مدخل :

مثل غيري من الفتيان من بني جيلي نلعب ونلهو و نحن في الصفوف الاولية من
المرحلة الابتدائية . من الاشياء التي كانت تلون تلك القرية الحبيبة قريتي ذلك
الرجل البسيط الذي يدعا " عبد الله الحداد" الرجل الذي تمتد قامته لتعبر عن
الشخصية الافريقية و هو رجل في الاربعين من عمره يحمل شنطته الحديدية و يرفع
صوته مسببا ازعاجا و ضجيجا بجلجلة معداته الحديدية. كان يصنع الآنية الحديدية و
المواقد لاهل القرية و هو جالسا في التراب بلامبالاة و لعابه يسيل من مرة لاخري
و كذلك انفه . و كان يتقاضى اجرا ضعيفا . و هو سائحا في البلاد لا يلوي على شيء
تاركا زوجته و اولاده و اهله وراءه و هو غائب عنهم لايقطعه الشوق بل الحاجة و
العوذ و الفقر مبتعدا عنهم شهورا متتالية .

تحليل :
لم تكن هذه مقدمة لقصة محبوكة من نسج الخيال او الفنتازيا و لكن ملمح بسيط
لرجل بسيط من المجتمع السوداني له دلالاته و له مغذاه . ربما اختمرت فكرة هذه
الذكرى في ذهني و هي تنادي في ذاكرتي أطياف المجتمع و افكاره و صراعاته .

منذ ان انفك المواطن السوداني من الصراع البيولوجي و هو يتطور انثروبولوجيا الى
ان شكل ملمحه الحقيقي و الذي مر عبر عدة عصور و صراعات . و في التاريخ الحديث
منذ تكوين الممالك و الدويلات كانت تقوم مرة علي نهج ديني ومرة على نهج مملوكي
الا ان ظهرت فترة الممالك و الدويلات الاسلامية نتاجا للحراك الفكري و الديني
الذي انتظم الاقاليم المتاخمة للسودان . الا ان ظهرت الاطماع التوسعية للدولة
العثمانية و الاطماع الاستعمارية في نهايات القرن التاسع عشر و اصبح السودان
يرزح تحت نير الامبراطوريتين العثمانية و البريطانية و ظل السودانيون يحتكلون
اقسى انواع الحكم من استعباد و قرصنة . فظهرت الحركات الوطنية و استطاع السودان
ان ينفك من هذا الظلم في النصف الثاني من القرن العشرين ونال استقلاله في 1956م
. و لكن توالت الاحداث في المسرح السياسي السوداني من حكم ديمقراطي الى آخر
انقلابي عسكري و انتفاضة شعبية فاصبح سمة السودان الحقيقية و غلب الساسة اشباه
الديناصورات المنقرضة على روح الامن في داخل المواطن . لم يكن المواطن الصابر
ان ينعم بممارسة الديمقراطية بكمها و نوعها الا ان يقلق امنهم اشتات العسكر
ليقتلوا الديمقراطية قبل ان تخطو خطواتها الاولى و الناس يتوقون اليها ما بين
الحقيقة و الخيال فيهجموا عليها كاذبين باسم الوطن في هزيع الليل لينقضوا على
رقاب المواطنين الابرياء .

