بسم الله الرحمن الرحيم
لعل ما يسلب لب المرء أو يجعله يضحك سخريةً، وشر البلية ما يضحك، أن يعرف أن الرعاة في جنوب كردفان حيما يلدون لأحدهم أبناءاً يهنئه أهله بقدم الراعى (الراعى ربنا يوريك دقنة)، أى ربنا يحفظه لك راعيك حتى تظهر دقنه، كناية عن الدعوة له بطول العمر، فهناك القليلون الذين يدخلون أبناءهم المدارس ولا يكملون مرحلة الأساس. فقد كان حظى أن أكون الطفل الخامس في الأسرة، وبحكم طبيعة توزيع المهام الرعوية الأسرية بين أفراد الأسرة فقد أكتمل توزيع نصابها قبلى في أسرتى الصغيرة، فقد سبقنى أربعة من الأشقياء الذكور ومثلهم من البنات، كما أقول أنا، أو السعداء كما يقولون هم عن أنفسهم، وما زلنا نتجاذب حوارنا الأسرى من الشقى فينا هل أنا الذى أصبحت أدجن بلاد الغربة وفيفافى الديار أم هم الذين أستقروا علي مهنة الأجداد المقدسة، الرعى، دون وعى بمستقبلهم في الحياة ومصيرهم الأقتصادى، فقد أخذ شقيقى الأكبر رعى البقر والثانى رعى الأغنام بينما شقيقاتى سوف يساعدن والدتى في أداء مهامها الأسرية والتربوية. فقد أصبح شخصى الشقى دون وظيفة تعول إليه أو يعول إليها. قرر والدى قبل ولادتى، أن حمل زوجته الخامس سوف يدخله المدرسة، إن كان ولداً ومازلت حينها نطفة لا أعرف ما ينتظرنى، وقد كانت والدتى البقارية المسكينة التى لا تعرف هجر أبناءها، قد بدأت ساعة تقطع أحشاءها، فصارت تدعو ربها أن يكون مولودها بنتاً حتى تتفادى أراسلها أو إرسالى إلي المدارس، وقد خاب فألفها، فقد ولدت أبناً، وبكت حرقةً علي ضياع حملها الذى غالبت فيه متاعب الحمل تسعة شهور عددا، وليس هى الوحيدة في تلك االسنة بل هناك بقاريات مثلها كثير، فقد شعر البقارة بأهمية التعليم ومستقبلهم الرعوى القاتم، فكلما جاء إلي والدى من يهنئه بقدوم الراعى الجديد، كان والدى يردد ليس راعى بل أفندى، فصارت كلمة الأفندى تلازمنى ولم ينقطع حبل سرتى بعد، أى أفندى هذا الشقى؟. كانت عزيمة والدى لا تلين في مقابل إلحاح والدتى التى ترى وغيرها من البقارة أن المدارس هى إنحراف عن النهج البقارى الرعوى في الحياة، وهى تعلم التميع الأخلاقى والأنفلات الدينى، كان والدى في المقابل يؤول علي تجربته الدينية، فقد أرسلة جدى إلي خلاوى القرآن للتفقه في الدين وليعلم الذين حوله أمور الصلاة، فقد كان ما عرفه والدى علي قلتة نسبة لعدم الإستقرار كان حافزاً ودافعاً إلي المجازفة بى وزجى في معترك لم يعلم عنه أو أخوته شيئاً، فقد كان دوماً يقول إن الحياة تجارب فقد آن لهذا الرجل أن يجرب مستقبله بطريقة تخالف مستقبل أجداده الرعوى، وحينما تتقاذفه الأنتقادات الحادة كان يقول لربما صار كاتباً لعمدتنا فنثق به خيرنا لنا من غيره من أبناء المدن الذين لا يعرفون عاداتنا وتقاليدنا الرعوية. فبدأت سنين عمرى تتقدم سراعاً، كغير أخوتى، كما تقول والدتى حتى حانت فترة رحولى عن الأسرة إلي محيط المدرسة.
