(1) تسارعت الأحداث بشكل درامي رهيب فعظم الابتلاء و وقع المحذور فصار إخوة الأمس أعداء.جلس بعضهم على كرسي الحكم والبعض الآخر جلس على حصير بالي من وراء القضبان. ذلك النفر من الصادعين برأيهم، المنكرين لما وقع من إجراء، غير آبهين لما ينجر عليهم من أذى وإضطهاد إلا من حديث نفس وضمير ثباتا على مبدأ عهداً وميثاقاً. أحسبهم وغيرهم من الأخيار. كان قدرنا أن نكون جزءاً من ذلك النفر الذين جئ بهم من ولايات شتى(( بعد المذكرة الشهيرة)) حيث جمد الحزب وزج بهم في ذلك السجن العتيق. يمثلون أجيالاً وتجارب شتى تفاوتت كسوبهم وإبتلاءاتهم كما إختلفت بيئاتهم وأقاليمهم. ما جمع بينهم إلا إنتماء للحركة صادق ومنهم من كان على ثغرة سياسية، أمنية، عسكرية, اقتصادية، اجتماعية أو غيرها من ثغرات خاصة. كل جاء بزاره من التجربة والابتلاء ونصيبه المقدر من الصبر والاحتساب على ما أصاب من مصيبة وإحتراب. منهم من تجلد وكظم ومنهم من فاض غيظه فبدأ عليه الحنق والضجر. ولكن في خلوة السجن تصفو النفوس وتتأدب بأدب جديد. تبدو الصراحة في الحديث وتنفضح الاسرارإنفضاحاً. حديثاً، نقداً، تحليلاً وإستنتاجات تقارب الموضوعية حيناً وتجانبها أحياناً، هناك عقدت الجلسات ودارت الندوات فأدلى كل بدلوه نقداً للذات اعترافات.
(2) كان قدر الله أن يتم الأمر في صباح الثلاثين من يونيو بسهولة ويسر لم يكن متوقعاً إلا من خسائر وجراح يسيره. السيناريوهات كما هو مرسوم لها. تمويهاً وتعمية قصد بها الخارج أكثر من الداخل وسرعان ما ثبت للنظام الأركان. لقد بني الأمر كله وخطط له على أن يقوم على أكتاف أهل العزم مزودين بفقه العزائم. مشروع بعث حضاري نهضوى شامل. يكتنف مجالات الحياة كلها. ثقافة ودعوة تزكية وطهراً. اقتصاداً وتنمية. حكماً راشداً مشاركه وشورى. استيعاباً لكل الطاقات، ذكوراً وإناثاً من مختلف الأجيال.
و صولاً وتفعيلاً للتجمعات في الريف البعيد والحاضرات. سيراً قاصداً وتوكلاً على الله مدفوعاً يقيناً بالأيمان مستهدياً بالآيات وخالد السير. مستصحباً لكل التجربة الوطنية والتجارب الإنسانية والموروث من الفضائل و القيم. مجتمعاً فاعلاً قائداً مبادراً. تتسع قاعدة هرمه وتضيق قمته إلا من قلة من أهل التخصص والتخطيط والنظر. هكذا كان المأمول. ولكن الكل قد هرع نحو السلطة والقمة فانقلب الهرم وصار المجتمع في خدمة الدولة، ذلك الجسم المترهل العاطل من كل وظيفة يؤديها أو مبادرة إبداع تثرى الحياة وتعمر. حتى صار الفصل الأول من الميزانية هماً أكبر وفي الغالب لا وجود لخدمات ضرورية أو جهد تنميه يذكر. وكانت هذه أولى ملامح الضعف الظاهرة على وجه النظام الجديد.
