هاملت، عطيل، ماكبث، شايلوك المرابي، أنطونيو المؤمن هي الجزر المعرفية التي شيد على شواطئها-هذا الصحفي الأمريكي الذي أضحى اسمه في فم الزمن- شيد مجده الأكاديمي والمهني حيث مكث ما يقرب من ربع قرن في توظيف مقولات وآليات شكسبير الدرامية في تشكيل وعي طلابه على مدرجات كلية أسميثSmith College بجامعة ماساسوتشMassachusetts الأمريكية العريقة.
في غير ضجة تنفس أريك ريفز Eric Reevs صبح الحياة في ربيع عام1950 بأحدى ضواحي ولاية كاليفورنيا من أم انجليزية وأب كندي هاجر لأمريكا بعيد الحرب الكونية الثانية، تحصل على البكلاريوس في الفلسفة من كلية وليامز في عام 1973م ثم على درجة الدكتوراه في الأدب الانجليزي من جامعة بنسلفانيا في عام 1981م حيث تخصص في أدب عصر النهضة Renaissance وتحديداً أدب وليام شكسبير، متزوج من السيدة نانسي ريفز وله منها بنتان.
الصدفة وحدها قادت قلم هذا الأكاديمي إلى فضاءات السودان المتلبدة بالغيوم. ففي ربيع عام 1999م وفي جلسة عشاء هادئة - تخللتها أكواب من البراندي الألماني المعتق- التقى تحت سقف احدى صالات مدينة نيويورك بالسيدة جولي تانغي Joelle Tanguy مديرة منظمة أطباء بلا حدود أنذاك والتي وصفت له بأسلوب شاعري حزين كيف أن الشيطان في السودان وجد عملاً لأيادي المجاهدين الأصوليين العاطلة حيث القتل والتطهير والتهجير يجري بدعم وتشجيع من حكومة ثيوقراطية عجز المجتمع الدولي والضمير العالمي عن كبح جماحها لذا –والحديث ما زال للسيدة جولي- أن المنظمة بصدد وقف عملياتها والانسحاب من السودان خاصة وأن المنظمة لا تود مصارعة الشيطان في عقر داره ثم همست في أذن اريك قائلة السودان في حاجة لبطل حقيقي "Sudan needs a champion" هنا التمعت عينا الصحفي ثم قال بحزن"I would see what I could do " هذا الوعد العارض والحزين كانت البداية في تعاطيه مع الشأن السوداني المعقد.
منذئذ احتل السودان – خاصة قضايا الحرب والسلام – مكاناً محورياً في أدبياته فقاد أشرس وأطول حملة صحفية ضد نظام الجبهة الاسلامية حتى ذاع صيته – خلال أشهر – بأوساط كبريات الصحف الأمريكية إذ ركز جل اهتمامه وصب جام غضبه على شركات النفط والتي -في تقديره الشخصي- ساهمت على نحو مباشر في إطالة أمد هذه الحرب الجهادية البربرية وذلك بتوفيرها العائدات المالية اللازمة ولعل ما يعزز ويبين مدى تأثير كتابات اريك هو ما قاله المستشار القانوني لشركة تلسمان الكندية ببورصة نيويورك حيث اعترف بأن السبب في انسحابهم من السودان يعود لكتابات هذا الأمريكي الكندي الأصل:-
"For six years the most passionate, meticulous researcher on the atrocities committed on black Africans in Sudan by Khartoum government has been Eric Reeves a professor of English at Smith College "
.
يعتقد أريك أن الكارثة السودانية هي من صنع الإنسان ثم تعمقت بفعل عوامل سياسية ودينية وعرقية واقتصادية في ظل غياب تام لحكم القانون وعدم كفاءة أدارية وسياسية وبالتالي فإن المخرج الأمثل هو في إقامة حكم راشد يحترم أرواح مواطنيه ويلتزم بالمواثيق الدولية ويؤمن بقدسية القانون.
كتب أريك قائلا "أن الظلم الإنساني في أي مكان يشكل خطرا على العدالة الإنسانية في أي مكان". إنطلاقا من هذه القناعة قام برهن منزله الريفي لصالح بنك عقاري في مقابل قرض يعينه على التفرغ ثم بدأ في الكتابة حتى أضحت مقالاته وتحليلاته العميقة عن السودان مراجعا لصناع القرار في مختلف دوائر الحكومة الأمريكية بل وحتي مراكز الأبحاث.
أكبر انجاز حققه أريك- وهو ما يجهله الكثيرون- هو انه الذي أقنع اللجنة البرلمانية المختصة Caucus بالكونغرس الأمريكي لتمرير قانون سلام السودان الذي وقعه الرئيس جورج بوش في 21/10/2002م والذي مهد بدوره لاتفاقية السلام الشامل في يناير2005 ما حدا بالراحل المقيم الدكتور جون قرنق لدعوته حضور حفل توقيع الاتفاقية بماشاكوس.
