على التعايش الأجتماعى
د.عبدالباسط ميرغنى
كلما أنبت الزمانُ قناة ركب المرءُ فى القناة سنانا
"المتنبى"
لقد أدرك المتنبى بفطنته الذكية، ومن زمن بعيد، بأن مشاعر الكراهية والتباغض للآخر لايكمنان فى أمتلاك القوة وتراسانات الأسلحة وانما يعششان فى عطب عقول البشر. لقد نجح العلماء فى تطوير أسلحة الدمار والفناء ولكنهم فشلوا فى تطوير تكنلوجيا السلوك الأنسانى فأنتشرت فى الهواء رائحة جرثومة وباء الهيمنة والأقصاء. وبدخول جيوش الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا غازية لأراضى العراق فى أبريل 2003، وبالنظر الى تاريخ الحروب، تكون النزاعات الدموية المنظمة شهدت تطوراً كبيرًا فى بداية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين, حيث أصبحت اكثر انتشارًا وزادت حدة خطورتها على السكان المدنيين, فقد بلغ عدد الحروب التى اشتعلت منذ عام 1945 اكثر من 165 حرباً , ويتضخم هذا العدد كثيراً اذا أضفنا اليه النزاعات المسلحة الاصغر حجمًا. كما زاد باطراد عدد الحروب المشتعلة فى اى فترة زمنية معينة منذ عام 1945 وبلغ أعلى مستوياتة فى 1989، حيث استقر على معدل يتراوح ما بين 30 الى 34 نزاعًا فى العام . وفى عام 2002 وحده تم رصد 59 نزاعاً خطيراً لجأ فيها احد الاطراف الى التهديد باستخدام العنف او نشر قوات عسكرية أو قام باستعراض القوة.
المدنيين من السكان هم الضحايا:
فى هذا الخضم الدموى بلغ عدد ضحايا الحروب فى الفترة ما بين 1945 و 2002 نحو 8. 22 مليون قتيل ومن المحتمل أن يكون هذا التقدير أقل بكثير من الرقم الحقيقى. كذلك أرتفعت نسبة الضحايا المدنين نتيجة لهذه النزاعات المسلحة, حيث يشكل المدنين - وليس العسكريين - اليوم, الغالبية من بين الضحايا فبحلول عام 2002 اذدادت نسبة المدنين الى 85 % بالمقارنة مع 50 %. كما يشير تقرير ثانى بأن عدد القتلى لايمثل الا جزء من الخسائر البشرية حيث أن هناك اعداد اخرى كبيرة من الجرحى، والمعاقين. من جانب آخر تؤدى الخسائر المادية الى زيادة الدمار فى الخصائص السكانية من حيث الصحة والتعليم ومياه الشرب والمأوى وأنماط السلوك اللآ أجتماعى واللاسوى حيث أرتفعت معدلات الجريمة والمخدرات والأيدز، وهذه بدورها فاقمت من الخسائر فى نوعية حياة السكان بطرق غير مباشرة, فقد قادت 10 حروب فقط وقعت فى العقدين الأخرين فى دول (يوغندا, رواندا، موزمبيق , انجولا , افغانستان , لبنان ،السودان، العراق وايران ويوغسلافيا السابقة) الى تشريد 20 مليون شخص واضطر مايزيد على عشرة مليون منهم الى النزوح او الهرب الى اقطار اجنبية, وقادت هذه الحروب الى تفكك بعض الدول التى كفت عن ان تظل مجتمعات فاعلة متعايشة, بينما اصبحت اخرى على حافة التفكك. هذه الوضعية المفزعة تمكنت من عقول كثير من البشر خاصة أولئك الذين ساهموا أو عاشوا هذه الفظائع اللأنسانية، فأدخلت متلازمة جديدة عرفت بأضطراب ما بعد صدمة الحرب Post War Ttraumatic Disorder، بل أنها ساهمت فى خلق أنماطاً مضطربة من السلوك العدوانى بنوعيه: الضد أجتماعى واللا أجتماعى.
اذا أمعنا النظر فى خارطة النزاعات المسلحة الحالية نرى بأن معظمها يقع فى الجزء الجنوبى والشرقى من الكرة الارضية, فقد اورد برنامج الامم المتحدة للتنمية فى تقرير التنمية الأنسانية لعام 2002 بان عدد 42 قطراً من اقطار العالم شهدت فى عام 2000 ،عدد 52 نزاعاً كبيراً , بينما وقعت احداث عنف سياسية فى 37 قطراً اخرى ومن بين هذه الاقطار ال 79 ينتمى 69 قطراً الى بلدان العالم النامى، وكانت اقريقيا ودول الاتحاد السوفيتى السابق ويوغسلافيا السابقة والشرق الأوسطية هى المناطق التى وقعت فيها معظم الحروب فى السنوات القليلة الماضية. فأدخلت متلازمة جديدة فى التنمية الأنسانية عرفت بالأفقار والحرمان الأنسانى وتركت قطاعات ضخمة من البشر ضحايا الحرب والنازحين وكذلك الناس العاديين فى المدن خارج مدى التمتع بالحريات المدنية والسياسة.
السؤال الغائب الحاضر, من المسوول عن هذا الحرمان والعنف وحمامات الدماء وأنتهاك الحقوق وتكرار المأساة عبر التاريخ. تتحدث كل الدراسات عن مآسى الحرب والأنتهاكات الأنسانية وكأنها تصنع العربة ولكن من الذى يضع الحصان أمام عربة الموت والفقدان هذه. ويظل السؤال من الذى يؤجج نيران الكراهية والبغضاء فى نفوس البشر؟ هل هى صناعة الأسلحة؟ أم برامج الغطاء الإستراتيجى ضمن قسمة الهيمنة والنفوذ الدولى؟ هل هى طموحات الحكام والقادة القاصرة المريضة فى شخصيات كهتلر وموسولينى وساموزا وبنوشيه وبون بولت وشارون وصدام حسين وجورج بوش ومن لف لفهم من ذوى الشخصيات السلطوية ؟ هل الحرب هى غريزة الموت ضد غريزة الحياة تلك التى يتحدث عنها سيجموند فرويد كحتمية فى الإرث والتاريخ الأنسانى؟ أم ان الحرب هى حتمية علىحسب مروجى نظرية الأحلال والأبدال؟ أم تكمن الأسباب فى غياب إرادة الوعى والعقل الجمعى؟ أين الحقيقة وماهو الخلل؟
نأمل فى سياحة عامة تتبع أثر النزاعات الدامية، حدتها وأثرها على سلوك الأنسان ونتائجها على التعايش الأجتماعى، نتتبع الوجدان فى بناء الهوية ونبحث ما وراء الدوافع فى شخصيات سايكوباتيه قادت العالم الى أتون المحارق والدمار والأفقار النفسى. ننوه بأن طريقة التناول سوف تتداخل مابين التجارب الدولية والأقليمية لمفهوم النزاعات الدامية ثم نعرج على السودان من وقت لآخر دونما أخلال بالسياق العام.
النزاعات الدامية _ المفاهيم
النزاعات الداخلية المسلحة (Internal Armed Conflict)
عادة يتم التمييز بين النزاعات الداخلية المسلحة ( داخل الدولة الواحدة ) والنزاعات بين الدول المختلفة (وهو مايسمى احياناً بالنزاعات الخارجية) ويمكن تعريف النزاعات الداخلية المسلحة ببساطة بوصفها تحدث اساساً فى اطار حدود الدولة الواحدة, كحرب جنوب السودان، والنزاع الحالى بدارفور خير مثالين للنزاعات الداخلية المسلحة بالسودان. وكثيراً ما تكون بين الدولة وواحدة على الاقل من مجموعاتها السكانية, يقفز هنا أقتتال الدينكا والرزيقات، الدينكا والنوير، الزغاوة وتجمع العرب, الهمج والفلاتة بالنيل الأزرق، أحداث الضعين، وأحداث الأحد الدامى فىشوارع الخرطوم وأطراف جزيرة توتى فى منتصف الستينيات كأمثلة دامية لمعاناة المدنيين من السكان والاضرار الناجمة عن تلك النزاعات الداخلية فى غياب الشعور بأحترام الآخر. غالبا ماتعود أسباب هذه النزاعات الى المظالم الاقتصادية والصراعات الطبقية والاثنية والقبلية والمظالم الأجتماعية أو غياب المشاركة فى السلطة السياسية, وهو ما قد يدفع الى التأكيد فى البحث عن الهوية و الحق فى الاحساس بالمواطنة والأنتماء. ونادراً ما تكون هذه النزاعات بسبب مشكلة واحدة مؤجلة بل عادة ما تتضمن ابعاداً تعايشية اجتماعية عديدة وهو ما يجعل حلها او انهائها امراً غاية فى الصعوبة فى كثير من الاحايين.
