التوفيق بين الدين و الرؤيا المادية للواقع (2):
و ما قلناه عن العلوم الدقيقة و الاقتصاد نقوله عن الثقافة باعتبارها قيما ثقافية، و باعتبارها أدوات منتجة للقيم الثقافية. فالرؤيا المادية للثقافة هي مجموعة من القيم التي تختلف من تشكيلة اجتماعية إلى تشكيلة اجتماعية أخرى، و من طبقة اجتماعية إلى طبقة اجتماعية أخرى، و من زمن إلى زمن آخر، و من مكان إلى مكان آخر ، و تتدخل مجموعة من الشروط الموضوعية و الذاتية المادية و الروحية للجماعات و الأفراد لانتاج قيم معينة عامة و خاصة بكل مجتمع ثم خاصة بكل طبقة، و بكل فرد في تلك الطبقة و في إطار التشكيلة الاجتماعية السائدة، و حسب ما يقتضيه الزمن و المكان.
و يعتبر الدين كمكون من مكونات الواقع مصدرا أساسيا للقيم الثقافية الموجهة للمسلكية الفردية و الجماعية، و العاملة على جعل الإنسان يغذي روحه من تلك القيم استعدادا لليوم الآخر.
و إلى جانب الثقافة نجد أن السياسة باعتبارها تعبيرا إيديولوجيا فإننا نجد أنها تتشكل بحسب الطبقات المسيطرة على المجتمع و التي تفرض توجهاتها السياسية العامة، و بالقوة على جميع أفراد المجتمع، أو بحسب الطبقات التي تصارع من اجل الوصول إلى السلطة. فلكل طبقة اجتماعية توجهها السياسي، و بالتالي فعدد التوجهات السياسية القائمة في المجتمع بعدد الطبقات الاجتماعية، و الطبقات الاجتماعية لا يمكن التعبير عنها إلا بواسطة المواقف السياسية. فتبرز مواقفها على أساس تحديد تصور للدستور، و لأسلوب الحكم، و للممارسة الديمقراطية في المجتمع على المستوى العام، و على المستوى الخاص ...الخ.
و الرؤيا الدينية عندما تصطدم بالرؤيا المادية، لابد أن تقف على نتائج تعاطي الرؤيا المادية مع الواقع لتحدد موقفها منها، و بالتالي فهناك نوعان من النتائج :
النتائج التي تهدف إلى تطوير الحياة الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و السياسية بما فيه مصلحة الإنسان دون المس بجوهر العقيدة. فإن الرؤيا الدينية تتجنب الدخول في سجال مع مختلف النتائج، و تعتبرها عطاء من القوة الغيبية التي تختلف حسب الأديان.
و النتائج التي تستهدف الجانب الروحي، و تعمل على تطويره، فإن الرؤيا الدينية لا تدخل معها في صراع ما لم يتأدلج الدين. فإذا تأدلج فإن كل ما يعمل على المس بالجانب الروحي الذي لا علاقة له بالعقائد فإنه يعتبر مرفوضا. و بالتالي فإن ادلجة الدين تهدف إلى النفي المطلق للرؤيا المادية للواقع على جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية. حتى تبقى الرؤيا المؤدلجة للدين هي السائدة في الواقع و هي المتحكمة فيه، و هي الموجهة للمسلكية الجماعية و الفردية سواء تعلق الأمر بالطبقات الحاكمة، أو بالطبقات المساندة لها، أو بالطبقات التي تريد الوصول إلى الحكم على أساس ادلجة الدين.
