بقلـم: مأمور أوول مأمور جوك، السعودية
[email protected]
فيما كانت الاستعداداتُ الشعبيةُ والرسميةُ تجري على قدمٍ وساق بين كلٍ من مدينةِ رمبيك في جنوبِ السودان والعاصمةِ السودانية الخرطوم لاستقبالِ الزعيمِ الوطني الفذِّ الدكتور جون قرنق دي مبيور الرئيسِ والقائدِ العامِّ الراحلِ للحركة الشعبية لتحرير السودان وجيشِها، الذي مثَّلَ قدومُه إلى الخرطوم بدايةََ مرحلةٍ جديدةٍ من تاريخنا الحديث، وقد كان الاستقبال المهيب والحفاوة البالغة من جماهير شعبنا الوفيـة بالعودة الظافرة للمناضل الوطني الجسور ورفاقه الميامين استفتاءً حراً ومباشراً على ثقتها الكاملة في قيادتـه ومراهنتها على سداد رؤيته. وبأدائه القسم الرئاسي أُذن بتدشينِ أولى خطواتِ التنفيذ الفعلي لوثيقـة اتفاق السلام الشامل التاريخية، وبإنهاءِ فصلٍ آخرَ من فصول الحرب الأهلية الطاحنة؛
في ذلك الجوِّ المفعمِ بالأملِ والتطلعِ لغدٍ جديدٍ تشرقُ فيه شمسُ الحريةِ والعدالةِ والمساواة -بعد أن طال على شعبنا الصابر ليلُ القهرِ والظلمِ والاضطهاد لأكثر من نصفَ قرنٍ من الزمان- كنتُ حينها أهتمُّ بمطالعة كتابٍ بعنوان: جنوب السودان، وخيارات الوحدة والانفصال خلال الفترة من 1995إلى 2002م، الذي أعدَّه الباحثُ السوداني د. سراج الدين عبد الغفار وقدَّم له البروفيسور حسن مكي محمد أحمد.
وقد تساءلتُ مراراً عن سرِّ تحديد الكاتب للفترة من 1995م إلى 2002م نطاقـاً لدراستـه إلا أنني فوجئت -بعد أن أعيانيَ السؤالُ في استنتاج جوابٍ شافٍ_ بترجمة إنجليزية مختصرة لموضوع الكتاب تفيد بأن الدراسة تتناول الفترة من العام 1955م إلى 2002م والتي أحسب أنها الفترة الممتدة من تاريخ اندلاع حركة ثوار "الأنيانيا" الأولى إلى لحظة توقيع بروتوكول مشاكوس الإطاري؛ ولعل ذلك هو عينُ مقصدِ الباحث إن لم أكن قد أخطأتُ التقديرَ.
عموماً ظَنَنْتُ أنَّ الكتابَ سيقدمُ جديداً بحسبما أشار البروفيسور حسن مكي مقدماً لـه قائـلاً بأنـه: "يعدُّ دراسةً في حقل الدراسات المستقبلية الذي يسبقُ الحدثَ بدراسةِ تاريخِهِ وتطوراتِهِ ثم قراءةِ التداعياتِ والمآلات" وقد خابَ ظني إذ وجدتُه يعجُّ بجملةٍ من المغالطاتِ والوقائعِ التاريخيةِ الملفَّقَةِ التي لا تمُتُّ إلى الحقيقة بأدنى صلة، فضلاً عن أن يصدر ممن تفترض فيه الأمانةُ العلمية والحيادُ والموضوعية،ُ إضافة إلى ما يزخرُ به الكتاب من الأخطاءِ النحويةِ والإملائيةِ التي لا يتوقع أن تغيب عن فطنةِ القارئ ناهيكَ عن أن يكون الكتابُ أصلاً قد خضعَ للمراجعةِ والتدقيقِ والتصحيحِ من قبل أستاذة نجبـاءَ تطرَّق الكاتبُ إلى ذكرهم في إهدائه الذي صدَّره الكتاب.