فى المقابل يمكن اعطاء تعريف واضح للنزاعات الدامية والحروب بين الدول من خلال النظر فى دفتر التاريخ والتمعن فى النزاع السودانى اليوغندى ومآسى جيش الرب فيما بين القبول والرفض داخل الأراضى السودانية وهو نزاع تحكمه مصالح متأرجحة وتناغضات نفسية عبر عنها المتنبى بنكد الدنيا الذى يبيح للعدو أن يكون صديقا:
ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى عدوً مامن صداقته بدُ
الصراع (Conflict) فى مفهومه العلمى العام انه حدث شائع ) Common ( طبيعى (Natural) لا يمكن تجنبه (Un-avoidable) ويستقيم ذلك فى إطار الصراع والنزاع الشخصى الداخلى بين الفرد ونفسه والآخرين والنزاعات ذات الطابع القبلى أو القومى. هناك بعض الحالات التى تؤدي فيها النزاعات الخارجية الي نزاعات داخلية دامية داخل أحدى او كل الدول المشاركة فى النزاع. ما سبق يسلط بعض الضؤ علي التعريفات والتحديدات النظرية لهذة المصطلحات. اما فى الواقع العملى، والعالم يستشرف نذر العولمة، فقليلة جداً هى تلك النزاعات المسلحة التى تكون داخلية بكاملها او تقتصر فقط على دولتين او حتي عدة دول. ففى اغلب الاحيان تتضمن النزاعات ابعاداً أخرى من تلك النزاعات التي يطالها التغيير بمرور الزمن خاصة وان معظم أماكن أنفجار النزاعات تكون محازية لمناطق التماس الحدودية. أنظر الى جنوب السودان ودول كيوغندا وكينيا، وشرق السودان ودولة أريتريا والى مناطق دارفور الكبرى ودور محتمل لدول كتشاد وليبيا، ومناطق النيل الأزرق(الكرمك وقيسان) ودور سابق لأثيوبيا قبل التحولات السياسية ومغادرة منقستو هايلى ماريام, ومنطقة حلايب وشلاتين ودورقديم متجدد لمصر .
الحرب الاهلية Civil War) )
يستخدم هذا المصطلح احيانا بديلاً لأسم " الداخلية" حيث يترادف المصطلحان بدرجة كبيرة على الرغم من وجود بعض الاختلاف بينهما. أذ ان مصطلح " الاهلية" يوحى بوجود وحدة أجتماعية وسياسية غير عسكرية تم شقها بالحرب .
وتعنى كلمة Civil اللآتينية مجموعة من المواطنين المدنيين فى مقابل الجنود وتتضمن معانى الادب والتحضر فى مقابل العلاقات ذات الطابع العنيف. ولكن فى بعض الاحيان لا يكون لهذة التقاليد والمؤسسات المتحضرة وجود. لذلك يبدو ان المصطلح " الداخلية " هو الأفضل و الأكثر حيادية فى وصف الحروب والنزاعات الدامية التى تقع بصورة أساسية داخل حدود احد الاقطار.
حرب الوكالة: (By Proxy War)
أستعمل هذا المصطلح كثيراً فى سنوات الحرب الباردة للاشارة الى الطريقة التى تورطت بها الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفيتى فى العديد من النزاعات الدامية الداخلية والخارجية، فى الوقت الذى واصلا فيه المواجهه على المستوى الكونى. وممكن ان يكون تورطهما على شكل امداد بالسلاح والتدريب و التمويل والواردات الاساسية والمعلوماتية, ونوع من الاختيار الايدولوجى الذى يميل الى حشر كل شئ اما فى المعسكر الشرقى او الغربى. ان تدخل القوى العظمى امرا لشديد التاثير خاصة ان استخدام مصطلح "حرب الوكالة " ساعد على أخفاء القضايا الاخرى التى أدت الى نشوب النزاع.
تتجدد مفاهيم حرب الوكالة فى زماننا المعاصر باستمرار، نجد خير مثال لذلك يبدو سافراً متعسفاً في محاولات الولايات المتحدة المتكررة لأقحام المجتمع الدولى فى غزو العراق، كما يبدو جلياً فى غض الطرف عن العنف والأجتياح الأسرائيلى فى تصفية رموز المقاومة تحت ستار محاربة الارهاب. وفى المنظور القريب، ربما نفترض بأن الولايات المتحدة بدأت فى أستثمار تجربة أسرائيل فى حرب المدن بأرسال جنود أسرائليين بهويات وملابس أمريكية لمساعدتها فى تصفية المقاومة العراقية ضمن خطط التآزر النفسى ومظلة الغطاء الأستراتيجى. تجدد مفهوم حرب الوكالة بنى على نظريات فنيات الغمر Flooding الأنفجار Explosion فى العلاج النفسى أى من يعانى من رهاب العوم والسباحة ما عليك الا بتقذفه فى الماء وتركه لمواجهة المصير. وهذا ما فعلته الولايات المتحدة وبريطانيا فى غزوهما للعراق دون موافقة الأمم المتحدة. وهاهو العالم يتقبل اليوم تدخل الولايات المتحدة فى افغانستان والعراق ومن قبلهما يوغسلافيا السابقة كما يحتسى قهوة الصباح.
النزاع الاقل حدة والارهاب: (Low Intensity Conflict and Terrorism)
يستخدم هذا المصطلح لوصف النزاعات الدامية التى لم تصل حد التعبئة العامة للجيوش النظامية لدى الطرفين, بل يتم الاقتتال بكثافة ويتم أستخدام الأسلحة الخفيفة بدلاً من أستخدام الاسلحة الثقيلة أو ذات التقنيات المتطورة. وتحدث مثل هذه النزاعات بصورة اكبر فى الأجزاء الاقل تطوراً من العالم, حيث يطلق عليها احياناً اسم "نيران الدغل " او حرب العصابات أو مجموعات النهب المسلح. اما فى الاقطار الاكثر تقدماً فتوصف النزاعات الأقل حدة بانها " اضطرابات " أو " مجموعات للنهب المسلح" حيث لا تكون حكومات هذه الاقطار راغبة فى الاعتراف بوقوع حروب أو نزاعات أهلية على أراضيها.
وتشير هذه المصطلحات ضمنياً الى ان المجموعات المسلحة المشاركة فيها تتمتع بقاعدة اجتماعية تتمثل فى نوع من المساندة الأدبية والدعم اللوجستى على الاقل، وذلك من قبل مجموعة متعاطفة أو متفقة مع السكان. ونتاج للدعم والمساندة يقع معظم السكان مابين المطرقة والسندان. وتوصف حركة المجموعات المسلحة بالتمرد أو الأرهاب. ويمكن اعتبار " الارهاب" احدى الوسائل او التكتيكات المستخدمة فى النزاعات الاقل حدة. وفى بعض الحالات لاتكون للمجموعات التى تلجأ الى وسائل ارهابية فى الواقع مستندة على اى قاعدة اجتماعية - كما كان الحال مع منظمة بادرمانيهوف فى المانيا ويزرمن " رجال الطقس " فى الولايات المتحدة فى السبعينات، وهما المنظمتان الفريدتان فى تأسيس مفهوم الارهاب فى مفهومه القديم والجديد. أى ان مفهوم وممارسة التدخل الأرهابى فى حل المشكلات لم يكن وليد منطقة الشرق الأوسط وآسيا, وانما صنيع أوروبى أمريكى فى المقام الأول. تعلمت وأتقنت وأبتلعت الطعم المرَ بعض المنظمات الفلسطينية ثم تأتى مجموعة القاعدة فى مطلع القرن الحالى وهى تنتهج مفاهيماً وطرقاً فى معالجة الأجحاف والغبن الدولى بشعارات أسلاماوية مثيرة للجدل. وأسقط فى يد الدول التى رعت وغذت مفاهيم العنف, عندما صارت النزاعات الاقل حدة تتسبب فى اعداد متزايدة من القتلى وسط المجموعات السكانية فى العالم كنتيجة لتزايد قدرات الاسلحة الخفيفة على القتل من جانب ولتوفرها بكميات كبيرة وانخفاض أثمانها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ويأتى غياب العدالة وفرض الهيمنة وهضم وأنتهاك الحقوق فىالجانب الأصيل الأول. وحتى بعد أنتهاء النزاع المباشر تبقى حقول الألغام كأسلحة صامتة تحصد مجموعات من السكان وتترك وراءها جيوشاً من النساء والأطفال والمزارعين ذوى الأحتياجات الخاصة. وحيث لاتوجد خرط متعارف عليها لهذه الألغام على أرض الواقع فأن الحقول تبور وتتعطل برامج التنمية الزراعية وتزداد وتيرة الحراك السكان.
