مجدي الجزولي
انتهت الكلمة الفائتة إلى بيان بعض من شواهد البطش الرأسمالي عنيف الهيئة إبان الحرب الباردة، ولقد احتفظت عمداً بمثال تشيلي الصارخ والدموي لأنه أدعى للتفصيل و يشكل محنة من محن التحرير وزمانه اختصرها وزير الخارجية الأميركي حينها هنري كسنجر بقوله: "لا أفهم لماذا يجب أن نقف متفرجين لنشهد بلداً يصبح شيوعياً بسبب عدم مسؤولية أهله".
نالت شيلي استقلالها من الاستعمار الاسباني في العام 1818 وحقق شعبها أول حكومة ديمقراطية له سنة 1861. شهدت البلاد أول صدام جدي بين الجيش والسلطة السياسية بين الحربين العالميتين الأولى والثانية تحت حكم السياسي الليبرالي أرتورو أليساندري الذي قام بعدة إصلاحات اجتماعية عارضها الجنرالات لكن ظلت شيلي ديمقراطية. منذ أوائل القرن العشرين برز الحزب الشيوعي التشيلي كقوة رئيسية في البلاد وفي القارة، كما شارك الشيوعيون التشيليون في عدة حكومات ائتلافية يسارية منتخبة، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية تأسست حكومة يمينية قامت بسن تشريع يحرّم نشاط حزبهم واسع النفوذ. حتى الثلاثينات كانت ضرائب تصدير النترات تشكل 50% من دخل الحكومة التشيلية ليأخذ بعدها النحاس مكان النترات مصدراً أساسياً للنقد الأجنبي.
في العام 1970 انتخب التشيليون سلفادور أليندي زعيم الحزب الاشتراكي رئيساً للبلاد عن تحالف "الوحدة الشعبية" المكون من 6 أحزاب ماركسية. كان على أليندي مواجهة اقتصاد خاضع لاستغلال الشركات الرأسمالية الأميركية القابضة على 80% من صادرات تشيلي. نتيجة هذا الخضوع كانت دين خارجي قدره 4000 مليون دولار أمريكي تشكل خدماته السنوية 30% من قيمة صادرات البلاد في العام ومعدل تضخم سنوي مزمن بين 20 إلى 30% نجمت عنه أوضاع اجتماعية يشهد عليها معدل سوء التغذية بين الأطفال تحت سن 15 وقدره حينها 50%. تضمن البرنامج الانتخابي للماركسيين بقيادة أليندي خطة اقتصادية أرادوا بها شق طريق تشيلي الديمقراطي نحو الاشتراكية، ذلك الذي انقطع بعد 34 شهر، بين بنودها: تأميم الصناعات الكبرى أي النحاس، النترات، الحديد، اليود؛ تأميم قطاعات الكهرباء والنقل والاتصالات؛ تحرير صغار المنتجين في القطاع الخاص من استبداد الاحتكارات، في العام 1967 كانت 150 شركة فقط من بين 3500 تتحكم في السوق التشيلي حيث تتلقى أكبر قسط من دعم الدولة وقروض البنوك وتستغل البقية عبر بيع المواد الأولية بأعلى الأسعار وشراء منتجاتهم بأدناها؛ إصلاح زراعي يضمن حياة ورفاهية صغار الفلاحين وتنمية لا مركزية. الخطوة الأولى التي اتخذها أليندي كانت تأميم فرع شركة اناكوندا (Anaconda) وفرع شركة كينيكوت للنحاس (Kennecott Copper) بتشيلي، اللتان تحملان الجنسية الأمريكية، والثانية كانت زيادة أجور كافة قطاعات الطبقة العاملة بنسب تراوحت بين 40 و70% ما لم يتسبب في تصاعد جنون معدل التضخم نسبة لتوفر إمكانيات إنتاجية معقولة ومخزون