وقد هالني أن عنوانَ الكتاب يُجانبُ الهدفَ الرئيسَ الذي تصدَّت الدراسةُ موضعِ المقال للإجابة عنـه حيث أورد المقدم له: "...وقد تصدتِ الدراسةُ لأهم سؤالٍ يشغلُ بالَ العقلِ السياسي السوداني بل الإقليمي والعالمي، وهو المتعلق بالمستقبل السياسي لشمال السودان، وفرص الوحدة وخيارات الانفصال" ولِكَمْ تمنيتُ أن يقدِّمَ الباحثُ دراسةً رصينةً ومتماسكةً في بنيتِها، وجادةً وموضوعيةً في طرحِها؛ بما يؤكد أن الكتاب قد أُعد على عجل لأمر ما ولغير الهدف المعلن له وإنما لأسباب يعلمها المؤلف والمقدم له وغيرُهما ممن أسهموا في تجميع مادته وطبعه ونشره!
وتجدُر الإشارةُ هنا إلى أنه من المفيد بل والمحتم أيضاً أن يفكر السودانيون الشماليون أسـوةً بأشقائهم الجنوبيين في مستقبلهم السياسي بل والاقتصادي والاجتماعي وبخاصةٍ أنه من المحتمل جداً أن يختار الجنوبيون الانفصال أو غيرُهم من مناطق الهامش السوداني؛ وذلك إذا لم تفلح حكومةُ الوحدة الوطنية في جعل خيارِ الوحدة جاذباً لهم ولغيرهم ممن تقدم ذكرهم بحسب مقررات وثيقة نيفاشا -وبحسب إجماع كل القوى الوطنية السودانية في مؤتمر القضايا المصيرية بأسمرا 1995، وفي وثيقتي اتفاق الخرطوم للسلام وفشودة 1997، وفي دستور حكومة ما يسمى بالإنقاذ الوطني 1998- إذْ أنَّ هكذا جهد ممن يعنيهم الأمر سيسهم إلى حدٍ بعيد في تخفيف وتيرة الاستقطاب الحادِّ الذي ظل يشوبُ علاقة الشمال بالجنوب على مدى الخمسين عاماً الماضية من عمر البلاد، وفي عمليات إعادة بناء الثقة وإرساء دعائم التعاون المستقبلي على قاعدة المصالح المشتركة إذا لم يعد ذلك ممكناً من خلال استقراء ضرورات الواقع ولا باستلهام حقائق التاريخ قديماً وحديثاً.
وليس من الغرابة بمكان أن يخلُص الباحثُ بالنتيجة في ختام دراسته إلى أن المزاجَ الجنوبي في الوقت الراهن مزاجٌ انفصالي من خلال "استخداماته المتميزة للمنهج العلمي ..." على حد تعبير المقدم للكتاب؛ لكن المدهشُ حقيقةً ألا يستعين الباحثُ بـ "... مقدرته على الرصد والتحليل وتوليد النتائج والمقومات" المشار إليها، ليتفضل -حضرتُه- باقتراحِ الحلول الناجعة التي يمكن أن تزيل حدةَ الشعور بالاغتراب المتولـدة لدى السودانيين الجنوبيين. كما أنه -أي الباحثُ- لم يبينْ رؤيتَه على الصعيدِ الشخصي في شأن ما ينبغي عملُه لتغيير ما أسمـاه بـ "المزاج الانفصالي لدى الجنوبيين" إن كان -فعلاً لا قولاً- يحفلُ بوحدة التراب السوداني، ولا أظنه كذلك ما دام يعتقد في جدوى تقسيمِ الشعب السوداني على أسسٍ طبقيةٍ بالية بعد أن عرَّف عن نفسِهِ في ذات الكتاب بأنه ينتمي إلى من نعتَهم بـ "الأشراف"، وترك للقارئ الكريم أن يقر له بأنَ هناك ثمـةَ "أنذالٍ ووضعـاءَ" في مجتمعنا السوداني عداه هو وعشيرته!!