نجد بأن معظم الدراسات والإحصاءات ذات الصلة أهتمت فقط بأعداد الأفراد المدنيين المعوقين في العالم وتزايدهم المستمر، وتشير الدراسات للواقع الماثل بأن الحروب والنزاعات المسلحة والألغام الأرضية والكوارث الطبيعية لهي من الأسباب الأساسية وراء زيادة معاناة السكان وأرتفاع أعداد الحرمان النفسى والعقلى. كم تؤكد حقائق الأرقام بأن الأطفال والنساء يمثلان نسبة عالية من ضحايا الأعاقة الأجتماعية والجسمانية . وتضيف الدراسات أن هنالك آثاراً أخرى تتمثل في تدني الوعي والثقافة الصحية وتفشي الأمراض. وبدراسة التحولات والتغيرات فى بنيات مجتمعنا المعاصر، والنظر فى أثر التغيرات على الأسرة، والتي تكون فى مجملها تغيرات سياسية وأقتصادية وأجتماعية نفسية وثقافية وسكانية, نجد انها أدت الى زيادة معدلات الفقر ونقص الغذاء فتركت آثاراً عميقة على معدلات الأعالة داخل الأسرة. وفى المقابل أهملت معظم الدراسات تفاقم الضغوط والآثار النفسية والحياتية للنزاعات المسلحة خاصة تلك المتمثلة في تفشى نوبات القلق والتوتر والعنف والأكتئاب والأنتحار والعجز النفسى ومايعرف بآثار ما بعد الصدمة. ويبقى تناغض الشعور بفداحة صدمة الحرب يتغلغل بصمت قاتل داخل وجدان قطاعات كبيرة من المدنيين والعسكريين. ولا تظهر آثار صدمة الحرب المدمرة المتمثلة فى نزعات تدمير الذات وكراهية الآخرين الا بعد سنوات من صمت المدافع كماحدث للجنود العائدين من حرب فيتنام وحرب الخليج الأولى.
2
وقد يكون من المفيد - بصورة عامة - النظر الى النزاعات على أساس اشتمالها وتداخلها مع واحدة او اكثر من مسائل الهيمنة والصدمة النفسية، والشخصيات المتطرفة السابق ذكرها يمكن وصفها بانها مسببات النزاعات الدامية وسببية الأنكسار النفسى.
مسببات النزاع :
الموارد / المصالح
شكل الصراع حول النفاذ الى والسيطرة على الموارد الطبيعية مصدراً ثابتاً للنزاعات طوال التاريخ البشرى وكان التنافس على الموارد الطبيعية حول العالم هو احد عناصر الحروب الاروبية فى القرنين الماضيي مع الدول الأخرى, بقرآة نفسية جديدة يمكن النظر الى بناء الامبراطوريات الاستعمارية فى ذلك الوقت باعتبارها نوعاً من السيطرة العرقية والتنافس على الموارد والدفاع عن مصالح ما وراء البحار من خلال كسر التماسك النفسى لأفراد الأمة الواحدة، ولكن مع تعريف هذه المصالح وفق اطار وطنى يتجاوز كثيراً حدود الدولة المعنية ويتصاعد فى عالم اليوم بصورة مطردة ليس فقط الطلب على الارض والمياه العذبة والموارد الطبيعية الاخرى والمعلوماتية وفارق الفجوة الرقمية بل للهيمنة وترسيخ الشعور بالعجز والأحباط لدى الدول والجماعات السكانية. وسوف تلعب الفجوة الرقمية قيمة أقتصادية عالية فى عالم المستقبل فى السيطرة على الموارد ووضح ذلك فى نوعية عتاد جنود غزو العراق وأكمال الرسالة النفسية من خلال قنوات الأستلاب الثقافى الموجة للشباب وقناة الحرة شاهد على الواقع الماثل. والى ذلك يضاعف التدهور البيئى من اختلال هذه المعادلة المختلة اصلا بين الطلب على الموارد وتوفرها. وبسبب التوزيع غير المتكافئ للموارد الطبيعية والتدهور البيئى فى العالم وأختلال الفجوة الرقمية فمن المتوقع ان يطال تاثير ندرة الموارد والتنافس عليها مناطق ودول بعينها بصورة اشد واقوى من مناطق ودول اخرى. ويمكن ان يؤدى ذلك، فى حالات قصوى الى لجوء دول او اطراف اخرى الى القوة العسكرية، او التهديد باستخدامها لضمان النفاذ الى او الدفاع عن الموارد التى ينظر اليها باعتبارها حيوية لبقاء أمة ما.
ويأتى تدمير المشروعات الحيوية كمصنع الشفاء بالسودان والتنافس على المياه أمثلة على نزاع محتمل حول الموارد. وعلى ذكر المياه، الجدير بالذكر ان 40 % من السكان فى العالم يعيشون على اودية انهار دولية، وان 214 واد نهرى هى اودية متعددة الجنسيات، واكبر احتمالات التنافس فى افريقيا والشرق الاوسط وجنوب آسيا. هناك نزاع اخر على الموارد قائم الان ويتمثل فى مصلحة الغرب فى الحصول على المعلومات وامدادات النفط وأستلاب العقول داخل بلدانها وليس هجرتها للخارج كما كان سابقاً.
وكان التعبير عن هذا النزاع يتخذ فى معظم الاوقات طابعا سياسياً واقتصادياً ولكن كان فى بعض الاحيان عنصراً فاعلا فى النزاع الدموى، كما حدث فى حرب الخليج 1991 ، وغزو العراق 2003. وسياسة العصا والجزرة المستعملة فى التوسط لحل مشكلة الحرب فى السودان من جانب والتلويح بمشروع سلام السودان من جانب آخر. تتعاظم الضغوط النفسية فى (تصريحات جون برندر قاست، صحيفة الصحافة 19أغسطس2003 , تصريحات عضوى الكونغرس بضرورة محاكمة رموز الحكومة السودانية، أذاعة BBC فبراير 2004 محادثات جورج بوش الهاتفية المتزامنة مع قرب الأنتخابات مع أقطاب المفاوضات السودانية).
وفى داخل الدولة الواحدة تظل قضايا المشاركة فى السلطة وصون الحقوق والعدالة الأجتماعية رغم غيابها هى التى ينظر اليها بأعتبارها حيوية لحل مشاكل الأقليات القومية.
السلطة:
يعنى مفهوم السلطة الطريقة التى يحكم بها مجتمع ما. وتوزيع السلطة والنفوذ فى المجتمع ، معلوم وبديهى بأن الحكم الراشد يقلل كثيراً من احتمالات النزاعات الدموية. اذ ان الحكم الراشد يشكل مزيج الدستور والمؤسسات والقوانين والاجراءت والتقاليد التى تتيح للمواطنين المشاركة والتعبير عن همومهم والنضال من أجل تحقيق مصالحهم فى اطار يمكن التنبؤ به ويتسم بقدر عال من العدالة، يشكل ذلك القاعدة التى يستند عليها الحكم الراشد فى أفشاء قيم ثقافة الشراكة والمشاركة المنتجة التى تصب فى خانة الشعور بتحقيق الذات النفسى والأنتماء القومى. ويصب ذلك فى خلق دافعية الادارة الكفؤة للموارد العامة ويرتقى بمفهوم التكيف الأجتماعى وبأحساس الملكية الخاص،. وبما ان الصرح الكلى للحكم الراشد يقوم بصورة اساسية على الوصول والاستخدام الشرعى للسلطة فيجب ان تستند السلطات العامة الى موافقة ورضا ومشاركة السكان قاطبة وبتحقيق ذوات الأفراد من حيث المواطنة وأفشاء الحريات والحق فى نوعية الحياة.
ولكن بوجود الحكم الراشد، وفى غياب الشفافية والمعلومات، يمكن ان تنشب النزاعات الدامية أيضاً ذلك بسبب تحدى السلطة السياسية وبأدعاء الحق فى قدر أكبر من الحكم الذاتى وتكمن الحلول فى الأرتقاء بقيم الأحتمال والتداول وتوسيع اشكال للحكم تتيح تمثيلا أكبر للعقل الجمعى.