عشت انا و اقراني في حقبة عسكرية بائدة منذ ميلادي انقض على الحكم فيها عسكري
يخدم طموحاته و افكاره الصبيانية و يقتل في اعيننا ساحات الامل و التطلع الى
المستقبل الزاهر.قد اجهض حقبة ديمقراطية مهرت بدماء شهداء "اكتوبر" الاغر . ذلك
الرجل هو جعفر نميري. حكم السودان بقبضة من حديد و سالت الدماء مترعة فقتل
افذاذ البلد و مفكريها مرة تحت غطاء الدين و مرة تحت غطاء التخريب . و تقلبت
نظريات الحكم عنده من تحالف مع الشيوعيين ثم ركلهم و مرة الاسلاميين و ركلهم و
مرة مصالحة و طنية وفي عهده كانت حرب الجنوب قد استيغظت من جديد بيد
الاسلاميين . و رغم اننا كنا صغارا لكنني نسمع من يتغنى و ينشد باسم الثورة و
قائدها " بالروح بالدم نفديك يا نميري" و هل الفداء الا للوطن ؟ امثال هؤلاء
الذين فرخوا اشكال التعذيب و بيوت الاشباح في مجتمع لم تكن هذه سمته . و لكن من
سوالب الثورة المزعومة اننا ما زلنا وقتها في غض سنينا لكنها اصبحت ذاكرة مريضة
لشباب يعشقون السلاح و غابت عن خلدهم برحات السلم و الحرية او انها اصبحت كسيحة
. و من فرط المصيبة ان العجزة و البسطاء و كثير من اقراني كانوا يرون ان كلمة
"نميري" ارتبطت بكل من يحكم السودان كانه لقب رئاسي ليس لانه عادل بل لانه مرعب
و مخيف و تلاشت افكار الخلاص فتضخم الخوف و اصبح الناس كالاقزام . الى ان جاءت
انتفاضة رجب/ابريل المباركة وذهب ارباب الاتحاد الاشتراكي في مهب الريح هكذا
يتعلمون من الشعب المعلم ان الظلم لا يدوم ذلك الشعب الذي اخرج اكبر
امبراطوريتين من اراضيه ليس بصعب عليه ان يزيح عصابات العسكر. هكذا تنبني
التربية السياسية و الفكرية في اذهان الشباب و الصبيان . و لكن الحكومة
الديمقراطية الثالثة لم يكتب لها الحياة طويلا بعدما ان عشق الاسلاميون سبيل
الحماية بالعسكر و لانهم يريدون فرض افكارهم بالقوة و السلاح لا بالعقل و
الفكر. بعدما ان حبك احد ديناصورات السياسة و تلامذته النهمين الشيخ حسن
الترابي حبكته لكي يجهز علي تلك التجربة الوليدة لان حب السيطرة عندهم و حب
المال ما دفعهم لذلك .
و هذه الحقبة التي عشناها بعد تشكل و عينا السياسي و المعرفي جاء العسكر مرة
اخرى و لكن هذه المرة جاءوا بفنون جديدة لم يعرف السودان قط مثلها في ليلة كاد
السودانيون ان يداعبوا احلامهم حقيقة . فاصبح الشرفاء مشردين مهددين في امنهم
. و اصبحت ليلة الثلاثين من يونيو 1989 م ليلة يتشاءم منها ابناء جيلي مهيضي
الجناح و شهد السودان فرقة وشتات و هجرة خارجية لخيرة ابنائه لم يسبق لها مثيل
لان قادة الثورة اقصايين و يشبهون العسكر فما اورثوا السودان الا الفقر و القيم
المتدنية . نصبوا انفسهم حماة الدين وهم يعلمون جيدا ان الاسلام لم يدخل
السودان الا على ايدي رجالات الطرق الصوفية ثم انتشر . هل هذا الذي يريدون نشره
هو دين "مودرن" حديث . انك ان نصرت الناس فذلك هو الدين و ان عدلت فهو الدين .