وبهذا المنطقِ الرديء سيبقى صاحبُنا مِعْوَلاً هدَّاماً في بنية الوطن، وستظلُّ كتاباتُه الصفراءُ ورؤاه الحمقى خصماً على مجهوداتِ رأبِ الصدعِ التي يبذلها الحكماءُ من أبناء شعبنا السوداني الكريم ومثلُهم الوسطاءُ الدوليون والإقليميون من أجل رتق نسيجنا الاجتماعي الذي بدا متهتكاً بفعلِ سياسات دولته المستبدة الظالمة. لذلك كان بُدهياً ألا يكلف صاحبنا نفسه مشقة الإجابة على تلك الأسئلة المغرضة التي طرحها في لؤم بالغ على النحو التالي:
ألا يتغير هذا المزاج بتغير الظروف؟ ألا يمكن أن تؤدي أجواء السلام إلى ولادة عقل جنوبي يؤمن بالوحدة؟ أم أن الانفصال أصبح ضرباً لازباً؟
بل عمد بلا حياء إلى حيلة موهمة مدعياً أن الأمر يحتاج فقط "لمزيد من إمعان النظر وإدمان الفكر" وخالصاً في نهاية المطاف إلى أن ذلك المزاج الانفصالي لدى الجنوبيين هو وليد "لحظة تاريخية معينة" ومبرراً أنها قد "انتجتها ظروفُ الحرب والمعاناة والضغوط"!! وبذلك يكون سعادتُـهُ قد حرَّر صكَ بـراءةٍ لكل الأنظمةِ المتعاقبةِ على سدة الحكم في الخرطوم منذ إعلان الاستقلال إلى لحظة توقيع اتفاق السلام الأخيرة في نيفاشا من جريرةِ الاستوزار في اندلاعِ الحروبات الأهلية والنزاعات المسلحة كل هذه السنوات والتي دفع شعبُنا الصابرُ ثمناً لها أرتالاً عظيمةً من النفوس والأرواح .. وسالت أراضينا حيالَها بحوراً متلاطمةً من الدماء والدموع.
لست في هذه العجالةِ بمعرضِ الردِّ على افتراءاتِ الكاتب أو مغالطاتِهِ العديدة؛ ولا أنا بصددِ تفنيدِ أو دحضِ حججِهِ الواهية وبيناتِهِ المدعاة التي لا تقوم على دليلٍ أو برهانٍ ساطع، والتي يعج بها كتابه سالف الذكر؛ وبخاصةٍ أنه في سياقِ معالجتِهِ لجدليةِ الحرب والسلم في السودان قد تطرقَ إلى موضوعات وقضايا بالغة التعقيد كما أنه تعرَّض في إطار مناقشته للمرجعياتِ الفكرية والثورية للحركة الشعبية لتحرير السودان وجيشها، ولمسيرةِ نضالها الطويل المشرف إلى حيثياتٍ وأحداثَ على درجة من الأهمية. بيدَ أني ودَدْتُ -للتوضيح فقط- تبيانَ حقيقة أنَّ ما قام به الكاتب هو من قبيل دسِّ السُّمِّ في الدَّسَمِ، وعلى سبيل التدليسِ والتلبيسِ على كل من تقع يده على كتابه المعلول، وأننا على موعد مع القدر لنشهد إطلاق نسخة أولى من الدكتور حسن مكي بفكره المعوج وقلمه المسموم وأسلوبه الوقح الردئ، فلا حول لنا ولا قوة إلا بالله!