الايديولوجيا والدين:
كثيراً ما يستخدم مصطلح " ايديولوجيا" للاشارة الى عالم السياسة، بينما تستخدم كلمة " الدين " بصورة اكبر للاشارة الى العالم الروحى الخاص. غير ان هذا التمييز يتجاهل التداخل الكبير الذى حدث مع الزمن بين هذين المصطلحين، وذلك ان المعتقدات الدينية قد تصبح دوافع للفعل السياسى، ويمكن ان يلجأ قادة المجتمع لاستخدامها وسيلة لتحقيق اهداف سياسية. كذلك يمكن ان تزعم الايديولوجية - الماركسية مثلا - انها تقوم على التحليل العلمى، غير ان كل من الايديولوجية والدين تتمثلان على مجموعة ثابتة من المعتقدات الاساسية ويلعبان دورا مماثلا فى المجتمع . فاما ان يتشكل تحالف بين الايديولوجيا السائدة والدين- بحيث يصبح الاخير " دينا للدولة " أسلاموية الدولة كرديف للأسلام السياسى او يتحولان الى ندين متنافسين على سبيل المثال اعتبرت الكنيسة الكاثوليكية الماركسية منافساً لها فى الاستحواذ على قلوب المنتمين لها. وفى القرن العشرين اصبح التنافس بين الراسمالية والماركسية نوعاً من النزاع او الصراع الايديولوجى, بدء من التكتل الكونى فى منتصف القرن الماضى الى كتلتين مسلحتين شرقية وغربية تواجهان بعضهما البعض الى الحروب المحلية بين او داخل بعض الدول بالوكالة عنهما. وتقترن مثل هذه النزاعات بقوة بالثروات الاقتصادية والصراع الطبقى. وتكثر حدتها فى الاماكن التى يوجد فيها انقسامات طبقية واقتصادية واسعة بين او داخل الاقطار كما ان وجودها يرتبط ارتباطاً قوياً بالنزاعات حول الموارد الطبيعية.
وهناك العديد من الأمثلة على وجود قوى للعامل الدينى فى النزاعات الدائرة حول الهوية والأثنية. فقد نشأ انقسام باكستان عن الهند لاختلافات سياسية ودينية بين الهندوس والمسلمين، كما ينظر للتصاعد الحالى للاصولية الاسلامية بوصفه تاكيد للهوية واستقاموية عتيقة بالية يقصد منها رفض الفقر السائد ومناهضة الغبن الأجتماعى والاستضعاف الدولى، فالاصولية هى طريقة خاصة لفهم الدين عند منظمات كالقاعدة، وتوصم بها قى الغرب المسيحى الاديان الاخرى للاشارة الى طبيعتها الجامدة والمتطرفة.
الهوية والأثنية والصراعات الاجتماعية المتطاولة:
الرؤية النفسية:
كثيراً ما تشتمل الحروب على عنصر قتالى يهدف الى تأكيد او الحفاظ على الهوية القومية او هوية مجموعة بعينها. وتعرف الهوية فى بعض الكتابات على النحو التالى:
تعرف الهوية بأنها أحساس او شعور ثابت بالذات يتيح جوهره للفرد التنبؤ بالحياة والتعرف عليها. اذ ان قفدان المقدرة على توقع الاحداث يرقى فى الواقع الى حالة من الشعور بالرعب والفزع. وينظر الى الهوية بوصفها شيئاً أكبر من الشعور السايكولوجى بالذات، اذ انها تتضمن احساساً بالأمان البدنى والنفسى والأجتماعى بل الروحى فى هذا العالم ومن ثم تؤدى الاحداث التى تهدد بالقضاء على جوهر مشاعر الهوية الى اثارة ردود فعل دفاعية تهدف الى تجنب الألفاء النفسى والمادى.
وكثيرًا ما يتم التعبير عن هوية الفرد بوصفه عضواً فى جماعة معنية بمفاهيم العنصر، الدين، والايديولوجية واللغة والموقع الجغرافى. وعادة ما تتشكل الهوية من عنصرين متكاملين - شعور بان الأنا هى س وليس ص ( بانه على سبيل المثال جنوبى وليس شمالى، هوتو وليس توتسى، فلسطينى وليس اسرائيلى, هندى وليس باكستانى وليس العكس ) ان وجود مجموعة من المؤكد ان " الأنا " لا ينتمى اليها, والتى تبدو على نحو واضح انها متناقضة ومعادية لمجموعة الأنا يخلق توترات مهددات، ونزاعات، والمفارقة هى ان هذا يؤدى الى تقوية أحساس الفرد بهويته الخاصة. وعادة ما يتواصل الشعور بالتنافس مع او التهديد لهوية المجموعة عبر أزمان طويلة، حيث يتم تمريرها من جيل لآخر، تمعن فى ظاهرة الزينوفوبيا-تباغض وكراهية من ليس نحن. ومن ثم فان هذه العناصر شديدة المقاومة للتحليل المنطقى العلمى للواقع وغالباً ما ينتهى بها المطاف للأنسحاب الأجتماعى والوجدانى وهذه اولى مدارج التبلد الأنفعالى. وبعضها يظهر استجابات الرفض والعزلة المجتمعية ومن ثم أعراض التطرف فى حل الصراعات. والتطرف فى معيار قياس الصحة العقلية يجافى السواء ويندرج ضمن أنواع السلوك المرضى.
وقد أستخدم مصطلح الهوية فى السنوات القليلة الماضية لوصف هوية الجماعات. فالاثنية تتناول الاصول، والهوية تتناول الأنتماء الثقافى والحقوق الأجتماعية. وكثيراً ما تشمل الحروب بين الدول على عامل اثنى او بعد يتعلق بالهوية- احياناً قد تلجأ الدول الى الحروب اذا بالغت فى تصوير خلافاتها وعدم توافقها. غير ان النزاعات الداخلية الدامية بين المجموعات الاثنية المختلفة هى التى تشكل حالياً العدد الاكبر من مثل هذه النزاعات، خاصة عند ما تكون الحكومة القائمة او الجيش من اصول اثنية مختلفة عن باقى السكان او جزء مقدر منهم (مثال حكومة رواندا إبان نزاعات الهوتو والتوتسو مازالت وصمة على جبين أفريقيا) او حكومة أقلية منغلقة ومتمركزة حول ذاتها نجد فئات أثنية متنكرة لأصولها ومتحالفة مع مركز القوة بروابط ثقافية ذات منفعة أجتماعية.
ونسبة لان الهوية والحقوق تمثلان شروطاً اساسية للوجود، فان اى المهددات متصور لها فد تؤدى الى تحول الصراع الى العنف وسفك الدماء. ولنفس الأسباب يمكن ان يتخذ النزاع الدامى الناتج طابعاً غير محدد لايفرق كثيراً بين ماهو أثنى وثقافى, مدنى وما هو عسكرى فيما يتعلق بمشروعية الاهداف التى يمكن مهاجمتها( مهاجمة آبار النفط، أنابيب أمداد المياه والنفط، المطارات والأهالى من السكان البسطاء بغض النظر عن الجذور الأثنية لتلك الجماعات) . لذلك فانه يصبح فى الغالب نزاع مدمر ومتطاول او اقتتال حتى الموت بالمعنى الحرفى للكلمة. وكثيراً ما يطلق على هذه الحروب نزاع أجتماعى متطاول لانها لا تقوم على صراع حول المصالح فحسب بل تتضمن العديد من الأبعاد الاخرى. فهى قد تكون نزاعاً متعدد المراكز تتصارع فيه عدد من الجماعات الاثنية والسياسية المختلفة, والطبقات الاجتماعية والتجمعات الاقتصادية والسياسية وتكون بحراً متحرك من التحالفات والعدائيات المرحلية و المؤقتة. غير ان الاتجاه السائد لوصف كثير من النزاعات قد يكون مضللاً ففى حالة محدودة قد يكون سبب النزاع فى الواقع تاكيد هوية أو اثنية مهدرة, ولكن فى حالة اخرى قد لا تكون الابعاد الاثنية الا تطوراً لاحقاً حدث بسبب إدارة بعض القادة للنزاع فى هذا الاتجاه (النزاع فى دارفور مرة أخرى). وذلك ان القبلية والأثنية يمكن استخدامها من قبل قادة المجتمع كوسيلة لتحقيق وتقوية نفوذهم الشخصى تماماً كحالات التمظهر الدينى فارغ المحتوى. فى نظير ذلك الرجاء التمعن فى حيثيات النزاع السياسى فى السودان، يوغسلافيا السابقة وفى بوروندى و نيجيريا.