من السلع مطروح في السوق يستطيع إمتصاص الضخ النقدي بالإضافة إلى رأس المال الناتج عن عمليات التأميم وزيادة الضرائب على الطبقات العليا، وكذلك تركيز الأسعار من جانب الدولة. حصيلة سياسات أليندي كانت طفرة كينزية (Keynes) كما يعرفها أهل الاقتصاد، هكذا مرت السنة الأولى من حكم الماركسيين التشيليين (1970 – 1971) حتى تدخلت الولايات المتحدة لفض سامر السعادة الشعبية. في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 4 ديسمبر 1972 سرد هذا المناضل الفذ قصة بلاده تحت الحصار: "كان لزاماً علينا، نحن التشيليون، أن نضع نهاية للأوضاع التي أجبرتنا على تصدير مبالغ مهولة من رأس المال لفائدة أقوى اقتصاد سوق في العالم، بينما نعاني الفقر والعوز. إن تأميم مواردنا يعتبر مطلباً تاريخياً، إذ لا يستطيع اقتصادنا البقاء خاضعاً لحفنة من الشركات الأجنبية التي تتحكم في 80% من صادراتنا، شركات لا تراعي إلا مصالحها الخاصة وتتجاهل مصالح البلدان التي تجني منها الأرباح. كذلك لا يمكننا قبول لعنة "اللاتفندية" (رأسمالية تجارية طفيلية) والاحتكارات التجارية والصناعية التي تتمتع بالقروض وتفرض لا مساواة قاسية في توزيع الدخل. لقد أممنا ثرواتنا الرئيسية، لقد أممنا النحاس بقرار صادر بإجماع البرلمان حيث أحزاب الحكومة أقلية. نريد أن يفهم الجميع أننا لم نصادر شركات النحاس الأجنبية الكبرى. لقد صححنا ظلماً تاريخياً، بالتوافق مع مواد دستورنا، عبر خصم كافة الأرباح منذ عام 1955 التي تجاوزت عتبة 12% سنوياً من قيمة التعويضات. بعض هذه الشركات حصلت على أرباح مهولة في ال 15 سنة الفائتة ولذا تأثرت بخصومات ضخمة عند تطبيق قاعدة 12% كحد أعلى للربح المعقول. مثال لذلك فرع شركة "أناكوندا" التي حققت في شيلي أرباحاً تجاوزت 21.5% في العام منذ 1955، بينما كانت أرباح نفس الشركة في بلدان أخرى 3.6% فقط. كذلك حال شركة "كينيكوت" للنحاس التي حققت في نفس الفترة الزمنية أرباحاً متوسطها 52.8% في العام وفي بعض السنين 106% (1967)، 113% (1968) و205% (1969). في نفس الحقبة لم تتجاوز أرباح هذه الشركة في بلدان أخرى 10% سنوياً. مما يستحق الذكر أن هذه الشركات قد ابتدرت مشاريع للتوسعة في الأعوام السابقة للتأميم لكنها فشلت. إن تمويل هذه المشاريع لم يتم من دخل الشركات المهول بل من قروض أجنبية، لذا ووفقاً للقاعدة القانونية كان لزاماً علينا أن نتحمل تبعات هذه الديون التي تبلغ أكثر من 727 مليون دولار أميركي، وقد بدأنا تسديد ديون إحدى الشركات لشركة "كينيكوت" الأم في الولايات المتحدة. لقد تم تأميم النحاس بإعتبار تام للنظام القانوني وباحترام ملتزم لقواعد القانون الدولي، وليس من سبب يدعو إلى مساواة الأخير بمصالح الشركات الرأسمالية الكبرى. لقد تأثرنا بالضغط الأجنبي منذ فوزنا الانتخابي في 4 سبتمبر 1970، هدف هذه الضغوط كان أولاً منع تشكيل الحكومة ثم الإطاحة