ولذلك فإنَّ تلك الدراسة الهشة التي تقدم بها الكاتب ليست بأحسن حال من تلك التي درج على نشرها حفنة من كتاب ونخبة "السودان القديم" بمختلف تخصصاتهم المهنية وألقابهم العلمية ممن ينتمون ظلوا يمارسون التفريق بين المواطنين السودانيين على أساس الدين أو العرق أو الانتماء الفكري. أولئك هم الذين "بدت العدواة البغضاء من قلوبُهم وأفواههم" فإنما يستفزون بفعالهم القمئة تلك الضمائرَ الحيةَ والنفوسَ الأبيةَ، ويودون من ذلك إفسادَ ذات بيْنِ الأشقاء، وبذرَ بذور الفتنة والشقاق في تربة الوطن المعافاة من الأدران، من خلال إيقاظ النعرات القبلية والطائفية، وإيغارَ الصدور على بعضها البعض.
كيف لا وها هو ذا صاحبنا يعترف -ملئ فاه- بأنه كان واحداً من مرتزقة الدفاع الشعبي وفلول المجاهدين ممن ولغُوا في مستنقعِ إشعالِ نار الفتنة في البلاد؛ فأعاثوا في الأرض الفساد، وأعملوا أدواتهم الصدئة تقتيلاً للعباد، وحصداً للنفوس الذكية والأرواح الطاهرة في مناطق الجنوب والنيل الأزرق وجبال النوبة والشرق الأبي. وها هم اليوم يفعلون مؤخراً في دار فور المكلومة. مثلما ظلوا طيلة سنين حكمهم العجاف يسومون المناضلين الشرفاء سوءَ العذاب في المعتقلات والسجون وبيوت الأشباح في مناطق البلاد كافة.
هؤلاء هم "الذين يريدون أن يُطفئوا نور الله بأفواههم" والذين سَاءَهم "أن يتم الله نوره" الذي انبلج مسفراً عن ميلادِ فجرِ السودان الجديد؛ الذي انداح في كل مدن الوطن وقراه، وفي سهوله ووديانه، ومراعيه وفيافيه، وفرقانه وحواكيره، وفي كل رَبْعٍ من ربوعِهِ؛ "ولو كره الكافرون" بقيمِ وأخلاقِ وموروثاتِ شعبنا السوداني السمح المسالم بطبعه في شماله وجنوبه وشرقه وغربه ووسطه.
وحتماً ستزولُ عن القارئ دهشتُه إذا علم أن الباحثَ هو ربيبُ مؤسساتِ النظامِ البائدِ وصنيعةُ دهاقنتِهِ ومفكريِهِ الخائبين. وخيرٌ فعلَ الكاتبُ أن دبَّج بحثَه المفترى بعدد من أسماءِ المؤسسات -التي نعرف- والتي أعانته في جمع مادةُ بحثه ومن ثم في طباعته ونشره، ولم يفَُتْ عنه تطريزه بكوكبة مماثلة من الأسمـاء اللامعة الرنانة في سفر نخب "السودان القديم" ممن أغدقوا عليه الألقاب العلمية الرفيعة؛ فزينَ الجميعُ له باطلَه وحسَّنُوا له سوءَ عملِهِ.
لذلك لم يكن مستغرباً أن تطل علينا مذيعة بالتلفزيون السوداني "كوثر بيومي" في سهرة الخميس 17 نوفمبر، من خلال فقرة "الخرطوم تكتب" وفي إطار تغطية فاعليات مهرجان "الخرطوم عاصمةً للثقافة العربية 2005" وفي معيتها الكاتب لتستعرض معه موضوعات الكتاب موضوع المقال بأسلوب سمجٍ قبيح، مضفية عليه هالة إعلامية براقة بأسئلتها المنتقاة وإيماءتها المكشوفة، في محاولة مصيرها الفشل الريع لإعادة إنتاج الكاتب ومن ثم تسويقه مجدداً على جمهرة المشاهدين؛ بعد أن كسُدَت بِضاعتُه لدى جمهور القراء.