و إذا كانت الرؤيا الدينية لنتائج الرؤيا المادية للواقع تتخذ مستوى الرؤيا الدينية الصرفة التي تتعامل مع نتائج الرؤيا المادية تعاملا غير مثير للجدل، و كانت الرؤيا الدينية المؤدلجة تدخل في صراع مع تلك النتائج التي تمس الجوهر الروحي للمجتمع. فكيف ترى الرؤيا المادية لنتائج الرؤيا الدينية ؟
و إذا كانت الرؤيا المادية للواقع، بعد تبلورها لا تكون إلا علمية سواء على مستوى المنطلقات، أو على مستوى الأسلوب، أو على مستوى النتائج، فإن الرؤيا الدينية لا تكون كذلك. فمنطلقاتها مثالية و نتائجها مثالية، و أسلوبها مثالي. لأن الرؤيا الدينية عندما تتعامل مع واقع معين، فهي لا تنطلق من معطياته العينية الملموسة لتتعامل معها بأسلوب علمي ملموس، وصولا إلى نتائج علمية ملموسة كما هو الشأن بالنسبة للرؤيا المادية. بل إن الرؤيا الدينية تنطلق من منطلق أن الواقع بمعطياته القائمة مخلوق من قبل قوة معينة، و تلك القوة هي التي تتحكم فيه و تسيره بناء على قوانين كونية معينة لا يعلمها إلا الخالق. و ما يصيره الكون ما هو إلا نتيجة للتفاعلات المقدرة على الواقع، و التي يجد كل مخلوق نفسه مجبرا على السير فيها. و هذه التناقضات المختلفة المادية و الروحية، الطبيعية و الاجتماعية هي متناقضات بثها الخالق في الكون لاختبار كائناته وقدرة تلك الكائنات على الاستجابة لارادة الله أو عدم الاستجابة لها سعيا إلى إقرار الجزاء و العقاب في الحياة الأخرى كنتيجة للمنهج الديني. و بذلك نصل إلى أن المنطلقات في المنهج الديني لا تكون إلا غيبية، و الأسلوب لا يكون إلا غيبيا، و النتائج لا تكون إلا غيبية. و بناء على ذلك فإن الرؤيا المادية بقدر ما تحترم الدين و تعتبره مكونا من مكونات الواقع، و مصدرا للقيم الدينية، فإنها تعتبر أن نتائج الرؤيا الدينية هي نتائج غير علمية، لأنه لا يمكن التأكد من صحتها، و علميتها، لا على مستوى المنطلقات، و لا على مستوى الأسلوب، و لا على مستوى النتائج نفسها.
و عندما تتحول الرؤيا الدينية إلى رؤيا مؤدلجة للدين، فإن هذه الرؤيا تختلف باختلاف الطبقات المؤدلجة للدين .
فالطبقات الإقطاعية تنطلق من أن الدين جاء لخدمة مصالحها، و أنها وجدت لخدمة الدين، و أنها هي الأمينة عليه، و أن سيطرتها على الأراضي و استغلالها للأقنان إنما هو من إرادة الله، و كل من خالف ذلك التصور فقد أنكر إرادة الله. و لذلك فبالإضافة إلى المنطلقات الغيبية التي يعتمدها الإقطاعيون هناك منطلقات ذات بعد واقعي لتأكيد الأسلوب الغيبي، و نتائج ذات بعد واقعي لتأكيد النتائج الغيبية و الرؤيا المادية لا يمكنها أن ترفض نتائج ادلجة الإقطاع للدين. و تبعا لذلك، فهي ترفض منطلقات الإقطاعيين و أساليبهم الإيديولوجية نظرا لعدم علميتها.
و الطبقة البورجوازية التابعة التي تكون إيديولوجيتها البورجوازية مدعومة بأدلجة الدين للزيادة في تضليل الكادحين. فهي تحاول أن تكسب منطلقاتها و أسلوبها و نتائجها بعدا غيبيا، و لكنها في نفس الوقت تسعى إلى معرفة كل ما هو جديد و حديث على المستوى الفكري لاغناء إيديولوجيتها حتى يزداد الناس انبهارا بها، و حتى يتأتى انسياقهم وراءها بسبب التضليل القائم على ادلجة الدين و بسبب الانبهار بالحداثة التي تقود إلى الانسياق وراءها، و من خلالها وراء النظام الرأسمالي العالمي. و معلوم أن نتائج الرؤيا الدينية المؤدلجة من قبل البورجوازية هي نتائج غير علمية، و نظرا لطابعها الإيديولوجي، فإن الرؤيا المادية تعمل على نفيها.
و عندما يتعلق الأمر بالبورجوازية التي تحمل الإيديولوجية الليبرالية ، فإن هذه البورجوازية ، و في مرحلة معينة من الصراع تلجأ إلى ادلجة الدين في حدود معينة من اجل جعل الكادحين المضللين ينساقون وراء قبول الاستغلال باعتباره قدرا كما حصل في أوربا في القرن التاسع عشر. حيث كانت البورجوازية الليبرالية ضد الكنيسة ثم استعانت بها لتضليل العمال بعد ذلك. و لذلك، فالرؤيا الدينية المؤدلجة من قبل البورجوازية تقود إلى نتائج غير علمية تكون مرفوضة من قبل الرؤيا المادية التي تعمل على نفيها كما تعمل على نفي النظام الرأسمالي الذي أنشأته البورجوازية.