بها ثم عزلنا عن العالم وتجميد بيع النحاس – سلعة التصدير الأساسية لبلادنا، ثم حجب التمويل الدولي عن تشيلي. كأي من بلدان العالم الثالث، تؤتى تشيلي من قطاع اقتصادها الخارجي. لقد خسرنا ما يزيد عن 200 مليون دولار في العام السابق جراء تناقص سعر النحاس في السوق العالمي، هذا ولا يتعدى إجمالي صادراتنا في العام 1000 مليون دولار، بينما تكلفة السلع الصناعية والزراعية التي يلزم شراؤها أعلى بكثير، أحياناً بما يزيد عن 60%. كما هو الحال دوماً تشتري تشيلي بأسعار مرتفعة وتبيع بأسعار منخفضة. حتى قدوم حكومتي كانت تشيلي تتلقى سنوياً ما يقارب 80 مليون دولار كقروض من بيوتات النقد الدولية كالبنك الدولي وبنك التنمية البين أميركي، هذه القروض تم إيقافها ضربة لازب. كانت بلادي، حتى انتخابي رئيساً، تحصل على قروض قصيرة الأجل من بنوك أميركية خاصة بحجم 220 مليون دولار في العام، بغرض تمويل التجارة الخارجية. خلال فترة قصيرة تم تجميد هذه القروض ثم تم سحب 190 مليون دولار كان علينا تسديدها إذ أن عمليات التمويل الجارية لم يتم تجديدها. كمعظم بلدان أميركا اللاتينية، ولأسباب تكنولوجيا وعوامل أخرى، على تشيلي أن تشترى معظم السلع الرأسمالية التي تحتاج من الولايات المتحدة، الآن تم تجميد القروض التي تمكّن من تمويل هذه العمليات الشرائية مما أجبرنا على الدفع مقدماً وبالتالي وضع ميزانية بلادنا تحت ضغط رهيب. نتيجة لعدة نشاطات استهدفت منعنا من بيع النحاس في بلدان أوروبا الغربية توقفت كافة عملياتنا المالية مع بنوك أوروبية خاصة والتي تعتمد على الدفع باستعمال هذا المعدن، خسرنا أكثر من 20 مليون دولار بسبب قروض لم يتم تجديدها كما تم تجميد مفاوضات كانت قد أوشكت على الانتهاء بخصوص 200 مليون دولار أخرى. الحصيلة كانت خلق مناخ يحول دون السير الطبيعي لنشاطاتنا المالية في هذه البلدان وشل كافة عملياتنا في مجال التمويل الأجنبي. إن الخناق الاقتصادي الذي نعاني أدى إلى تحجيم قدرتنا على شراء المعدات وقطع الغيار والأغذية والدواء، كل مواطن تشيلي يعاني الأمرين في حياته اليومية، ما ينعكس حتماً على حياة بلادنا السياسية".
بالطبع لم ينتهي التحرش الأميركي بالديمقراطية التشيلية عند الحصار الاقتصادي. في مارس من عام 1972 كشفت حكومة أليندي عن وثائق تثبت تورط شركة التلغراف والتلفون الدولية (ITT)، وهي عابرة رأسمالية للقارات يزيد رأسمالها عن ميزانيات عدة بلدان مجتمعة في أميركا اللاتينية، في عمليات إرهابية اجتاحت الشارع التشيلي في سبتمبر ونوفمبر 1970 بما في ذلك اغتيال قائد الجيش الجنرال رينيه شنايدر شيريو، الرجل الذي كان أليندي يعتبره رمزاً لتمسك الجيش بالدستور. في نفس الفترة حفزت وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) روبرتو مورابيو وهو جنرال متقاعد كان قد قاد تمرداً في السابق ضد الرئيس فراي، على القيام بانقلاب ضد حكومة أليندي.