المهم أن هذا الكتاب للدكتور سراج الدين عبد الغفار يذكرُني بدراسةٍ مماثلة استهدفت رسمَ صورة عن أوضاع الشباب السوداني في عقد التسعينيات والتي جاءت بعنوان: "اتجاهات النمو السكاني في السودان". هذه الدراسة نشرتها مجلة "دراسات إفريقية" والتي تصدر عن مركز البحوث والدراسات الأفريقيـة بجامعة أفريقيا العالمية بالخرطوم في عددها الثامن عشر الصادر في يناير 1998. المثيرُ في الأمر أنَّ معدَّ الدراسةِ هذه المرة هو الدكتور حسن مكي نفسه والذي كان عميداً للمركز المشار إليه في السياق حينها!
في دراسته تلك توصل الدكتور حسن مكي إلى حقيقة مذهلة! أرجع حيالها مشاكل السودان العامة وأسباب تدني الأحوال المعيشية للسكان إلى "أن معدل النمو السكاني أعلى بكثير من معدل النمو الاقتصادي، وبالتالي فإن الفجوة تتسع باستمرار ما بين تطلعات الناس ومعدلات النمو الاقتصادي" مستعيناً بإحصاء بياني عن معدلات النمو السكاني خلال الفترة من 1956 إلى 1992م.
وبعد أن عمد إلى مؤامرة تقسيمِ المجتمع الشبابي السوداني إلى ثلاثة قطاعات -مجتمع شبابي وليد ظروف النزوح، ومجتمع شبابي حضري، ومجتمع شبابي ريفي؛ وفي أسلوبٍ مفضوح للالتفاف حول الحقيقة أضاف "أن الشباب يتشكل دون سياسات، ووفقاً للضغوط والضرورات في مجتمع يعج بالتحولات المصيرية" مضيفاً "أن الخرطوم قد فازت بالعدد الأكبر من قطاع الشباب وليد ظروف الحرب والاضطراب الأمني والجفاف والتصحر .. مما أدى إلى تشوهات معمارية واجتماعية وسلوكية..."!
وفي نظرة استشرافية لمآلات السودان المستقبلية من واقع النمو السكاني واتجاهات الشباب قال في سياق تراجيديا تحذيرية أنه "حينما استقل السودان كانت الخرطوم الكبرى مدينة عربية الملامح، ولكنها اليوم وبعد أربعين عاماً من الاستقلال أصبحت مدينة أفريقية. كما أضحت متعددة الديانات إسلام، مسيحية، ومعتقدات إفريقية؛ ومتعددة اللغات عربية، لهجات إفريقية، والعربية المحلية"!
وبعد أن أورد أرقاماً وحقائقَ إحصائية عن سكان الخرطوم وثق لها في دراسته يقول حسن مكي "أن عدد العناصر الإفريقية قد تضاعف في الخرطوم نحو مائة وثلاثين مرة بالهجرة والنزوح من جنوب السودان وغرب إفريقيا ومناطق التداخل اللغوي والحضاري، وأن معدلات الخصوبة والزواج المبكر عالية في العناصر الإفريقية على عكس نظيرتها من العناصر العربية". وفي إشارة تستبطن حقداً قاتلاً تابع حديثه قائلاً "أن العناصر الإفريقية قد كسبت تماماً معركة النمو السكاني حاضراً ومستقبلاً"!
وبعد أن أكدَّ أن هناك نزاعاً شديداً في هوية السودان ووضع الثقافة الإسلامية فيه بين تيار يدعـو إلى علمانية الدولة باعتبار أن السودان قطر متعدد الأعراق والثقافات والديانات؛ آخر يدعو لإسلامية الدولة باعتبار أن السودان قطر متعدد الأعراق في إطار عروبية المركز؛ ومتعدد الثقافات في إطار الغلبة الواضحة للثقافة الإسلامية/العربية؛ ومتعدد الديانات في إطار مركزية الدين الإسلامي في السودان".
