة حتى بعد السفر الطويل للحاجة بتول بت الخير. الحاجة آمنة ما كان ليأتي ذكر الموت على لسانها مطلقاً، إذ كانت تستعيض عنه بالسفر الطويل.

جلس الأستاذ فكري الحائر هاشاً باشاً بالأمس لدى الحاجة آمنة بت الأمين، أومأت تنادي عليه: تعال يا الحبيب ود الحبيبة القهوة جاهزة، جبنه سيدي الحسن الختم أبو جلابية والسادة أولاد حسونة، شيوخ تقلي وسنار كلهم حاضرين.

جلسا تحت ظل شجرة المهوقني وسط فناء الدار، الشجرة نفس الشجرة، والظل نفس الظل، والفرش نفس الفرش ونكهة القهوة بالمستكة والهبهان نفس النكهة، وعبق المكان متضمخ بصوت الحاجة آمنة الشاعرة الحافظة لطيب الكلم البسيط الجميل ودندنتها في مدح الرسول الكريم؛
-تذوق يا الحبيب جبنة الفقراء فيها علاجك ودواك تشيل العين والحسد وترجعك في مسماك يا الحبيب ود الحبيبة وتردك صاغ سليم بأذن المولى الكريم.

عند الفنجان الثاني أجتمع إليهما ثالثهم الضو السناري؛ هواء رطب عليل يحمل عبق بخور أيام فايتات هب من حيث تجلس زهرة أمام موقد القهوة. طافت غلالة من الطمأنينة فوق الحضور وظلل الرضا المكان، عند الفنجان الثالث كانت سنة من النوم قد أبحرت بفكري الحائر، نام كما ينام الطفل على طعم الحليب الدافئ، نام ثلاث ليال متواصلة، وأستيقظ من نومته تلك هاشاً باشاً متصالح مع نفسه ومتحقق من ذاته تماماً مثل ما أتاني اليوم في معية الضو السناري، الذي لم يأت ذكر له من قبل ولم يحدثني عنه أحد.

- أقسمت الحاجة آمنة والدمع يملأ مقلتيها بأن طيف الحبيبة أمه كان حاضراً.
الحق يقال؛ دهشت للتحسن الذي طرأ على حالته! وفي دواخلي غيرة مهنية أصابتني إياها مهارات الحاجة آمنة بت الأمين وقلت لابد في الأمر سُر ما.

- قال السناري: هذا سحر الألفة.
أصبتُ في مقتل؛ إذ كيف غاب عن بالي بأن الغضب يمكن أن يعالج بتغيير كآبة المنظر، والحزن والكرب يمكن أن يعالجا بتغيير المكان والزمان وفض مكنونات الذات، وربما البعد عن الناس، والهروب من الناس، وأحياناً بالهرب والقرب من الناس معاً.

قال السناري متواضعاً: يضع سره في أضعف خلقه!



للمزيد من االمقالات

للمزيد من هذه الاخبار للمزيد من هذه البيانات و المنشورات
الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر العام| دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر العام للنصف الاول من عام 2005

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |English Forum| مكتبة الاستاذ محمود محمد طه | مكتبة الراحل المقيم الاستاذ الخاتم عدلان | مواقع سودانية| اخر الاخبار| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2004
SudaneseOnline.Com All rights reserved