(3) منذ البدايات الأولى لعهد الإنقاذ كان هناك تحديان اثنان عظيمان موروثان منذ عهود سابقه وسنوات ضلت. تحدى الحرب الأهلية ويليه من حيث الأهمية التحدي الاقتصادي. في واقع لم يعرف غير ضعف الإنتاج أو انعدامه، فضلاً عن ندرة الضرورات والأزمات فتسارعت الخطى وعبأت الطاقات لسد تلك الثغرات. أما على صعيد الحرب وبسط الأمن فكان البلاء حسناً، ملاحم بطولة مشهودة سيخلدها التاريخ ذكراً. أرتال شهداء ودماء حتى كسرت شوكة التمرد وتمت محاصرته في الحدود النائية أو في بعض جيوب داخلية محدودة. أما على الصعيد الاقتصادي فالضعف الأكبر، يكمن في هذا الإنسان السوداني قليل الإنتاج بلا طموح يذكر. لا من قلة موارد بل العكس فالسودان مبتلى بكثرة الموارد وتنوعها والتحدي الأكبر كيف يستفز الطموح فتشتد العزائم وتصحو الهمم. يتكاثف التدريب كسباً للمهارات بناءً للقدرات فيزيد الإنتاج كماً ونوعاً، بدافع الاكتفاء والاستغناء عن عطاء الآخرين ممنوناً أو موصولاً. شمل ذلك مجالات كثيرة كان أعظمها ملحمة التصنيع الحربي واستخراج النفط وتصديره من بعد الاكتفاء في ظروف تحد داخلي وخارجي مشهود. ويكفي هذا دليلاً وشاهداً على أن إمكانية البناء و النهوض متاحة مبذولة لكل الشعوب والأمم إذا ما توفرت أشراطها. و ملحمة النفط تقف وراءها أسرار كثيرة وكسب رجال عطاؤهم مشهود يعرفه الناس وسيخلده التاريخ ولا ينفع الادعاء.
(4) أما تزكية المجتمع وطهارته فكانت مجال إبتلاء آخر أمام حركة تستمد شرعية وجودها دوماً من الدعوة إلى الخير والفضيلة ونبذ الفسوق والرذيلة والحال كذلك فإن المجتمع السوداني ((تحت التكوين)) مجتمعاً بسيطاً ريفياً في غالبه، محافظاً متكافلاً متماسكاً يزكي ويرعى بعضه بعضاً طوعاً لا كرهاً ويفعل كل ذلك عفواً من خلال مؤسسات أهلية طوعية اجتماعية دعوية تربوية وتثقيفية أبدعتها عبقريته الذكية عبر الأجيال مؤسسات طرق صوفية مسايد مساجد وخلاوي قرآن. أندية رياضية روابط فنية وجماعات أدبية تنظيمات أهلية ومنظمات سياسية فئوية وثقافية ومنظمات مجتمع مدني(NGOS) من طبائع شتى. كل هذا كان يؤدي دوراً مقدراً قل أو كثر وما كان لمؤسسة الدولة من جهد تؤديه تجاه كل هذا الوجود السابق لها ولكل دولة أصلاً سوى أن تشرع له تنظيماً أو تعكسه إعلاماً تعريفاً فضلاً عن توفير البنية التحتية الضرورية لبعض الأنشطه التي تحتاج بطبيعتها لكثير مال وموارد. والتحدي الأكبر أن يدار كل هذا ويرعى بعقلية واسعة منفتحة مرنه لا جامده تستمد زاد فكرها من وراء القرون الوسطي. تعرف كيف تستوعب مستجدات الحياة في رحابة من المباح معروفاً، ما كان مألوفاً منه أو غير مألوف متحررة من كل فقه قديم موروث جامد لا يتسع لحادثات الابتلاء. وما أراد له أهله صيرورة خلود في الزمان أو بقاء.
قبلت دولة المشروع التحدي وإجتهدت ما وسعها الاجتهاد فابتدعت لذلك وزارة سميت لأول عهدها بأم الوزارات صاحبتها بعض من مؤسسات.إلا أن العهد لم يدم طويلاً بأم الوزارات فتحولت إلى وزارة موازنات إستقطاب وترضيات، تبعتها رصيفاتها في الولايات التي لم تخط في غالبها بما يناسبها من قائد مبدع قادر على المبادرة والريادة وإستنباط الموارد فضلاً عن حسن إدارتها.
فأضحت وزارات تزكية المجتمع من اضعف الوزارات موارد بشرية ومادية حالها يفضح ما آلت إليه نيات التزكية القاصدة لفلاح المجتمع وصلاحه وينسف ركناً ركيناً من أركان البناء الذي تقوم عليه شرعية دولة المشروع الحضاري النهضوي الشامل.
يتبع
فتح الرحمن محمد زين – ولاية سنار