رغم ذلك كان لحكومة "الوحدة الشعبية" بقيادة أليندي ما تفخر به بنهاية عامها الأول: سيطرة الدولة على 90% مما كان يعرف بالبنوك الخاصة؛ خضوع أكثر من 70% من المشاريع الاستراتيجية والاحتكارات الكبرى للتأميم أو النزع أو تدخل الدولة بصورة أخرى بينها صناعات النحاس والفحم والحديد والنترات؛ سيطرة الدولة على أكثر من 2.4 مليون هكتار من الأراضي الزراعية ضمن برنامج الإصلاح الزراعي سلّمت للفلاحين غير الملاك، أسست الدولة معهداً للتدريب المهني ومؤسسة تنموية موجهة نحو سكان تشيلي الأصليين من الهنود الحمر، توفير اللبن مجاناً لكافة أطفال تشيلي، زيادة الانتاج الصناعي بمعدل 14%، خفض معدل البطالة من 8.4% في سبتمبر 1970 إلى 4.8% في نوفمبر 1971.
كثفت الولايات المتحدة عبر وكالتها المركزية من نشاطها المضاد لحكومة تشيلي الديمقراطية مستغلة التدهور الاقتصادي الذي فرضه الحصار المضروب على البلاد، حيث وصل معدل التضخم في عام 1973 إلى 150%. لم تبخل الوكالة على قوى اليمين مالياً وعسكرياً كما أفلحت جداً في استغلال الحريات السياسية والمدنية التي يلهج بها أليندي فمدت شرايين تمويلها وحبال مؤامراتها إلى أجهزة الإعلام المتنفذة والتعددية من صحف وراديو وتلفزيون وجميعها لا تخضع لرقابة حكومية ومتاح تأسيسها لكل المواطنين. شهد شهر يونيو 1973 فضح خطة انقلابية مدعومة أميركياً تلاها تمرد عسكري قاده أحد الضالعين في المؤامرة على رأس فرقة عسكرية شقت طريقها عبر شوارع سانتياغو العاصمة لتحاصر وتطلق النار على القصر الرئاسي "لا مونيدا" ومقر وزارة الدفاع في ساحة الحرية "بلازا لا ليبرتاد".
النهاية المأساوية لحكومة "الوحدة الشعبية" ابتدأت في الساعة السادسة من صباح 11 سبتمبر 1973، تاريخ الانقلاب الذي قاده سفاح تشيلي الجنرال أوغستو بينوشيه. استولى الانقلابيون أولاً على ميناء فالبرايسو غرب سانتياغو ثم تباعاً وزارة الدفاع المجاورة للقصر الرئاسي والقيادة العسكرية في بنتاتولين. رفض أليندي عرض الانقلابيين بالاستسلام ومغادرة البلاد على متن طائرة خاصة بصحبة أسرته. بين الساعة التاسعة والعاشرة صباحاً ابتدأ الهجوم على "لا مونيدا" وبداخله الرئيس أليندي وعدد من معاونيه وجنوده لا يزيد على المائة، اشتركت دبابات وطائرات عسكرية في قصف القصر الرئاسي من الأرض والسماء دون هوادة بينما قاتل الرئيس ومعاونيه بالبنادق الرشاشة. عند منتصف النهار تمكنت مجموعة من الجنود من اقتحام إحدى بوابات القصر الرئيسية والاستيلاء على الطابق الأرضي. من موقعه في الطابق الثاني أمر الرئيس من تبقى من معاونيه بوضع السلاح ومغادرة القصر ثم دخل قاعة الاستقلال ليجلس واضعاً بندقيته بين ركبتيه وفوهة البندقية أسفل ذقنه. أنهت رصاصتان حياة الرئيس الدستوري لتشيلي.
ديكتاتورية بينوشيه العسكرية دامت من 1973 حتى 1990، خلال هذه الأعوام تعرض الآلاف من مواطني شيلي للقتل والتعذيب والسجن، كما غادر عشرات الآلاف بلادهم هرباً من القهر والاستبداد والظلم. هذا بشهادة لجنة الحقيقة والمصالحة التي تم انشاءها عند استعادة الحكم المدني في 1990 وهيئة جبر الضرر والمصالحة اللاحقة لها والتي تم تاسيسها في 1992 بالإضافة إلى تقارير منظمة العفو الدولية.
نوفمبر 2005