أما البورجوازية الصغرى فتعتمد على إيديولوجيتها التوليفية التي تأخذ فيها من كل إيديولوجية طرف لتؤلف من كل ذلك إيديولوجيتها الخاصة بها. و من تلك التوليفة نجد لجوء البورجوازية الصغرى إلى ادلجة الدين الإسلامي لدعم تضليل إيديولوجيتها للكادحين حتى يتقبلوا قيادة البورجوازية الصغرى لهم، و حتى تصير قيادتها للكادحين ذات بعد ديني. و بالتالي فإن توظيف ادلجة الدين الإسلامي يقتضي منطلقات غيبية، و أسلوب غيبي، و نتائج غيبية. و لذلك فكما تعمل على نفي إيديولوجية البورجوازية الصغرى. فإنها تعمل كذلك على لجوءها إلى ادلجة الدين و ما يترتب عن ذلك من نتائج. و بالنسبة لمؤدلجي الدين، فإن اعتمادهم على معطيات غيبية، و أساليب غيبية، يؤدي إلى نتائج غيبية. و لذلك فمؤدلجو الدين يعملون على ادلجة الدين التي تعمل الرؤيا المادية على نفيه.
و بذلك نصل إلى أن موقف الرؤيا المادية من نتائج الرؤيا الدينية يمكن تلخيصه في أن :
1) الرؤيا الدينية غير المؤدلجة التي تتوصل إلى نتائج غيبية بهدف بث القيم الدينية بين الناس من اجل تقويم المسلكية العامة، و المسلكية الخاصة الجماعية و الفردية، يكون موقف الرؤيا المادية منها – رغم عدم علميتها- على أنها نتاج للواقع الذي يعتبر الدين من مكوناته.
2) الرؤيا الدينية القائمة على ادلجة الطبقات الحاكمة للدين التي تؤدي إلى نتائج غيبية تعمل الرؤيا المادية على نفيها.
3) الرؤيا الدينية القائمة على ادلجة الطبقات الداعمة للطبقة الحاكمة للدين، و التي تعمل الرؤيا المادية على نفيها.
4) الرؤيا الدينية القائمة على ادلجة الدين من قبل المؤدلجين العاملين على تجييش المجتمع، فيتوصلون بأدلجتهم إلى نتائج غيبية، تعمل الرؤيا المادية كذلك على نفيها.
فالماركسية إذن تعمل على نفي نتائج التحليل الديني القائم على ادلجة الدين. و تحترم التحليل الديني غير المؤدلج للدين و الهادف إلى تطوير القيم الجماعية و الفردية.
و بعد وقوفنا على طبيعة الرؤيا المادية لنتائج الرؤيا الدينية يطرح علينا سؤال : هل يمكن أن يوقف الدين الرؤيا المادية للواقع ؟
إن الدين الذي يقرر انه قام بصياغة الواقع، و يتحكم في قوانينه و يوجه حركته بأمر من قوة غيبية لابد أن يترك هامش الحرية لجزء من الواقع أو من الواقع ككل، كما يدل على ذلك ما ورد في القرءان " و أمرهم شورى بينهم" بالنسبة للبشر الذين صار من حقهم التقرير و التنفيذ في الأمور التي تخصهم و التي لا تمس جوهر الدين و لا تعمل على نفيه. و لا تسعى إلى تحريض الناس ضد الدين، نظرا لعلاقة الدين بالجانب الروحي للإنسان، و لدوره في إنتاج القيم المختلفة التي توجه مسلكيات الأفراد و الجماعات في اتجاه التوحد و التضامن و التعاضد و غير ذلك من القيم الإنسانية النبيلة. فالدين معتقد روحي لا يمكن تجسيده إلا من خلال المسلكية العامة. و الواقع مجموعة من المكونات المادية و الروحية المترابطة فيما بينها، و التي تكمل بعضها. و انطلاقا من أن الدين له علاقة بالإنسان، و أن الإنسان هو المعني بالدين فإن هذا الإنسان ليس إلا قوة مادية قائمة في الواقع، و هو –في نفس الوقت – الذي يحول الدين باعتباره قوة روحية إلى قوة مادية تساهم بشكل كبير في صياغة الواقع المادي و هو الذي يلجأ – انطلاقا من مصلحته الطبقية – إلى ادلجة الدين عن طريق استغلاله في الأمور الإيديولوجية و السياسية، و هو الذي يحول الدين إلى سيف فوق رقاب البشر، و يعمل على إنشاء الدولة الدينية التي تقحم تلك القوة الغيبية مصدر الدين في الصراع بين البشر، فكأن تلك القوة قائمة في الواقع و ذات مصلحة طبقية تصنفها إلى جانب طبقة معينة توظف الدين لخدمة مصالحها الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية مع العلم أن ادلجة الدين ليست إلا تصورا إيديولوجيا لطبقة معينة لا تملك إيديولوجية معينة و ليست مؤهلة لامتلاك إيديولوجية معينة. و هذا التصور الإيديولوجي هو الذي يقود إلى توظيف الدين لحشر الناس المتدينين وراء مؤدلجي الدين لخدمة مصالحهم الطبقية، ليتحول الدين بذلك إلى قوة إيديولوجية بدل أن يبقى مجرد قوة روحية.
