تساؤلات فى سياق (مشروع دولة الشمال) فى خطاب الطيب مصطفى وورقة عبدالرحيم حمدى عن مستقبل الاستثمار فى السودان.
شكل موضوع الوحدة فى السودان واحدة من الاشكالات التى استعصت على الفهم والتوقع وتراوحت بين احتمالات الوحدة بشروط جديدة او الانفصال وفقا لمبدا تقرير المصير الذى تضمنته بروتوكول نيفاشا الذى تم التوقيع عليه بين الموتمر الوطنى الحاكم والحركة الشعبية لتحرير السودان بعد مخاض عسير وهو مطلب ليس جديدا فى سجال الصراع بين الجنوب والشمال فقد طالب الجنوبيون قبل استقلال السودان بالحكم الفيدرالى ,والذى وعدوا بالنظر فيه عند وضع دستور دائم للسودان ,الا ان اللجنة العليا للدستور التى مارست عملها فى الفترة من 56 – 1958 رفضت مطلب الحكم الفيدرالى وتعللت بتخوفها من ان يشكل ذلك المطلب خطوة نحو انفصال الجنوب. وفى مؤتمر المائدة المستديرة فى مايو 1965 لمناقشة قضية السلطة والثروة لم تتمكن الاحزاب السودانية المشاركة فى الوصول الى صيغة محددة يتم بناء عليها العلاقة الدستورية بين المركز والاقاليم,ايضا استبعد تقرير لجنة مارس 1966 خيارى الانفصال والكونفدرالية واوصى الاخذ بمبدا الحكم الاقليمى وقد تم اخذ توصيات اللجنة لتشكل الاساس الذى بنيت عليه اتفاق اديس ابابا 1972 التى اوقفت الحرب بصورة مؤقتة منذ اندلاعها فى1955 بعد ان منحت الاقليم الجنوبى حكما ذاتيا الا ان ردة النميرى عنها بعد قراره بتقسيم الجنوب الى ثلاثة اقاليم لتستانف الحرب وتاتى قوانين سبتمبر 1983 ,وتبدا الحرب مرة اخرى وتتم اضافة بعدا جديدا للصراع وهو البعد الدينى لتاتى الجبهة الاسلامية الى السلطةفى 30 يونيو 1989 وتقطع الطريق امام اتفاقية الميرغنى – قرنق التى تم التوقيع عليها فى نوفمبر88 والتى من المفترض اقرارها فى 4يوليو 89 وتنص اهم بنود هذه الاتفاقية على تجميد قوانين سبتمبر وعقد مؤتمر دستورى فى 18سبتمبر 89 لوضع صيغة سياسية دستورية جديدة لحكم السودان. وتنقض الجبهة الاسلامية على السلطة وتضع الجنوب على راس اولوياتها باعلانها فى بيانها الانقلابى انها لو لم تات لوصل الجنوبيون الى الخرطوم وتلتقى بالحركة الشعبية فى اديس ابابا لاول مرة فى اغسطس 89 تحمل معا مشروعها الجاهز الذى سبق ان قدمته فى مؤتمرها الاول فى1987 ورغم فشل اللقاء الاول الا نه تم عقد اجتماع اخر فى نيروبى فى ديسمبر 89 وفشل اللقاء ايضا لان الوفد الحكومى لم يكن مفوضا فى اتخاذ اى قرارفيما يخص مبادرة كارتر وحمل مفاوضى الحركة الشعبية هذا التفويض وتتصاعد الحرب وتجتهد الجبهة فى الاستقطاب الدينى لها وجعلها حرب مقدسة تحشد لها كل صور مشاهد الفنتازيا من التراث الاسلامى وجديدها من اعراس الشهيد لتجعله واقعا تقنع به الشعب السودانى وخصوصا مسانديها وشبابها بمبرر فرضية الجهاد و تتحول الى حرب استنزاف لن تترك معادلة لتمييز الخاسر من الرابح ويظهر جليا انها لا نهائية مما تسندعى القناعة المشتركة لدى الطرفين انه لا جدوى فى الاستمرار وعليه فان وقفها اصبح امرا لا مفر منه ووضعت الحرب اوزارها ولكن يبقى السؤال قائما حول كيفية حكم السودان ووضع الجنوب وهل سوف تنفصل بعد الاستفتاء الذى ينتظر نهاية الفترة الانتقالية ام ان الوحدة هى التى سوف يتم التصويت لصالحه وبين هذه وتلك تظهر الرؤى النشاز من اثنين من عرابى المؤتمر الوطنى ,احدهما ينادى علانية بانفصال الشمال اما الاخر فهو يرتب للانفصال على استحياء وبرؤية استراتيجية اساسها الاقتصاد وعمادها الاستثمار ويغيب الموت جون قرنق الرجل الذى تحول فى عين الكثيرين منهم القوى المعارضة والشعب السودانى فى جعل الوحدة التى طالما راهن عليها بمشروع السودان الجديد يصبح اكثر قربا وتكبر معها الامال بجعلها واقعا معاش وتتصاعد تداعيات رحيله الذى تظمهر فى الفراغ الذى تركه واحداث غسطس الاسود جعلت الوحدة التى ينادى بها الكثيرون تصبح بعيدة المنال ام لم تكن مستحيلة خصوصا بعد اطلاق العنان لمشاعر العداء والكراهية بين الشماليين والجنوبيين فى الخرطوم والمدن الاخرى التى انتلقت اليها احداث الشغب.