مسببات أخرى للنزاعات الدموية:
الشرف والخوف
فى بعض الاحيان يكون الدافع للنزاع هو ببساطة السعى للحصول على السلطة السياسية وتاكيد الشرف، شرف الشخصيات الأهلية، السياسية، القائد العسكرى او الامة، اى الوجاهة الأجتماعية والاحترام ومهابة الجانب، يتداخل هنا دور الشخصيات المتطرفة والسيكوباتيه المدفوعة بقوة الثالوث القدسى المتمثل فى حب السيطرة والمال والجنس. وشخصيات كهذه نجدها دائماً تكرس السيطرة والهيمنة برفع شعارات عاطفية تذروها رياح التغيير عند نهاية كل مطاف. واحياناً اخرى يكون الدافع للنزاعات هو الخوف من مهددات كثيراً ما تكون لا شعورية وذات مركبات نقص غير واضحة المعالم وغير ملموسة وليست آنية.( الدراسة تطرقت لشخصيات فى الواقع الأفريقى والسودانى مكانها متن البحث العلمى للقارئى الذى يرغب فى ذلك)
التسلح وثقافة العنف:
يعتبر السلاح احد الوسائل الرئيسية المستخدمة فى العنف ولكنه قد يكون ايضاً احد مسببات العنف. فى الأونة الاخيرة أتاح التطور التقنى وانتهاء الحرب الباردة اجيالا جديدة من الاسلحة الصغيرة ذات قوة نارية كبيرة, كما انها اصبحت زهيدة الاثمان وفى نفس الوقت تلاشت كثيراً الفوارق بين المجموعات الثورية وعصابات المجرمين وعصابات النهب المسلح. على سبيل المثال كثيراً ما لجأت مجموعة سندرو كوماندوز الثورية فى البيرو والجيش الجمهورى الايرلندى الى نشاطات اجرامية وفى المقابل كرست مجموعات الجريمة المنظمة مثل عصابات المخدرات فى كولومبيا الكثير من الاسلحة التى تستخدمها احيانا ضد المنظمات الثورية اليسارية المناوئة للحكومة الكولمبية وأباحت المجموعات الأسلامية فى أفغانستان زراعة الأفيون والمتاجرة فية وأستخدام ريعه حلالاً بلالاً فى الحرب على أعدائها. ومغامرات الحكومة بتسليح رجال بعض القبائل والميليشات وما يعرف بالجنجويد والباشمرقه ضد مجموعات أخرى معادية. كما أستخدمت الحركة الشعبيية الأطفال فى رحلة طويلة من بحر الغزال مروراً بأثيوبيا حتى معسكر كوكودام بكينيا فى نقل العتاد والمؤن ومن ثم جنوداً فى القتال رغم أنف أتفاقية حقوق الطفل.
3
مراحل تطور الصراع والنزاع الدموى والحروب:
مسار النزاع فى مقابل نتيجته - المسار الدائرى فى مقابل الخطى
تركز المقارنة المفضلة فى هذا المقال على مسار النزاع بدلا من نتيجته، وتنظر الى هذا المسار بوصفه دائرياً وليس خطياً، لأن النزاع يحمل فى داخله طاقة والمعروف بأن الطاقة لا تفنى، ولذا يتوقف مسار النزاعات فى الطريقة والأسلوب الذى يعبر فيه عن ذلك النزاع، فاذا كان التعبير سلبياً هذا يقود للعنف والدمار وأفشاء ثقافة الحرب والعدوان، واذا أتخذ التعبير منحاً ايجابياً، هذا يؤدى للتفاوض الذى يؤدى بدوره أعمال مبدأ أنت تكسب/ونحن نكسب حيث تسود ثقافة السلام واحترام الآخر. هذا يعنى ان التركيز سيكون على الطريقة التى تنشـأ وتتطور فيها النزاعات بدلا من الاهتمام بطريقة انتهائها.
وعلى الرغم من انه من المفروض ان مسارات النزاعات لاتتطابق الا انه قد تلاحظ وجود انماط ومراحل عامة فى تطور هذه النزاعات وهى التكوين والتصعيد وتواصل العنف والتحسن والتحويل وطاقة تصريف النزاع أو التعبير عن النزاع.
1- التكوين
وتبدأ مرحلة تكوين النزاع عندما ينشط خط انقسام بين اطراف ما، وقد يكون هذا الخط الانقسامى اختلاف حول الحصول على موارد اجتماعية او حول توزيع السلطة , أو الخصائص السكانية او اللغة او مستقبل القطر أو مكاسب شخصة آنية . ( الأمثلة لاحصر لها, وتقف أيلولة منطقة أبيى خير شاهد ودليل، أنقسام الكيانات الجهوية، الحزبية، الرياضية والأسرية) ويكون النزاع فى حالة التكوين عندما تصبح اى من هذه الخلافات التى تنقسم حولها الجماعات والأفراد، والتى قد تكون مزمنة او حاضرة لاوقات طويلة واكثر اهمية ومركزية من وجهة نظر هذه الاطراف انها تتحول الى مسائل مصنفة للمواقف، حيث تتركز النقاشات السياسية والأجتماعية والأسرية وحوارات الرأى العام اكثر فاكثر حول المسائل الخلافية بين تجمعين داخل نظام واحد. ويظهر الى السطح بوضوح احساس جديد بالمعارضة والمؤازرة والمواقف على شاكلة ما / الفوز أو الخسارة، ويمكن النظر الى هذه المرحلة ايضًا بوصفها مرحلة النشأة فى مسار النزاع حينما يصبح من نزاع مزمن خفى الى نزاع واضح وجلي.
ويتطور النزاع الى مرحلة اخرى وينتقل من مرحلة التكوين الى مرحلة التصعيد عندما تتحول نقاط الخلاف الى قضايا والاختلاف الى عدم توافق او اختصام وهذه هى المرحلة التى يبرز عدد من القادة والأفراد الذين يبدأون فى تعريف انفسهم ومجموعاتهم وفقاً لهذه القضايا أو سنداً لحقوق الناس من السكان والأفراد من الأسرة وأحتياجاتهم.
2- التصعيد
ويحدث التصعيد عندما تصل الاطراف المتنازعة الى مرحلة التعبير الصريح عن العداء حيث تطفح الخطب العامة والصحف واحهزة الاعلام بالاتهامات القاسية والصريحة من كل مجموعة ضد الاخرى, وتصبح اللغة المستخدمة باطراد هى لغة المطالب والتهديدات والانذارات, وينتقل صدى هذا العداء الى الاحاديت اليومية للناس, ولكن عندما لا يحدث ذلك, يكون هناك انقسام آخر بين الشعب وقادته وهو ما يمكن ان يتطور ليعقد ويعدل النزاع الاساسى. اما عندما تتطابق لغة القادة ولغة الشارع فى التطرف، فان ذلك مؤشر على تصعيد متسارع للنزاع, غالباً فى اتجاه العنف، واحياناً درجة قصوى من العنف. وقد تكون لغة احاديث الناس فى المرحلة المبكرة للتصعيد متفاوتة فى درجة عدائها بالمقارنة مع لغة الخطب الرسمية للقادة، غير ان الاثنين يلتقيان تدريجياً حتى ليبدو ان فهمًا مشتركاً للعدو يختلق بينهما. مثل هذا التطور يعطى اشارة بان التصعيد فى طريقه لان يكون حرباً مفتوحة. وتتمثل الخصائص الاساسية لهذه المرحلة فى ازدياد حدة وصراحة العداء والاستقطاب المتزايد بين الاطراف, حيث تكون ردة فعل احدهما على تحركات الآخر المعادية بطريقة " الرهان المتصاعد " وتتزايد حدة الاستقطاب بسعى الاطراف المتنازعة الى جذب حلفاء اخرين لمساندة قضيتهم.
ويتواصل التصعيد وقد يلجأ اى من الطرفيين الى درجة دنيا من العنف ( او ينسبه أحداهما الى الآخر ) الامر الذى قد يؤدى الى تفجر اوسع للعنف, ويعتبر العنف المادى بوابة حالما يتم عبورها فانها تغير اشكال التنازع بين السكان بطريقة تؤدى الى تزايد رد الفعل التصعيدى للعنف, وتجعل التهدئة امرا اكثر صعوبة. ان افضل ما يصف هذا الوضع هو مصطلح " دائرة العنف ".
3- سايكولوجية تواصل العنف
يصل النزاع مرحلة تواصل العنف عندما تلجأ الاطراف المختلفة الى حالة الحرب المفتوحة وتنظم المجموعات والمجتمعات نفسها بغرض ادارة هذا النزاع الدموى, وفى هذه المرحلة تحدث ايضاً بعض التطورات, حيث يتحول العنف الى حالة مرضية غير محدودة, لايزعها وازع من مهاجمة المدنيين, والاضرار بالبنية التحتية والبيئة, ويصبح الهجوم والدفاع العسكرى هو اسلوب التواصل الوحيد مع الجانب الآخر, المقبول علناً. فى حالة ما اذا كانت هناك محادثات جارية او اتصالات بطرف ثالث, فانها يجب ان تبقى سراً لكانما الاعتراف بها يضعف من ارادة مواصلة الحرب وفى هذه الحالة يؤصم كل من يدعو الى بدائل اخرى عوضاً عن الحرب الكاملة بالخيانة, ويتزايد باطراد ضعف المؤسسات المدنية وقد يصبح معظم السكان المدنيين سلبيين، لا رأى لهم فيما يجرى, مسلوبى الإرادة والتفكير, مغيبين نفسياً عن قصد, نازحين أو لاجئين.
وتوصف هذه المرحلة من النزاع احياناً بانها " الشرك النفسى " حيث يبدو بالنسبة للاطراف المشاركة ان كل شئ يعقبه اسوأ , والمصطلح المناسب هو " حرب الاستنزاف" وتغييب العقل الجمعى وأقصاء من يتحدث عن التفاوض ووصمه بالأستسلام والخذلان. وتتصاعد سايكلوجية العنف ولا يبدو ان هناك نهاية منظورة بخلاف النصر الكامل او الخسران المبين (بينما يختلف الامر فى الواقع تماماً فى معظم النزاعات ).