و انطلاقا من هذا التحليل يمكن أن نسجل أن كل ما يقوم به الإنسان يتحول إلى قوة مادية قائمة في الواقع، حتى الطقوس الدينية التي يمارسها المتدينون في معابدهم المختلفة و المتنوعة يمكن اعتبارها قوة مادية تحتاج إلى تخطيط و تنفيذ و ممارسة يومية لعامة المتدينين من اجل إظهار أن الدين قائم في الواقع، و انه بذلك يتحكم في المسلكيات الفردية و الجماعية و يوجهها، و يقرر مصيرها، و هو ما يجعله فعلا مكونا من مكونات الواقع القائم.
و الإنسان هو نفسه الذي يملك الرؤيا الدينية، و أن هذه الرؤيا الدينية لا توجد خارج الإنسان. و هي لذلك رؤيا مادية يعتمدها الإنسان لتفسير تحولات الواقع تفسيرا غيبيا. كما انه هو نفسه الذي ينتج رؤيا مادية معينة للواقع حتى و إن كان يحمل رؤيا دينية تعتبر هي نفسها رؤيا مادية بسبب استهدافها للواقع. فهل يمكن أن يقوم الدين – كرؤيا- بنفي الرؤيا المادية للواقع ؟
إن الرؤيا المادية للواقع باعتبارها رؤيا علمية تهدف إلى معرفة الواقع معرفة علمية دقيقة تمكن من اكتشاف ما يجب عمله من اجل التحكم فيه، و توجيه حركته وفق ما يقتضيه العمل على تطور و تطوير الواقع في الاتجاه الصحيح سواء تعلق الأمر بالجانب الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو السياسي أو العلمي أو الفلسفي. أو توجيهه لخدمة مصالح طبقية معينة، و هذه الرؤيا المادية هي من إنتاج الإنسان في صراعه ضد الطبيعة و ضد الاستغلال الطبقي و ضد الاستبداد في جميع تمظهراته، و من اجل الحرية و الديمقراطية، و العدالة الاجتماعية كقيم كبرى لا تتحقق إلا بالرؤيا المادية المعتمدة في تحليل الواقع، من اجل رسم ما يجب عمله لتغييره إلي الأحسن.
و إذا كان الإنسان الحامل للرؤيا الدينية كواقع مادي قائم في الواقع، هو نفسه الذي يفرض عليه إنتاج الرؤيا المادية ذات الطابع العلمي و الإيديولوجي في نفس الوقت. فهل يعقل أن يقوم الإنسان بنفي نفسه؟
إن كل ما تفعله الرؤيا الدينية غير المؤدلجة هو أنها تؤكد قيامها في الواقع كقوة مادية، و ترفض أن تتعرض للنفي و أن تعمل على مقاومة كل ما يمكن أن يعمل على نفيها مهما كان مصدره. و انطلاقا من هذا التحديد يمكن القول بأن الدين لا يعمل على نفي الرؤيا المادية إلا إذا تحولت إلى قوة تعمل على نفي الدين، و هي بذلك تفقد علميتها، و تصير قابلة للنفي. و لكن عندما تصير الرؤيا الدينية مؤدلجة، فإنها تدخل مباشرة في صراع إيديولوجي مع الرؤيا المادية باعتبارها أيضا إيديولوجية، فيتحول الصراع بين الدين و الرؤيا المادية إلى صراع طبقي في مظهره الإيديولوجي. ليصير الدين قابلا للنفي كما تصير الرؤيا المادية قابلة للنفي أيضا.