يتحرك رعاة البقارة في جنوب كردفان، في العادة من الصعيد إلي القوز حينما تبدأ الأمطار في النزول، وقتها لم يكن العام الدارسى أكتمل بعد، ونسبة لظروق الذباب والأوحال والحشرات ماصة الدماء التى لا ترحم يضطر الرعاة إلي إخراج صغارهم من المدارس أو تركهم خلفهم في الصعيد مع الأهل المستقرين، ولكن سرعان ما يرفض صغار البقارة حياة الصعيد القاهرة نتيجة لظروف البعوض والذباب والأوحال والأعشاب الطويلة والأمطار الغزيرة مفضلين الرحول إلي الأقواز ذات الأعشاب القصيرة والمطارح الخضراء والمجالد ذات الرهود العذبة مياها ويفوح عطر أشجارها، تلك المفارقة البيئية القاهرة بين المرح والسمر تحت القمر في أراضى القوز الرملية مقابل الأنغلاق منذ الغروب في نواميس البعوض والتسربل في الأوحال حتى الركب والذهاب إلي المزارع من خلال أعشاب السافنا الغنية ذات الرطوبة والندى شكل تحدى بيئى لا يمكن الأنفكاك منه وقد عطل التعليم تماماً في حياة الرعاة. لم تكن محاولات توطين الرعاة لتجدى، فإن إرتباط حياة البقارة بنمط نزول الأمطار ومصادر الأعشاب جعل منهم شعب مقهورة إرادته فهو تابع لبهائمه، فإن شبعت إستراح وإن جاعت دج في أرض الله الواسعة يطلب مرامى المراعى الغنية في فيافي الصعيد. فقد فشلت الخطط التنموية تباعاً لعدم أخذها في الحسبان نمط حياتهم الرعوى وراحة بهائمهم، فظل أفندية المدن يأتون لدعوة الرعاة إلي الأستقرار وتعليم الصغار وترك حياة التجوال دون بديل مقنع، فصار الرعاة يتهربون منهم كما كانوا يتهربون من حملات الأتراك والأنجليز التى تقهرهم لأخذ زوامهلهم لترحيل مؤونة الجند والحملات العسكرية وجمع الأتاوات والضرائب المغرضة.
فقد أطل العام الدارسى الأول الكالح ، كما تقول والدتى، برأسه، وقد كانت ظعينتا في أرض القوز، جنوب غرب الأبيض في منطقة عضاى خديجة، تقع شرق مدينة كازقيل الشهيرة في كردفان، وتم تجهيز أبناء الرعاة بنواميس الباعوض وفراد الدمورية وملابس المدرسة وقليل من الكرسات والأقلام، فقد كنت سعيداً برؤية مغتنياتى الجديدة وأصحبت أرى أن لقبى في الأفندية بدأ يتحقق، فبعدما كان هاجساً، صار حلماً بفضل توعية والدى الذى لا يكف أن يشعرنى بأنى صرت مسؤولاً يمكننى أن أعتمد علي نفسى فى ترتيب أشيائى وشراءها من النقود التى صار يدربنى علي حسن حفظها وكيفية إستعمالها منذ فترة غير قصيرة، وفي الجانب الأخر كانت والدتى تتشنج أعصابها وتقاتل قتالاً مستميتاً من أجل أبقائى، فلم تترك مدخلاً إلا وهى محرولة إليه، والدها ، أعمامى، العمدة، الشيخ، الأجاويد وحينما أعياها التعب من عناد والدى وإصراره، ربطت حبل مصيرها مع والدى ببقائى عندها، فتأزم موقف والدى، وصارت ترتجل مواقفه معها بين الشدة واللين، بين الترغيب والترهيب، وهكذا ظل بيتنا يصبح ويمسى علي مشاكل عودتى إلي الصعيد حتى جاء يومنا الموعود، وكانت عمتى مثلها والخالة حبيبة أم صديقى الذى سوف يراقفنى، وفي الصباح جاء العم الشيخ الحسب بريمة، فأخذ والدى أشيائى ليسلمها له، فهو يخرجها ووالدتى تردها إلي داخل المنزل حتى غضب والدى وتدخلت جدتى وأنتزعونى إنتزاعنا من حضن أمى إلي مكان لا أعرفه في أدغال جنوب كردفان موغل في الوحشة من كثرة الأحراش والباعوض.