وبعد أن خَلُصَ إلى أنَّ محصلةَ الصراع النهائية تتجه إلى بروز قوتين أساسيتين أطلق عليهما "القوى السوداء" و"الحركة الإسلامية" حذَّرَ بطريقة ملتوية من أن "انقسام مجتمع الخرطوم ومن بعده مجتمع السودان العريض على نحوٍ طبقي حادٍ ومتمايز يُعدُّ من الأخطار المحدقة بمستقبل السودان" دون أن يشير لا من قريب أو من بعيد إلى دور الأنظمة الحاكمة -بما فيها نظام دولته المندحرة- التي أفرزت سياساتها الخاطئة هذه المظاهر السالبة بين الأفراد والمجتمعات السودانية المختلفة، ولا أفهم كيف يمكن أن يكون النزوح أو الهجرة سبباً مباشراً لها، بل هما -التمايز والانقسام- مظهران طبيعيان للحريق السوداني الكبير الذي له مسبباته وتفسيراته الواضحة.
وفي أسلوب تآمري جبان أومأ إلى الأجهزة الرسمية -قاتله الله- بضرورة محاصرة وتحجيم العناصر الإفريقية -أو من أسماها بالدار فوريين ومن يليهم من قبائل غرب إفريقيا إضافة للمجموعة الجنوبية- على حد تعبيره فقال عن هذه المجاميع أنها قد "كسبت معركة النمو السكاني حاضراً ومستقبلاً وأنها أصبحت حزب الأغلبية في السودان على الرغم من أنها ما تزال مهمشةً لأن رصيدها من الوعي والسلطة والثروة ضئيل للغاية". وتابع حديثه مفصلاً في الأمر إلى ليصل إلى الغاية الحقيقة من الدراسة التي أعدها وكيفية بلوغها موضحاً لها بالقول "إن هذه القوة المستضعفة لا يمكن أن تترك لتنمو هكذا بصورة عشوائية ومن دون تخطيط أو رعاية خصوصاً أنها قد أصبحت أكبر قوة موجودة في الساحة الاجتماعية، ولأنها القوة المرشحة للاستحواذ على ميراث السودان".
ولا بد من الإشارة هنا إلى أنه من غير المستبعد أبداً أن تكون ذات الجهات التي وجه إليها الخطاب قد أخذت نصحه لها مأخذ الجد. وإلا كيف يمكن لنا أن نفسر العديد من الجرائم الشنيعة التي ظل ترتكبها الأنظمة الحاكمة ضد أولئك السكان السودانيين من تلك المجموعات العرقية التي أشار حسن مكي إليها؟ بدءً مما يسمونه "بحرب الجنوب"، مروراً بمضايقة النازحين داخل المدن الكبيرة وعلى وجه الخصوص في العاصمة الخرطوم، مروراً بحملات الكشة وما يلازمها من امتهان لكرامة الإنسان في أبشع صورها، ومثلُها إجراءات الترحيل القسري التي هي أشبه بحملات اصطياد الرقيق في عهود الظلام من تاريخنا القريب، وصولاً إلى الأحداث الدامية التي تشهدها دار فور وقد شهد القاصي قبل الداني بها. فألا لعنة الله على الظالمين!
الجيد في الأمر أن صاحبنا الأخير اعترف بحقيقة التهميش والرصيد غير المتكافئ من الوعي والسلطة والثروة بما يعطي المشروعية والحق لتلك المجموعات البشرية من المواطنين السودانيين في مطالبتها المستمرة بضرورة تقسيم السلطة والثروة على نحو عادل وإفساح المجال لها لأخذ حصتها العادلة من المعرفة والعلم في كل المجالات لا أن تكون حكراً على مجموعات بعينها، وكذلك في التعبير عن ثقافاتهـا وفنونهـا في وسائط الإعلام الرسمي والشعبي.