وفى عمق هذه الاحداث يتشكل صوت منبر السلام العادل الذى ينادى بحق تقرير المصير للشمال والذى يتزعمه احد اقطاب المؤتمر الوطنى الطيب مصطفى وهو احد الاصوات الشمالية النشاذ التى طالبت بالانفصال صراحة وصبت جام غضبها وفشل( المشروع الحضارى) على الحركة الشعبية وضم اليه العديد من الاصوات التى ترى ان الشمال دفع ما فيه الكفاية وتحملت كثيرا ولكن جاء الوقت الذى صار فيه ان الانفصال هى الوسيلة الوحيدة لحل هذا الصراع وذلك لعوامل عديدة كالهوية ومكوناتها (الدين ,العرق والثقافة) المختلفة بين القطبين متناسيا ان هناك العديد من العوامل التى تجمع اكثر مما تفرق و هناك العدي من الشواهد لدول(الهند مثلا) حملت اديانا واعراقا وثقافات والعديد من التنوع فى داخلها ولكنها شكلت نسيجا متماسكا بتوافر الشرط الديمقراطى واعتمدتها صيغة للتعايش ولم تعمتد سياسة الاقصاء والتهميش او التمثيل الصورى للتنوع كما سائد فى السودان منذ الاستقلال .ويرى مصطفى فى دعوته لدولة الشمال ان هناك دولا اخرى تتشوق للانضمام لدولة الشمال المزعومة مثل تشاد ولكن ينطرح التساؤل داخل الشمالى الجغرافى عن هل دارفور بعد تم فيها ويتم فيها من اقصاء وتهميش وجرائم حرب من قبل الحكومة لديها الاستعداد او الرغبة فى الوحدة داخل دولة الشمال دون شروط جديدة تضمن لها عدم تكرار ما حدث ؟, وايضا مبررات النخب الشمالية التى ترى ان انفصال الجنوب سوف يعيد انتاج الازمة وسط الجنوبيين وهو تجاوز لمشاكل الشمال نفسها وهروب من سؤال هل الشمال كل متناجس وايضا تتقافز الشواهد وتقول غير ذلك فالدين لم يكن عاملا للوحدة فى الشمال رغم كل المزاعم فهاهى الحكومة ترتكب ابشع جرائمها باسم الدين فى دارفور والعنصرية تجاه الاخر الغير عربى لم تبرح مكانها رغم محاولات اخفائها.
وتاتى ورقة عبدالرحيم حمدى عن مستقبل الاستثمار فى السودان وتشكل القشة التى قصمت ظهر البعير وقد وجدت حظها من الرد والمداولة ولكننى اتناولها بعيدا عن سياق الراى فيها ودون تسميتها بالعنصرية او الساذجة فهى تشكل رؤية المؤتمر الوطنى الحاكم للفترة الماضية والقادمة وهى اكثر تطرفا من رؤية الطيب مصطفى فهى تضع مثلثا جديدا (الخرطوم – دنقلا – سنار) وهو شمال جديد داخل الشمال الجغرافى وتكشف حجم الرغبة فى التضحية بالجنوب الذى سوف ينفصل حتما وقد تتبعها دارفور وهى فى نظر حمدى نسبة مقدرة فقط من الموارد التى سوف يستعاض عناه بالاستثمار العربى الاسلامى ,فهو اقرب ما يكون الى الدولة الصهيونية الجديدة (عروبة +اسلام ) والمدهش انه تم تقديمها فى طاولة المؤتمر الوطنى لتسقط وهم الوعاء الجامع ولم تاخذ صفة السرية فهى عرضت للمناقشة العلنية وايضا يتبادر الى الذهن سؤال ما موقف اعضاء المؤتمر الوطنى منها وخصوصا من هم خارج المثلث الغريب .
واخيرا فان مطلب المجموعات او الاقليات التى تؤمن انها مهمشة او مقصية بالانفصال هو امرا ليس جديدا ولكن البدعة هى ان تطالب بها نخبة حاكمة تملك كل مفاصل الدولة السودانية اذا تم تسميتها بذلك مجازا ,و بقراءة لمجريات الاحداث فى السودان خصوصا بعد توقيع بروتكول نيفاشا ورحيل د.جون وما تلاها من تداعيات مأساوية شهدتها مدن الخرطوم ومدنى وجوبا وتاتى اختلافات انجاز بروتوكول تقسيم السلطة والثروة بين المؤتمر الوطنى والحركة الشعبية والتى لم تغير كثيرا فى الوضع فى السودان فالقبضة الامنية على كل مناحى الحياة(سياسية – ثقافية – اجتماعية ) ما زالت قائمة وظهرت للسطح العديد من المهوسيين الاسلاميين الذين ينادون بدولة الخلافة والتى على رأسها خليفة من قريش ومن يعيش فى هذا الواقع السودانى بنفسية مغتربة الى شعاب الجزيرة العربية ودولة المدينة والذين لا يرون الاخر المختلف عنه الا كافرا او صليبيا تجب مجاهدته !؟ وصوت السلاح ما زال عاليا فى دارفور وشرق السودان وتصاعد مشاعر العداء بين الشمال والجنوب فان اى حديث عن وحدة جاذبة فى غياب الخطوات الجادة والتضحيات التى يجب ان يقدمها الطرفين والقوى السودانية الاخرى لصالح مشروع الوحدة فان التصويت لصالح الانفصال فى الاستفتاء الذى يعقب هذه الفترة الانتقالية يصبح امرا لا يختلف عليه ولكن اذا تم انفصال الجنوب فهل تتحول دولة الشمال الى تلك اليوتيبا التى يحلم بها دعاة الانفصال .
محمد احمد النور