و ان هم احساسك بالعدل الخالص قبل الايديولوجيات فهذا هو الدين . لا تعلم الطفل
و ترسله الى المدرسة و هو عاريا لتخرج اجيالا مهزوزة مرعوبة خائفة لا ايمان لها
تخرجها من دائرة التوحيد العقدي و الفكري حتى تنعم بالتبرك بمعتقداتك . حتما
تعرف انك زائل و حكمك زائل لكن بعدما ان تخلف خيبة الامل و النهوض كالمهزوم في
المعركة الكسول عن ما لا يقنع به تحت طائل الخوف و الارهاب . و لكن عرفنا ان
الحق ينتصر دائما فلحقتهم اللعنة فتفرق المفكرون الراشدون من لا يضحك عليهم فهو
منهم . كالمعلم و المربي الذي فضحته القرية عندما وجده تلامذته يمارس الرذيلة و
يشرب الخمر ربما تجلس عنده في الفصل و لكن لا تحترمه و لا تفهم منه و لا يستطيع
ان يدرسك عن القيم و الاخلاق .... و لكن بعد عذاب الضمير ترك القرية فارا
بجسده . و اصاب الحركة الاسلامية الزعر و تفرقوا الى صفوف لانهم ليس لديهم
ايمان راسخ في مساعدة الشعب بل ينظرون من الداخل الى دواخلهم و اي دواخل تلك
التي تقتصر على الفرد دون الجماعة ؟ و اي ثورة اسلامية يعنون ؟ الا ان يكونوا
قد اتوا من كوكب المريخ انهم يضلون الطريق فاختلف قادتهم فتفرقت بهم السبل و
بقى الذي تمسك بالحلم الكاذب . اي دولة اسلامية تبنى على وسخ الطرقات و الارصفة
؟ و اي دولة اسلامية تبنى على فقر الشعب ماديا و معنويا و الذي تهون عليه نفسه
من اجل القيم ؟ ربما يكون هذا ميكافيلي قد اتى ليجدد البيعة من جديد في اوساط
الشعب الطيب . وكان جزاء سنمار للترابي و اعوانه فاودعوا في السجن . انها
تذكرني بجريمة "ليدى ماكبث" و " محرقة اسماعيل باشا " و كما تدين تدان . و
الجزاء من جنس العمل . فعرف الناس متيقنين ان الثورة تاكل شيوخها ليست ابنائها
. اي ثورة تلك التي لا تحترم شيخها ؟
اليست هذه فضيحة اخلاقية ؟ قارنوا معي و احسوا من يتصور ان يطرد اباه من بيته
؟ ان اعجبك هذا الفعل فهو غير جدير بالاستنكار و لكن لو انك استعجبت فانظر الان
هذا هو الذي وقع بين الشيخ و تلامذته . ولكن امر الهزيمة هي من التلميذ لذا
ثار الشيخ الوقور . و لكن في رأيي ان الشيخ لم يحسبها جيدا كان عليه ان ينام في
بيته فهو في سن المعاش و يكفية ان يموت بكبريائه " موت الله" بدلا من ان يعذبه
تلامذته و ليحتفظ بشيء من كرامته التي بقيت لابنائه و ليصبح هو الكبير مهما فعل
الصغار . يبدو انهم يفتكرون ان السودان بقايا من ميراث الاتراك و الباشوات ام
المماليك . و بعد عشرة سنوات من عمر الثورة الضالة يفترق ابنائها مما يؤكد و
يظهر جليا الغرائز الفطرية و السلوكية الغير مهذبة في تناطح ابنائها من اجل
السلطة . و ناهيك عن سياسات العزلة الدولية و الاقليمية و الداخلية فكان هذا
سبب وجيه للتآكل من الداخل . و ما احوجهم الى المجتمع الدولي الذي كانوا بالامس
ينوون ان يدخلوه الاسلام عنوة حتى و لو استخدموا "الخزران و السياط" و لكن
نبوءة شيخهم قد ذابت في ضنك الحصار و لم يلقى شعبنا الا الاذلال و الهوان
فشبعوا هم و تجارهم و مات ابناؤنا في ادغال الغابات . و لكن سرعان من ركعت صوب
البيت الابيض بدلا من ان يركع تجاهها . و هكذا بسبب سياسة العزلة و نرجسية
المغامرين و تضخيم الذات لدى الشباب مشرإب الى العلا من على بالونات فقاعية
هلامية الافكار. هذه هي التجربة الاسلامية الفاشلة . ليتهم لم يسمونها اسلامية
لان الاسلام في السابق لم يفشل بل غذا العالم . هذه هي الحركة التي البسوها
ثوب الفقاقيع و الغموض السياسي وتحولت الى دولة و سلطة براجماتية تاله المال
. يا لسخافتهم انهم عازمون على نبوءاتهم و مصرين على مغالطاتهم السلوكية التي
غلبت رغبة العلم و الدين و المنطق عند علمائهم ومفكريهم فاصبحوا اشتات افكار.