4- التحسن وبصيص الضوء آخر النفق:
تعتمد الطريقة التى يتم بها التوصل الى مرحلة التحسن غالباً على " حظوظ الحرب " فكثير ما يتم الوصول الى مرحلة التحسن مرات عديدة, فى البداية كنوع من " الفجر الكاذب " وسراب يحسبه الظمآن ماء (أنظر أحلام سكان السودان أبان أتفاقية مشاكوس الأولى وأنهيار أتفاق أبشى فى حل مشكل دارفور) الذى لايمكن المحافظة علية, اذ سرعان ما تراجع النزاع الدموى الى مرحلة تواصل العنف السابقة بمواصلة العدائات (أحتلال توريت وتداعياته) . وقد تكون الدوافع الى الهدنة خليطاً من الاسباب ( سأم الحرب الخداع والاسباب التكتيكيه, أمتصاص الضغوط الخارجية, كذلك الرغبة الحقيقية فى ايقاف الدمار ). غير انه كثيراً ما تنهار اتفاقيات وقف اطلاق النار, ويكون تاثيرها الرئيسى هو دفع كل من الطرفين لمضاعفة جهوده الحربية. فى نهاية النفق, الامر قد يؤدى مستوى الدمار الذى حدث, وامكانية استمرار الحرب دون ان يكون منظوراً احراز نصر , الى تغيير موقف احد الطرفين او كلاهما بحيث يكون ممكناً تقديم بعض التنازلات للوسطاء , وهو ما لم يكن متصوراً فى السابق . او قد تكون هزيمة احد الاطراف قد اصبحت وشيكة , وفضلت الاطراف المختلفة تسوية سياسية بدلا من الضغط باتجاه المزيد من الدمار. فى بعض الحالات يؤدى تدخل حليف جديد الى تغيير موازين القوة بين الاطراف المتحاربة. مما يؤدى الى احتمال احداث تغيير فى نتيجة والمسار الزمنى للنزاع. أو ربما يتطلب الموقف الأقليمى أو الدولى تغيير فى مواقف الوسطاء (وثيقة نوكورو) لأختبار المواقف أو أشهار الكروت الصفراء والحمراء كمشروع سلام السودان.
5- تحويل النزاع:
ليست بالضرورة الوصول الى هذه المرحلة عند نهاية النزاع الدموى. لان اسبابه قد تظل باقية وجاهزة للتصعيد فى وقت لاحق. وقد يتضح ان النزاع الدموى لم يؤد فى الواقع الى تغيير اى شئ اساسى , بل يؤدى الى ازدياد مشاعر الغبن والاحساس بالظلم وهو ما قد يتم التعبير عنه فى وقت لاحق بنزاع دموى آخر . وينظر الى النزاع بوصفه قد انتقل الى مرحلة التحويل عندما يتم التعبير عنه بصورة معقولة, بوسائل غير عنيفة,( الدخول فى مسار التفاوض السلمى) وعندما تحدث تغييرات تزيل او تخفف المسببات او نقاط الخلاف الاصلية للنزاع . وغالباً ما تكون هذه التغييرات تعديلا فى تشوهات موازيين القوى ( السياسية والاقتصادية والثقافية والجغرافية ). وليس ضرورياً ان يتم التوصل الى مرحلة تحويل النزاع كخطوة لاحقة - لتواصل النزاع وتحسن النزاع , اذ يمكن تحويل اى من مراحل تطور النزاع باستخدام الاجراءات الوقائية ووسائل التدخل التى سيأتى ذكرها فى الجزء التالى .
يجب النظر الى النزاعات بوصفها امراً لايمكن تجنبه فى حياة البشر(Un-avoidable). غير انه يمكن التعبير عنها ( او التصرف بازائها ) بطريقة تتفاوت فى نوعيتها. وما يتطلب التحويل هو الاستعداد الكامن للتعبير عن النزاع باشكال عنيفة او حربية , ولا يجوز ان يكون الهدف من التحويل هو كبت النزاع. فقد ينجح هذا الاجراء بصورة مؤقتة , لكن النزاع قد ينفجر فى مرحلة لاحقة بشكل قد يكون اكثر قوة واقل قابلية للسيطرة عليه. كذلك يكون هدف تحويل النزاع هدفاً اساسياً طويل المدى وهو المساعدة على تعزيز السلام المستقر والمستدام .
• وحتى يكون من الممكن الوصول الى هذه المرحلة فانه من الضرورى ان يسمح للتزاع بان يتطور ويدار بطرائق غير عنيفة بمشاركة العقل الجمعى , ينتج عن مشاركته الفاعلة تغيرات تفى وتزيل وتخفف المسببات الاصلية للنزاع . فى المقابل ليست كل مسببات النزاعات ( او مزاعمها ) عادلة , ونادراً ما تكون ممكناً مقابلتها جميعا. ومن ثم تظهر قضية من الذى يقرر فى عدالة المطالب, وفى كيفية مقابلة كل منها, وهى مشكلة عصيبة ودائمة ومصاحبة لكل انواع التدخلات.
تحويل النزاع :
يستخدم مصطلح " التدخل " كثيراً بمعنى التدخل العسكرى فى نزاع ما , على سبيل المثال عن طريق الامم المتحدة او الأتحاد الأفريقى الوليد على غرار مايجرى الآن فى ليبريا. غير ان هذا المقال لايستخدم مصطح تحويل النزاع ابداً بهذا المعنى , بل يحدد ان ما يتم التدخل فيه هو مسار أقتصادى وأجتماعى, ثقافى نفسى وتطور التزاع يهدف تشجيع العناصر البناءة بدلا من العناصر المدمرة للنزاع الدامى .
أساليب التدخل :
الهدف النهائى لتحويل النزاع هو التوصل الى السلام المستدام. ويمكن ان يحدث التدخل الساعى لتحقيق هذا الهدف فى اى مرحلة من مراحل تطور النزاع, حيث تناسب اشكال مختلفة من التدخل كل مرحلة من مراحله, ومن المهم الا يؤخذ مصطلح التدخل بانه يعنى ان هذا التدخل لايتم الا من اطراف ثالثه كخبراء النزاع المتخصصين مثلا. بل يمكن ان يأتى هذا التدخل من قبل اى من الاطراف المتنازعة او اى من اعضاء المجتمع ( أنظر لمجاهدات لجنة العشرة وطرحها للميثاق الوطنى وتأرجحه ما بين التماسك والأنهيار) وهو المعنى بدافع رأب الصدع النفسى فى التعبير عن العفو والمصالحة, وايضاً من قبل اطراف ثالثة متجردة من خارج اطار النزاع وهذه قليلة الوجود فى عالم اليوم.
مراحل تطور النزاع- التدخلات - تحويل النزاع:
1- مرحلة تكوين النزاع :- الانذار المبكر والنشاط المبكر/ الوقائى
يهتم الانذار المبكر بلفت الانتباه الى حالة نزاع قد تكون على وشك الظهور. ويتزامن ذلك مع تنظيم تدخلات تشجع على اتخاذ النزاع اشكالا غير عنيفة, ان ما تسعى مثل هذه التدخلات لتجنبه هو التعبير العنفوى والدامى والحربى للنزاع.
وتشمل ردود الفعل المبكرة وغير القسرية لاحتمالات النزاع النداءات الدولية وفرق تقصى الحقائق التى تسعى اتحديد القضايا موضع الخلاف, وتوفير منبر للحوار والتفاوض والتشاور غير الرسمى مع الاطراف المعنية, واستقطاب المؤسسات الحكومية وبين الحكومية, وتوفير المعنيات اللوجستية والفنية لجهود الوساطة والتفاوض الخ ...
غير ان فعالية التدخل الوقائى محدودة , ويقتصر نجاحها فى الغالب على حشد النوايا الحسنة والاستعداد للمشاركة البناءة من قبل الاشخاص الرئيسيين المشاركين فى مرحلة تكوين النزاع. ولكنه غير ناجح على المدى الطويل اذا لم تعالج الجذور الحقيقية للنزاع. لذلك يكون الحصول على افضل النتائج باتخاذ اجراءات مصاحبة وطويلة المدى تتعامل مع اصل المشكلة مثل التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية وضعف المؤسسات الحكومية وغير الحكومية وتفعيل دور المجتمع المدنى , كذلك يمكن ان تتضمن الاجراءات طويلة المدى أبعاد اقتصادية كتدابير تقسيم الثروة والموارد للحفاظ على جهود بناء ما بعد السلام (Post Peacebuilding). وتبرز أهمية دعم تحسين هياكل الحكم والمجتمع المدنى والتدريب على حلول التدخل الثقافى دوراً هاماً فى تنفيذ برامج موسعة لتطوير مؤسسات منع النزاعات. هذا بالاضافة لتعزيز التنوع الثقافى وتطوير آليات تسهم فى الحل السلمى البناء للمطالب المتعلقة بالحكم الذاتى .