كانت الرحلة تستغرق يومين أو ثلاثة أيام بالعربة ثم ننهى اليوم الرابع سيراً علي الأقدام ، فقد كانت جنوب كردفان مغلقة تماماً بالأودية التى تخر مياهها والأمطار التى تهطل ليل نهار، ولم يكن هناك أى طرق مسفلته، فقد غادرنا من مدينة الأبنوية جوار كازقيل متجهين نحو الدبيات ثم الدلنج التى وصلناها بعد سته ساعات حتى أوشكت الشمس علي الغروب، وقد كان وادى الدلنج أول معضلتنا بعد خور شوشاية الذى ممرنا به بعد عناء ولكن بسلام، خور الدلنج كان يطفح بالمياه وليس به كبرى في ذلك الوقت وأراضية طينية لذبه، فقد تجمعت العربات تنتظر في صبر ممل أن تنزل مياهه إلي مستوى يسهل عبورها، ولكن كانت السحب التراكمية الضخمة التى تمخر عباب السماء لا تكل ولا تمل هضولاً طوال اليوم وتعبى في فروعة ورافده مياه طمي داكنة كلون السحاب أو أديم الأرض، حينها قد أخذت ناظرى ملامح الصعيد الوعرة من الغابات والأعشاب ومناظر أبناءه الضعاف منفوخى الكروش كالذى يصاب بداء الأستسغاء، فكنت أسأل عمى الحسب بريمة ببراءة الأطفال لماذا هؤلاء الأطفال هكذا!، وكنت لا أدرى بأن البعوض الذى ينتظرنى قد جفف منابع الدم في عروق أورديتهم وشرايينهم ووجبات الصعيد الخالية الدسم أفقرت دمهم، كل ذلك ينتظرنا دون وعى، يا إلهى. أستمرت رحلتنا حتى غابت الشمس ونذلنا لننام في قطاطى علي قارعة الطريق تمتلئ بجيوش البعوض الجراره التى تنظر عاثرى الحظ مثلى، فقد أوجعنا عضاً ولثعاً ، فجلست القرفضاء في ليل دهيم أترقب طنين الباعوض لأهشه عنى، ولم تطل حالتى الموحشة طويلاً حتى صحى أقرانى، وفعلا مثلى دون أن نتحدث إلي بعضنا، فقد أصابتنا غربه وحشة وكربة لم نعدها من قبل، كانت الأمطار تهضل متفرقة خفيفة ثم غزيرة، تأتى الحيوانات كالحمير والغنم تحاول أن تدخل كوخنا فيطردها رجل نائم جوار المدخل، وكنا نلتحف جولات بالية وذات روائح عتيقة تنم إنها كانت لكل مسافر مثلنا، فصحى عمى بعد أن أخذ قصداً مقدراً من الراحة مع صعوبة الأحوال، فصار يوقد ناراً من روث الحيوانات ليبعد عننا البعوض والهوام وهكذا ظللنا ليلتنا التى وودت إنقضاء أجلها بفارق صبرى حتى صاح آذان الصباح ينادى حى علي الصلاة في القرية المجاورة وصحى ركاب العربة وغادرت بنا تشق جبال الكرقل، الغلفان، كيقا تميرو، كيقا جرو، حجر الدليب، الكويك، تافيرا وغيرها حتى وصلنا مدينة كادقلى التى تحفها الجبال في شبه جزيرة مغلقة ومفتوحة إلي الأفق فقط من ناحية الشرق والجنوب الشرقى، فقد قابلنا كثير من الأهل المستقرين، الذين كانوا يزورننا في البوادى والفرقان من قبل، فقلت وحشتنا، وقد كان حالنا بعد الأعياء والتعب ينم عن نعيم ظاهر وطيب مأكل بائن مقابل حالة المستقرين التى تغنى عن سؤالهم. وفي يوماً الثانى بعد أخذنا قصد من الراحة وتبطع عمى فقد حانت رحلة أخرى أشد عسراً من سابقتها، فقد كانت قريتنا تبعد من مدينة كادقلى حوالى خمسة أربعون ميلاً، شمال شرق كادقلى، سوف نقضيها مشياً علي الأقدام ونحن أ[بناء السته إلي سبع أعوام – إنها رحلة عذاب أخرى من أجل أن أكون أفندى. وبدأنا مسيرنا منذ أن أنبلج نور الصباح نشق فيافى الجبال، اللغورى، صبورى، الرصيرص، التاش، وغيرها حتى خرجنا في سهول وهضاب السافنا الغنية نعبر الأودية علي الحبال، فقط تقطعت أرجلنا وأحشاءنا من المشى، مشى سيراً علي الأقدام، لم ألفه قط في حياتى القصيرة التى بدأت تتفتح علي الصعاب منذ نعومى أظافرى، فقد كانت تنقلنا الزوامل والدواب علي ظهورها وتسقينا من لبنها في حلنا وترحالنا، أما اليوم لا دواب لا ألبان، بل مشى سيراً علي الأقدام حتى وصلنا القرية بعد الغروب وتجمع عندنا الأهل يحتضنوننا بكل رأفة وحنان، في هذا المكان العفر وأهله كالمرضى سوف أقضى ثلاثة أشهر عجاف قبل عودة والدتى إلي الصعيد.
نواصل في المقال القادم، من سلسلة التراث والبيئة من أجل فتح عيون القراء علي معاناة أبناء البقارة بجنوب كردفان من أجل التعليم.
بريمة محمد أدم.
من أبناء الحوازمة بجنوب كردفان
مقيم بالولايات المتحدة الأمريكية، واشنطن دى سى.
27 نوفمبر2005