على صعيد أزمة دارفور فان اريك ريفز هو أول صحفي استخدم عبارة "الإبادة الجماعية" لوصف ما جرى ويجري بدارفور ودافع عن هذه العبارة مقدما الحجة تلو الحجة والدليل بعد الآخر حتى إضطر الكونغرس الأمريكي لتبني هذا المصطلح وإستخدامه في مضابطه الرسمية ومن بعده الرئيس الأمريكي فالبرلمان الأوربي كما كان تأثيره واضحا علي أعمال اللجنة الدولية لتقصي الحقائق بدارفور والتي تشكلت بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1564 في سبتمبر من عام 2004 حيث أعترف رئيسها الإيطالي Antonio Cassese بدوره.
منذ بداية الأزمة وحتى الآن كتب اريك أكثر من 84 مقالا وما لا يقل عن 56 عمودا بجانب العديد من المحاضرات واللقاءات التلفزيونية والإذاعية عن دارفور ودرج على إرسال هذه المقالات عبر البريد الالكتروني لكبار المسئولين بوزارة الخارجية الأمريكية وأعضاء الكونغرس والناشطين في مجال حقوق الإنسان حتى غدا حاليا أفضل وأوثق مرجع أمريكي مستقل غير حكومي عن أزمة دارفور ويكاد يذهل المرء لغزارة معلوماته ودقتها.
في 21 يوليو الماضي أستدعته لجنتا حقوق الإنسان وقضايا المرأة بالكونغرس الأمريكي لحضور جلسة إستجواب Congressional Briefing بشأن قضية دارفور كما إستدعته لجنة الخدمات العامه بمجلس ولاية ماساسوتش لجلسة مماثلة في 17 نوفمبر الجاري كل ذلك في سياق الإجراءات التشريعية الهادفة لتمرير قانون سلام دارفور.
وبالنظر لأهمية إستجوابه بمجلس الشيوخ نورد ملخصا لإفادته والتي تمثلت في النقاط التاليه:
- تشكيل حكومة الوحدة الوطنية بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لا ينبغي أن يقودنا لإستنتاجات خاطئة وسطحية بشأن إحتمال تحسن أوضاع الحكم بالسودان وبالتالي في دارفور حيث أن الحقيقة القائمة هي أن الجبهة الأسلامية القومية ما زالت تهيمن علي مفاصل السلطة وليس هناك ما يحملنا علي الأعتقاد بأن الجبهة ستغيير سلوكها.
“The inauguration of a Sudanese government of National Unity should not be the occasion for facile or expedient conclusions about the future of Darfur… we must be honest about the dominant power in this new government, the National Islamic Front NIF”
- رغم أن المجتمع الدولي طالب أكثر من خمس مرات بضرورة نزع سلاح مليشيا الجنجويد ورغم أن الحكومة السودانية وعدت بذلك مرارا وتكرار إلا أنها ما زالت تراوغ وتخادع ولا يتسني إجبارها إلا بموجب إجراء حاسم.
“On five separate occasions, in five separate agreements, Khartoum promised to disarm or neutralize the Janjaweed….. there is no evidence that the National Islamic Front has any intention of honoring its agreements”
- كرر أريك إعتقاده بأنه في حال غياب تدخل دولي فاعل وعاجل فأن الأعمال الوحشية والبربرية ستستمر وربما تتصاعد علي المدي القريب.
- في إستجوابه الذي إستمر أكثر من ساعتين شكك إريك في قدرة الأتحاد الأفريقي مضيفا بأن الأعتماد الكلي علي الأتحاد الأفريقي لتوفير حماية للمدنيين ما هو إلا تهرب سافر من مسئولية إيقاف عمليات الإبادة الجماعية.
“I believe equally that exclusive reliance on the AU is a cynical refusal of our responsibility to stop genocide”
- إن أصدار تشريع مماثل لقانون سلام السودان لعام 2002 وتحديدا المصادقة علي مشروع قانون سلام دارفور لعام 2005 هو أقصر الطرق لإجبار الحكومة السودانية علي التفاوض بجدية والتوصل لحلول مرضية.
- تفعيل إجراءات محكمة الجنايات الدولية وحث المحكمة للأسراع في تحقيقاتها تمهيدا لأستصدار أوامر القبض يعتبر أمر جوهريا ولغة تفهما جيدا الطغمة الإسلامية الجاثمة علي صدر الشعب السوداني لقرابة العقدين.
قد يضحي الأنسان من أجل معتقده ولكنه نادرا ما يستشهد من إجل إقامة الدليل علي صحة قضية سياسية، بيد أن أريك الذي يستعد الآن للسفر الي دارفور يؤمن بغير ذلك.
عبدالرحمن حسين دوسة