2 - تصعيد النزاع: - احتواء الازمة
أحيانًا يكون جلياً ان نزاعاً ما فى طريقه للتصعيد, حتى قبل وقوع احداث عنف اجتماعية او نشاطات عسكرية, فى مثل هذه الاوضاع يمكن ان يؤدى تدخل شخصيات الحكماء ومؤسسات المشهود لها بالنزاهة والاستقامة الى حث الاطراف على تغيير مجرى الاحداث فى اللحظات الاخيرة. غير انه فى حالة تفجر النزاع الدامى فان فرص التدخل على المدى القصير تكون محدودة جداً, حتى ليبدو ان شبقاً للتقاتل يجب اشباعه أرضاءً لكرامة زائفة لشخصية متطرفة قبل ان تصبح البدائل الاخرى ممكنة, وهذه هى المرحلة التى يمكن فيها تدخل واسع المدى واللجوء الى الأجاويد وقوات حفظ السلام للفصل بين المتحاربين.
3 - تواصل النزاع: - التمكين , الوساطة , التحكيم
تعتبر هذه المرحلة هى الاصعب للتدخل فيها بسبب مواقف القتال حتى الموت عصية التتبع التى تتميز بها. وقد تكون هناك صعوبة فى الاتصال بالمحاربين وحثهم على اعطاء الفرصة لبدائل غير عسكرية, وقد يبدو ان تمكين المقاتلين مسالة تنطوى على تناقض. ولكن قد تكون هناك صعوبة فى التوصل اليهم , وقد يكونوا غير راغبين فى اخذ بدائل اخرى غير عنيفة فى الاعتبار , لانهم يخشون ان يفسر عدوهم ذلك كنوع من الضعف. لذلك فان نجاح المرء فى ان يصبح موضع سرهم ويكسب ثقتهم واستعدادهم لاعطائه جزء من زمنهم فى ظل ثقة كاملة بسرية المفاوضات لهو امر بالغ الاهمية ومن ثم يصبح ممكناً السعى لتوسيع مداركهم وتداول الاحتمالات الممنوعة ( علناً ) مهم , بل وحتى اعطاءهم المجال للتعبير عن مشاعرهم حول تطور النزاع, فى أحاديت خاصة مع طرف خارجى موثوق به, بهذه الطريقة يمكن البناء لاحقاً على هذه الاسس التى تم وضعها بهذا الاسلوب مما قد يعطى مقترحات السلام فرصاً للنجاح. سلبية هذا الأتجاه ربما يعطى الفرصة لإخفاء افكاراً وبنوداً سرية ليست ذات مصلحة عامة وإنما لمصلحة العناصر المتحاربة والمتفاوضة فقط, وهو ما يساعد على الأنتكاسة اللاحقة.
الوساطة:
تعرف بانها تدخل وسيط ماهر وذو خبرة يسعى لتيسير تسوية متفاوض عليها لنزاع ما, وفقاً لمجموعة من النقاط الواقعية ويمكن ان يكون الوسطاء اطراف ثالثة خارج النزاع, كما انهم قد يكونوا على صلة باى من الاطراف المشاركة فى النزاع. وتستخدم الوساطة الفعالة الكثير من الآليات نفسها ( جلسات المحادثة المشتركة, استخدام الوسائل التحليلية, حث وتشجيع اطراف النزاع, التحكم فى المعلومه ) ولكنها تلجأ ايضاً الى الضغوط والاكراه من قبل طرف ثالث, على شكل وعود بالمكافاة, او تهديد بالمعاقبة, وهو دور تلعبه فى العادة اطراف اقليمية او دولية تملك القوه والنفوذ ( مرة أخرى التلويح بسلام السودان من قبل الكونجرس).
التحكيم:
ويتطلب طرفاً ثالثاً يتمتع بالشرعية والنفوذ ويصدر حكما ملزماً لاطراف النزاع تم التوصل اليه بعد تمحيض صلاحية الحجج المعارضة, ويفرض تسوية يفترض ان تكون عادلة ومتوازنة .
تعتبر الوساطة الفاعلة والتحكيم " تمارين فى القوة والنفوذ " ولكن يعيبها ان كلاهما كثيراً ما يخفق فى معالجة الاسباب الكامنة للنزاع. فهما يعتمدان على اطار قانونى واحياناً قسرى لضمان التزام الاطراف بالتنازلات والوعود المبذولة .
4- التحسن: التفاوض , التوفيق , حل المشكلة
تحدث هذه المرحلة من النزاع بتغيرات تطال استعصاء النزاع والنزعة الضيقة الافق التى تتسم مرحلة تواصل النزاع السابقة, وكثيراً ما يتزامن ذلك مع التحسن فى تطور النزاع فى هذه المرحلة يبدأ القادة فى القاء نظرة اكثر عمقاً على النزاع, وتامل الدمار الذى احدثته الحرب, مع البدء فى التفكيير باسلوب استراتيجى واسع الافق، يعترف بوجود بدائل اخرى لخيار مواصلة الحرب. وتنقسم المفاوضات الى مرحلتين - المفاوضات الاولية ثم المفاوضات الاساسية وتعنى الاولى بالاستراتيجيات المناط بها حث الاطراف للجلوس على طاولة التفاوض وتحديد المتطلبات اللوجستية, والاطار الزمنى للمفاوضات, ووضع اهداف طموحة ولكنها واقعية لكل مرحلة من مراحل المفاوضات الاولية. ويتمثل الهدف الاستراتيجى لهذه المفاوضات فى تخفيف حالة الاستعصاء التى يتصف بها النزاع, وتعميم مسار يضمن جلوس الطرفين للتفاوض, والبدو باجراءات بناء الثقة اللازمة لنجاح التفاوض. ومن المسائل ذات الاهمية الكبيرة فى هذه المرحلة اعداد وتمكين مجموعات تدخل جاهزة من قواعد المجتمع او المواطنين وايجاد رباط قوى بين المشاركين فى النزاع والنخب المحلية الحاكمة. وقد دلت التجارب على اهمية الاخذ فى الاعتبارات التالية بوصفها اساسيات المفاوضات الاولية الاساسية :
• فهم المسببات الاصلية للنزاع وفق الأرادة القومية
• الشراكة فى مسار حركة التفاوض والسلام
• تحديد كل الاشخاص والمجموعات المعنية بالقضية
• تحديد المعنين على التفاوض
• وضع جدول زمنى واقعى
• المحافظة على فرصة التفاوض المتاحة
• تقديم النجاحات والاخفاقات
• دوائر الدعم الاستراتيجى
• الشفافية فى تشر كافة المعلومات وبنود الأتفاق والأختلاف
ويعرف التوفيق بأنه اشراك طرف ثالث موثوق به يوفر منبر اتصال غير رسمى بين الاطراف المتناوئة ( أبوجا, الأيقاد، تشاد فى حالة دارفور) بغرض تحديد القضايا الرئيسية المعنية, وتخفيف التوترات, وتشجيع الاطراف على الانتقال الى مرحلة التعامل المباشر , على سبيل المثال التفاوض حول العلاقات الناشئة بينها .
وتتطلب ورش عمل حل المشكلة تدخل طرف ثالث بارع وحسن الاطلاع ( عادة فريقاً) أو مجموعات من السكان المحليين تسعى لتقديم العون بغرض ايجاد حل مبدع للمشكلة من خلال التواصل والتحليل مستخدما فى ذلك مفهوماً علمياً اجتماعياً لعملية النزاع ... ويفترض هنا ان رفع مستوى التفهم وزيادة الثقة تمكن الاطراف من تسوية خلافاتها فى مسائل هامة وذلك من خلال التفاوض او كجزء من الحل المبدع للمشكلة, فى اطار المشاورات ذاتها. وقد اصبح منهج حل المشكلة اكثر شيوعاً وشعبية فى السنوات القليلة الماضية لازدياد الوعى بمستوى تعقيد و استعصاء الكثير من النزاعات المزمنة.
ويتضمن حل المشكلة مساعدة الاطراف فى طرح النزاع من وجهة نظرها, وجمع وتوزيع المعلومات حول التطورات العامة والنزاعات وبعض النزاعات المعنية, وتحديد البدائل المتاحة وابتكار حلول بديلة, واعادة تعريف النزاع بناء على معلومات جديدة والقيام بجمع المزيد من المعلومات اذا كانت هناك حاجة لها.