أما ثالثة الأثافي! فكيف يجرؤ حسن مكي ليعلن استنكاره في أن تتولي هذه المجموعات البشرية من السودانيين ما أطلق عليه "ميراث السودان"؟ وكيف ينكر عليها أن تمثل حزب الأغلبية ومن ثم تسعى إلى حكم البلاد طالما أنها تمتلك ما يؤهلها لذلك من واقع كثافتها السكانية التي شهد هو بها؛ إذا كان يرى في الأساس فائدةً من حكم البلاد على أساس الانتماءات العرقية لا على التعدد السياسي القائم على الاختيار الحر؟ نعم! إنها بالتأكيد عقلية الأوصياء والتي هي بلا شك من مخلفات الحقبة الاستعمارية التي لا ترى حقاً مشروعـاً لأهل أي بقعة في الأرض في حكم وإدارة شئونهم بأنفسهم بل تدعي لنفسها -تلك العقلية الخربة- حقاً متوهماً في بلادٍ غير بلادها، وأراضٍ ليست لها، وثرواتٍ لا تمتلك مثقال ذرةً من الحق فيها... عجبتُ لها من عقلية!
وعطفاً على ذي بدء نقول أن صاحبنا الذي نتصدى بمباشرة الرد على كتابه في هذه المقالة وما يتبعها بحول الله فإنه لم يستنكف في كتابته أن يتقصى حذوَ القذة بالقذة خُطى وخطايا أستاذه د. حسن مكي مثلما لم يفت عليه أن يُدعِّم دراسته بمسح أو قل استبانة ميدانية مسخراً ذات المعايير في البحث والقياس والتحكيم؛ وأيضاً لذات المجموعة البشرية من السكان السودانيين والتي من سخرية القدر صارت مادةً دسمةً لأبحاث ودراسات هؤلاء القوم مثلما باتت أمرُهم مدارَ نقاشاتهم وحواراتهم مجالس أنسهم! وبالطبع لن يتوقع القارئ الكريم أن تتخلف هي الأخرى عن نيل شرف الطباعة والنشر والتوزيع تلك الدور والمؤسسات والهيئات المشبوهة سيئة الصيت والسمعة والسلوك.
أخيراً وليس آخراً، -وكما سبقت الإشارة من قبل- فإن هؤلاء القوم هم البلاءُ العظيم والشرُّ المستطير الذي حل بأمتنا السودانية المجيدة ذات التاريخ التليد والمصير المشترك، والتي ظلت لقرون عديدة محتفظة بموروثاتها القيمية والأخلاقية رافضةً الخنوع أو الانكسار لثلة المستعمرين الدخلاء من عهد اتفاقية البقط في أقصى شمال السودان ومثيلتها في شرق البلاد؛ مثلما رفضته على أيام إمبراطورية محمد علي باشا وأسرته؛ كما أنها لم تنحني أو تخضع لدولة الحكم الثنائي ولا لورثتهم وأذنابهم من الوطنيين، إلى أن بلغنا الحضيضَ في أبشعِ صوره على أسوار وجدران دولة المستعمرين الجدد أهل "المشروع الحضاري" الإجرامي، والذين نتساءل عن منبتهم الخبيث في منتهى ألم مع أديبُنا العالمي الكبير الطيب صالح: من أين أتى هؤلاء؟!
لذلك أثقُ منتهى الثقة في أن شعبنا العظيم لن يسمح لهؤلاء القوم مرة أخرى بتمزيق وشائج التواصل بين مجتمعاتنا المحلية، كما أن شعبنا لن يسمح لهم أيضاً لا بتقطيع أواصر التعايش بين مجموعاتنا البشرية مستخدمين في ذلك الفري المغرضة الممجوجة والشعارات القديمة المستهلكة. هذا وعشتَ يا سودانُ حراً، ولنا عودة بحوله الله تعالى.