لانشغالى ببعض القضايا لم اكن متابعا لمنبر سودانيس اون لين لما يدور حول صورة الفتاة النوباوية موضوع النقاش فى المنبر، ولقد اتصل بى احد الاصدقاء لمتابعة هذا الامر، ويمكنى اختصار تعليقى فى الاتى:
1- شكرا للاستاذه نور والاستاذين خالد وشمس الدين لمدافعتهم عن تراث وثقافة النوبة وهذا من حقهم مهما اختلف الاخرين معهم، واتمنى ان ينسقوا جهودهم بالحوار لكى يرسلوا رسالة واضحة لكى من يريد التلاعب بارث النوبة.
2- الصورة التىيتحدث عنها الاخرين من غير النوبة لا يعرفون مدلولاتها التاريخية والثقافية، فالنوبة يعتبرونها حدثا يوميا عاديا لانها جزء من مورثوهم الثقافى العميق الذى لايفهمه الا مطلع حصيف لمعانى توثيق الحضارة والثقافة والتراث، فقدماء النوبيين واشكالهم وصورهم واهراماتهم لم تغير وظلت كما هى وقبلة للزوار من كافة انحاء العالم وكذلك الحضارة الفرعونية والصينية وتاج محل والديانات بما فيها الوضعية كالبوذية والكنفوسيوشية وصولا الى نحت ورسومات عصر النهضة وغيرها، حيث بقيت جميعا كما هى لانها تعبر عن مرحلة تاريخية وتعكس موروثا ثقافيا.
3- السؤال الذى يطرح نفسه من هم الذين ينتقدون النوبة وثقافتهم وما هى هويتهم وهل هم اصحاب حضارة ام ملاقيط حضارات؟ ولصالح من ينتقدون والى اين يريدون ان يصلوا؟ فالاسلحة والدبابات والطائرات ومشروعات الابادة فشلت فى ابادة ثقافة النوبة بل ذادتها قوة. فالمشروع الاسلاموعروبى فشل تماما امام حركة الوعى الجماهيرى فى جبال النوبة.
النوبة هم المجتمع الاكثر وعيا دينيا وثقافيا فى السودان حيث تجد فى المنزل الواحد من هو يدين بالمسيحية او الاسلام او الكجور، ولذلك فان النوبة حينما تمس قضاياهم الثقافية فهم على ستعداد للمدافعة عنها حتى لو اضطروا لحمل السلاح مئة عام، فمن لا يريد ان يفهم معانى التاريخ والثقافة او لم يكن له ارث اوتاريخ يفتخر به فتلك هى مشكلة، ومن كان يخجل ان ينتمى الى ثقافة وأد البنات وعدم ائتمان الاخ لاخية فى ماله وعرضه ويخشى ان يوثق ذلك فهنالك من يوثق له ذلك.
فوضعية المرأة تاريخيا معروفة ومميزة فى تاريخ ممالك النوبة القديمة وهنالك العديد من الملكات التى ذكرهن التاريخ، اما فى جبال النوبة فالاسماء المتوازية للرجال والنساء حسب ترتيبها ابتداءا بكاكا للمراة وكوكو للرجل هى مسميات لنساء ورجال حكموا النوبة تاريخيا، وحديثا فهنالك مندى فى الدلنج وكامدرا والدة المك كدقلى وكداقلة فى ميرى فهن ملكات فى جبال النوبة، كما ان مقتل المأمور ابورفاس بتلودى بعدد ثلاثين حربة فى آن واحد اخذته من حصانة فى ساحة للرقص لانه بشر فوق امرأة، وهذا يؤكد ان النوبة يعطون نسائهم مقاما ولا يفرطون فى حمايتهم، وما يدور فى شبكة الانترنيت هو حماية صورة فقط.
4- الرابطة العالمية لم تكتفى بعرض صورة واحدة فى صفحتها الالكترونية بل لدى سكرتيرها الثقافى معرض يحتوى الاف الصور، وليس هذا فحسب بل ان سكتيرها الثقافى قد وضع عدد منهم فى مجسمات منحوتة، فان اردتم ان تقولوا اصنام فقولوا كما تشاءون، ولكننا نفهمها بفهمنا فى اطار معناها الحقيقى.
كما ان الرابطة قد اكدت فى مؤتمرها الذى عقد فى ولاية اوهايو فى يوم 6/11/2005م نصا متضمنا الاتى:( التصدى والرد بعنف وقوة وفضح كل متلاعب بمقدرات ونضال وسمعة شعب جبال النوبة بصفة عامة والرابطة العالمية بصفة خاصة) فهو راى شعب وله وسائلة والياتة للرد لمن لا يحترم ثقافته.
5- الصورة التى تتحدثون عنها هى محتشمة جدا فى تاريخ وثقافة النوبة الذين كانوا يذهبون عراة، وليس النساء فقط بل كذلك الرجال، وكان ذلك قيمة اجتماعية اخلاقية وجمالية لا يفهمها الا الفاهم لمدلولات التنوع الثقافى، وكانت هذه القيمة تعنى تعنى العفة بكل ماتعنيه هذه الكلمة، ولا تعنى السفور كما يصورها اصحاب نظرية القصور الذاتى، حيث كان المجتمع بوعيه الشعبى التلقائى يضع مكانيزم للتعرف على الشاب او الشابة التى تخرج عن القيم المتعارف عليها، بل كان العقاب الشديد يطال الذين لا يلتزمون يتلك القيم الاجتماعية يصل الى درجة الطرد والنفى من القبلية وتذبح الذابائح قربانا لطرد تلك المصيبة التى نادرا جدا ما كانت تحدث.