وعاد شيخهم من جديد كالحمل الوديع يلوح بكلماته و عصاه غير خائف من الثعلب و
لكن بانكسار غير معهود . الهذا الحد يكون الهوان من اجل السلطة ؟ وجاء مرة
اخرى في ثياب الماكرين يستعطف الشعب و يلبي بعض ما يحتاجه من تنفيس وتفريغ
سياسي .

وفي نهاية هذا السرد تعرفنا على السلوك الذي دام اكثر من خمسين عاما و من خلاله
الوطن يتمزق من كل اطرافه و الهوية تصطدم بحائط صد منيع من صنع البشر الذين
يعيشون مغالطات تلك الهوية . و تشريد للفكر المستنير . و الذين كانوا بالامس لا
يقنعون بما دون النجوم الان هم دون البطاح . اليس غريبا ان تدعون لدين مات من
اجله الشباب و ترملت النساء الجميلات اللائي حظين بالوزارات و العرس و تكرسوا
كل اوقاتكم من اجله اكثر من 45سنة في سياق تقلبات الحركة الاسلامية من اسم
لمبدا اليس غريبا ان تدخلون في دين امريكا و تحجون للبيت الابيض ؟ هذا مرده
لعدم نضج الحركة الاسلامية المندفعة بعاطفتها و تثير عاطفة الشعب الدينية و هذه
هي الخطورة . و النتيجة هي ان شيخهم قد اعترف عليهم بالكثير و ذكر انهم قد
اخطأوا و انهم غير ناضجين .
و لكن اللعنة قد لحقته ... بالله عليكم اين الوفاء ؟ لقد قتلوا تاريخهم الفكري
و مرجعهم الايديولوجي و مشرعهم الذي امضى حياته في خدمة عقله و اعمال فكره .
الا يجدر به ان يرجع لهم بدلا من الفضائح ؟ بعد ما تحالف مع القوى الوطنية ضد
تلامذته و هذا في حقه غير جميل . ولكن المثل السوداني يقول: " العرجاء لمراحه"
و من ثم فليكن " تابو" “taboo”
الحركة الاسلامية . قد ادرك رجال الحركة الاسلامية خطورة وقوفهم ضد امريكا و
عرفوا انهم اول مرة ياتون للحكم لذا فقد تسرعوا و هم لايساون القليل بالنسبه
لامريكا التي اخافت كل حكام العرب و المسلمين بعد غذو افغانستان و العراق .
كان تعاملهم مع الصين اشبه بالذي جلب له وساطة اقتصادية لها شراكة ضخمة مع
امريكا في حين ان شيخهم كان يتذلل لامريكا سرا . و لكم هذه هي امريكا قائد
الامبريالية و الرأسمالية و البراجماتية العالمية تجد الذرائع للدخول من اوسع
الابواب للسودان في ظل و على مرأى شيوخ وشباب مهووسين يريدون تغيير العالم
وهم لم يتعدوا الدرس الاول في السياسة و الدبلوماسية التي قادها شاب كانوا
يقولون عنه " انه يغرد خارج السرب " في احدى صحفهم وزير خارجيتهم السابق ولم
يكن نجاحه الموهوم الاخير الا لان امريكا قد رضيت عنهم بعض الشي و املت عليهم
بعض بنودها فاصبحوا يحاربون الارهاب الذي هم من يمثلونه.