ويشير مصطلح منع النزاعات الى الخطوات الواجبة لازالة مصادر النزاع, وايضاً وهو الاكثر اهمية, ايجاد ظروف تؤدى فيها العلاقات المرموقة الى التحكم فى سلوكيات الاطراف. بهذه الطريقة يمكن معالجة كل من الاسباب الآنية والاصلية للنزاع وتقريب الاطراف من اشباع حاجاتهم الاساسية.
مناهج التدخل:
تعتبر سياسة الخطوة خطوة هى المنهج الاكثر شيوعاً فى استخدام مجموعة متتالية من الاجراءات الصغيرة لاستبدال مشاعر عدم الثقة والشك والخوف, والتى تمنع الناس من ايجاد حلول سلمية لنزاعاتهم بمشاعر الثقة والاخلاص وحسن النوايا. وتتمثل بعض نماذج اجراءات بناء الثقة فى الاتفاق على الابتعاد عن الهجوم الشخصى فى الخطب العامة , وتجنب الاشارة الى بعض المسائل التى يشتد الخلاف حولها, والتوصل لوقف القتال ووقف العدائيات فى اوقات واماكن متفق عليها, والسماح لحملات الاغاثة الدولية بالوصول الى المدنيين فى فترات متفق عليها, والامتناع عن استخدام انواع معنية من الاسلحة, او اصدار بيان معد سلفاً.
وقد تبدأ هذه العملية بايماءة احادية الجانب تجد الاطراف الاخرى بعدها انها مطالبة بالرد عليها لأسباب مختلفة - من بينها التاثير على الراى العام الدولى او حليف بعدالة قضيتها. ويمكن ان يؤدى ذلك الى اجراءات يتم الاتفاق عليها مسبقاً بين كل الاطراف. وتكمن قيمة هذه الاجراءات المحدودة فى اثرها الرمزى والنفسى، ويعقبها تواصل الاطراف بصورة غير مباشرة اولا ثم بشكل مباشر فيما بعد, فى حضور وسطاء او معنيين . ويكمن ضعف هذا المنهج ميله للتعثر والعجز عن التقدم جراء التركيز على مسائل غير ذات اهمية بحيت يعقد الرؤيا فيما يتعلق الاهداف النهائية.
ويشير الاطار الاجرائى الى اسلوب يبدأ بتجاهل المسائل الجوهرية للنزاع, ومواقف كل طرف منها, عندما تكون هذه المواقف متاصلة ومتعارضة, ويركز بدلا من ذلك على الاسلوب الذى يمكن من خلاله ان تجلس الاطراف, فى وقت لاحق فى المستقبل , للتفاوض حول المسائل الرئيسية. وهى غالباً ما تدور حول السؤال : اذا كان الاخرين راغبين فما هى الطريقة المناسبة بالنسبة لك فيما يتعلق بمكان التفاوض وزمانه, وفى حضور من من الاشخاص, ومتى , وبأى ضمانات الخ . وهى تؤدى بالتدريج الى تغيير المواقف والعلاقات وتؤدى الى تركيز الاطراف على المسائل الاجرائية بدلا من المسائل الخلافية التى تأتى فى وقت لاحق .
ويشير مصطلح الصورة النهائية الى منهج غاية فى الاختلاف. فبدلا من الخطوات الصغيرة والتقدم التدريجى الهادف الى تقليل المخاطر على الاطراف المتنازعة يجابة منهج النهائية ويستفز الاطراف المتنازعة بسؤال اساسى حول الكيفية التى يعتزمون بها انهاء النزاع. هذه الطريقة تتجاهل على الاقل فى البداية حسن نوايا الاطراف ورغبتهم فى التفاوض وكذلك الاحتمالات الاجرائية, حتى تترك مسئولية ما يخلص من نتائج على عاتق الجهات المتقاتلة, فهى تدفع الاطراف الى رسم الصورة النهائية : هل تستطيع ا لاطراف تصور وجودها جميعاً فى هذا الاطار؟ ما هى العلاقه التى تربط بينهم حينها؟ ما هو الحد الادنى من التغييرات والاتفاقات اللازمة للسماح بوجودهم جميعاً فى هذا الاطار؟ ما هى العلاقة التى تربط بينهم حينها؟ هل تبدو هذه العلاقات والتغييرات والتعديلات اموراً مستدامة؟ ما الذى يساعد على احداثها ؟ وهكذا يعتبر هذا الاسلوب على قدر كبير من الواقعية فهو يخاطب بصورة مباشرة الجذور القمعية للشكوك المتعلقة بالنتائج والدوافع . كما انة يشغل الاطراف المتنازعة فى عملية مبدعة من المضاربة والتفاوض مما قد يؤدى الى تحلل حالات ضيق الافق فى المواقف الذى يقترن بعمليات شن الحرب. وبعد فترة من الزمن قد يكون ممكنا للاطراف تقاسم صورها النهائية فيما بينها. فى البداية من خلال الوسطاء وربما وجهاً لوجه فى آخر الأمر .
تحويل النزاع والاختلافات الثقافية:
ترجع معظم ادبيات حل النزاعات الى تاملات نظرية واكاديمية ذات اصول اروبية امريكية ومن ثم كانت طرائقها فى التعامل مع النزاعات طرائق غريبة مرتبطة ثقافة هذه المناطق, وهو ما قلل من فاعليتها فى مناطق اخرى. اليوم ينظر للمصادر الرئيسية المتاحة لاستيعاب والتعامل مع النزاع, باعتبارها موجودة فى المنظومة الثقافية التى يقع فى اطارها هذا النزاع. ويعنى هذا انه فى الحالات التى يبدو فيها ان آليات تحويل النزاع قد تحللت كما هو الحال فى الصومال - الا ان النظرة المتعمقة ستصر على استكشاف واكتشاف واعادة استخدام الافكار المفتاحية لهذه المنظومة , وهى لا تسأل عن الطريقة التى يتعامل بها الناس فى مواجهة النزاع فحسب. بل ما هى الشبكات الاجتماعية الطبيعية والوسائل العلاجية والمقارنات التى تم استخدامها فى الماضى على المستويات المحلية والاقليمية والتى يمكن البناء عليها اليوم لمواجهة الظرف الحالى.
المصالحة واعادة البناء:
يصبح الأثر النفسى والمعالم البعيدة المدى والطبيعية البناءة لتحويل النزاع جلية عندما تؤخذ فى الاعتبار المصالحة واعادة البناء فى اعقاب نزاع دموى ما(تمعن تجربة جنوب افريقيا فى الحقيقة والمصالحة). ويتضمن هذان المفهومان على عدة عناصر مختلفة يمكن ان يساهم كل منها فى اعطاء الامل بمستقبل افضل وهى:
الاعتراف والمصالحة والمحاسبة بروح الامانة والتسامح وليس بغرض الانتقام وتعويض الضحايا اعادة البناء السياسى والاقتصادى واصلاح الدمار النفسى والشفاء Healing لأسباب الحرب والعفو عن المرارات الشخصية والقبلية (Forgivness) تظل مكون أساسى لبناء التنمية الأنسانية من حيث الحريات والتعبير وجودة نوعية الحياة وضمانة عدم الأنتكاس والنكوص .
لقد أدى استمرار الحرب فى السودان خلال الثمانينيات والتسعينات إلى وفاة ونزوح 4 مليون شخص كما سبق ذكره، هدا الوضع أدى الى تراكم جبال من الملح والأحزان بين البشر,ودمر تنمية القدرات وبناء الهياكل التحتية والخدمات الأساسية.
لهذه الأسباب فان ربط قضايا سايكولوجية الحرب والسلام بقضايا التنمية يظل فى سياقه السليم، وهذا يؤكد من ضرورة تناول قضايا السلام كمدلول ومردود ومسار تنموى. وبالنظر الى تجارب أخرى، يحدثنا التاريخ الحديث بأن هذه المجتمعات المتطورة المتماسكة التى نراها ماثلة الآن، تكونت فيها هذة العلاقة الدينمائية لأن بنياتها التحتية تماسكت بتداخل المصالح الاقتصادية التنموية المشتركة وكذا الحركة الاجتماعية وتجاوزت الأحزان, وبالتالى أرتقى المردود الأيجابى لفكر الشراكة المنتجة، فقلت وتضاءلت مراحل تواصل العنف وحلت مكانها مبادىْ المصالح المشتركة التى وطدت لترسيخ مفاهيم أحتمال الآخر بالألفاء النفسى وان النزاعات حقيقة ماثلة طبيعية وشائعة ولايمكن تجنبها او الهروب منها, ولكن يمكن مواجهتها والتعامل معها والتكيف معها والعمل على حلها بالتفاوض والتنمية الأنسانية والأجماع الوطنى وثقافة السلام.
نواصل فى قضايا الدمار النفسى والأجتماعى والشفاء من المرارات كمدخل لثقافة السلام.
د. عبدالباسط ميرغنى
مدير مركز الأستشارات النفسية والأجتماعية - الخرطوم