لذلك كان من شروط المجتمع الا اتنام الفتاة على بطنها حتى لا يرتخى ثديها وكانت متابعة هذا الامر هو مهمة الامهات، وكان الارتخاء يدخل فى دلالات الشك وله عقابه الصارم، وكان نادرا ما يحدث كما ان الفتاة التى تفرط فى ذلك حتى لو كان عن طريق النوم قد لاتجد من يتزوجها وتصل هذه الاساءة الى اسرتها.
فالمجتمع قد حدد ضوابط اجتماعية من خلال العراء يتعرف من خلاله على الذين يمارسون الجنس بطريقة غير شرعية، ويحدث ذلك من خلال تغيرات معروفة ومحددة فى الاعضاء الذكورية للرجل وفى الاعضاء التناسلية للمرأة، ومع وجود العقاب فمن النادر حدوث تجاوزات.
ومن الاشياء المهمة جدا فى ثقافة النوبة ان المرأة الحائض لا تطبخ ولا تذهب الى مصادر المياة، ولقد اثبتت دراسات علمية لاحقا ان بعض الافرازات التى تفرزها المراة الحائض تساعد على عدم تماسك ذرات الطعام، ولذلك كان العراء كذلك واحدا من وسائل الضبط الاجتماعى. ايضا ظاهرة الخفاض الفرعونى التى تملأ السودان، النوبة فيها المجتمع الاكثر تطورا حتى من حملة درجات الدكتوراة، فالريف فى جبال النوبة الى يومنا هذا يحارب هذة الظاهرة وهو فى ذلك اكثر وعيا من سكان المدن، وكان العراء وسيلة للسيطرة الشعبية على ظاهرة الخفاض الفرعونى.
حتى الزواج فى جبال النوبة هو اكثر صحية من الزواج فى مدن الشمال، فلا يتزوج الناس فى معظم جبال النوبة من قريباتهم ولانهم بالعرف يعتبرونهم اخواتهم وحتى القبائل التى يذبح معها الدم سابقا فى التحالفات الداخلية بين النوبة انفسهم لا يتم التزاوج بينهما، ولقد اثبت الطب مخاطر زواج الاقارب.
وكذلك كانت هنالك قيم جمالية للنساء ورجولية للرجال يفتخر بها الجميع.
ولا اريد الحديث عن عراء الرجال ولكن اذكر انه حتى الثمنينات فى مدينة كادقلى رمزان قاوما كل محاولات الالباس هما توتو الذى يسير كما خلقه الله ولقد سماه الاعراب استحقارا (توتو كورو وكان ياتى من منطقة تافرى) والاخر هو كبى جزلان والذى كان ياتى من منطقة كاجا، ولم يؤرخ لهما كاتب سواء ابن كادقلى الاديب الكبير يحى فضل الله من خلال تداعيات, فتوتو الذى يحاول التجار الباسه عنوه كان يمزق ملابسة قطعا قطعا ويتمتم بكلمات كانه يقول ان الله خلقنا هكذا فما الخطأ والعيب فى خلقة، كما ان الله سبعثنا جميعا عراة فهل من معترض على امره؟
اما القيم الجمالية فلم تكن هنالك علاقات للثدى ( ستيانات) للنساء كما هو الان كما ان المكياج كان بالرسم على الجسم للنساء والرجال، وكان للعنق والرأس زينته الخاصة وهى مستمرة الى وقتنا هذا.
لذلك فان نظرة المجتمع بعين واحدة للثقافات المتنوعة ما هو الا نتاج جهل او تجاهل لتلك الثقافات حتى لو ان تنوعها يساهم فى اثراء وطن كالسودان متنوع بطبعة.
وما ذكرناه عن ظاهرة العراء هو جزء بسيط من المدلولات الثقافية للظاهرة ولم نتطرق الى مدولاته فى حالات الرقص والفارح والاكراه والاسبار والتكجير ..الخ.
أما ان اراد الناس المدلولات الاجتماعية والاقتصادية والرجولية لعراء الرجال بالصورة فكومى وكودى لهم معارض متكاملة فى ذلك، وان اردتم مدلولاتهم الاجتماعية والاقتصادية والانثروبولوجية فان الصفحات الاكترونية قد لا تكفى لذلك.
السؤال الاخير بعد سرد المدلولات التاريخية الاجتماعية لظاهرة العراء، فأيهما افضل القيم التى تضبط وتحمى اتوماتيكيا بالمعايير الاجتماعية وبالوعى الشعبى والخالية من امراض الجنس، ام ثقافة الستيانات وما يوضع بداخلها من بالونات، او ثقافة العمليات قبل الزواج وثقافة الشربوت ولبس نفشات الدلاقين وبالونات المؤخرة للتسمين؟ وكذلك ثقافة الروج والكريمات وثقافة زواج المتعة وثقافة من بره هلا هلا ومن جوه .....الخ.
دعوا الناس فى حالها كما يحترم الاخرين ثقافتكم احترموا ثقافتهم، فان فعلتم فلن تذيدوها من شئ وان اردتم طمسها لن تذيدوها الا قوة.
امين زكريا اسماعيل
باحث واخصائى اجتماعى وانثروبولوجى
محاضر جامعى سابق