و لذلك فالدين غير المؤدلج بكون مستوعبا للرؤيا المادية باعتبارها رؤيا بشرية و شأنا بشريا لا علاقة له بالدين، أما الدين المؤدلج فيدخل في صراع إيديولوجي مع الرؤيا المادية كإيديولوجية، فيكون قابلا للنفي، أو يعمل على نفيها.
و بهذه الخلاصة التي توصلنا إليها ننتقل إلى طرح السؤال : هل يمكن أن توقف الرؤيا المادية الرؤيا الدينية للواقع ؟
إن كل ما تفعله الرؤيا المادية للواقع باعتبارها رؤيا علمية هو أنها تدرسه انطلاقا من معطيات الواقع نفسه، و من الأسلوب المعتمد في الرؤيا المادية، و معطيات الواقع التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار تتجسد في مختلف مكوناته المادية، و الروحية التي نجد من بينها الناس كواقع مادي و المعتقدات كواقع روحي. و الدين بطبيعة الحال ينتمي إلى الواقع الروحي للناس كواحد من المعتقدات الشائعة في المجتمع. و معلوم ما يلعبه الدين من أدوار في إعداد الناس للعب دور معين عن طريق التحلي بالقيم التي يبثها في المجتمع سواء تعلق الأمر بترويج النصوص الدينية الحاملة في مضامينها لتلك القيم، أو تعلق الأمر بالطقوس المعتمدة، و التي ترسخ قيما أخرى ذات جانب إنساني و اجتماعي و فكري و نفسي.
و الرؤيا المادية ذات الطابع العلمي، و التي تسعى إلى جعل الناس يعون بالواقع عن طريق معرفته معرفة علمية دقيقة حتى يساعدهم ذلك على امتلاك وعيهم الطبقي الحقيقي. لا يمكن أبدا أن تعمل على نفي الرؤيا الدينية و لا تسعى إلى جعل تلك الرؤيا قابلة للدخول في صراع مع الرؤيا المادية، بقدر ما تقر بوجودها كواقع معبر عن وجود المعتقد الديني الذي يفرض وجود الرؤيا الدينية و يسعى إلى قيام وجدان جماعي في المجتمع. و إقرار الرؤيا المادية بوجود الرؤيا الدينية لا يعني أبدا أن الرؤيا الدينية هي رؤيا علمية، لأنها ليست كذلك. و لأن الرؤيا العلمية تحتاج إلى منطلقات علمية، و أسلوب علمي للوصول إلى نتائج علمية، و الرؤيا الدينية – كما أشرنا إلى ذلك- تعتمد منطلقات غيبية، و أسلوب غيبي للتوصل إلى نتائج ذات بعد غيبي. و لذلك فالرؤيا المادية تعمل على نفي علميتها، و تسعى إلى فرض التعامل معها على أنها ليست علمية حتى تتميز عن الرؤيا المادية التي تعتمد كرؤيا علمية، تقود إلى معرفة الواقع معرفة علمية دقيقة تمكن من التعامل معه تعاملا علميا.
لكن عندما تتحول الرؤيا الدينية إلى رؤيا إيديولوجية فإن على الرؤيا المادية كرؤيا علمية أن تعمل على نفي كونها رؤيا دينية. و أن هذه الرؤيا الدينية/الإيديولوجية هي تحريف للدين و خروج به عن مقاصده المتمثلة في إنتاج القيم مهما كان مصدرها. و أن هذه القيم تسعى إلى أن يبقى الدين بعيدا عن أن يتحول إلى إيديولوجية، أي إلى تعبير عن مصالح طبقية معينة تجعل الطبقة صاحبة تلك المصالح تدعي أنها وصية على الدين، و توظفه لصالحها، و تعمل على تجييش المتدينين على أساس ذلك التوظيف. و لذلك كان من الواجب أن تعمل الرؤيا المادية على نفي الرؤيا/الدينية الإيديولوجية مهما كانت الطبقة التي تلجأ إلى عملية ادلجة الدين، و مهما كان مستوى الادلجة، و حدود تلك الادلجة.
أما إذا صارت الرؤيا المادية رؤيا إيديولوجية، فإن الرؤيا الدينية الإيديولوجية تصير نقيضة لها. و بالتالي فإن ما يجمع بين الإيديولوجيتين المتناقضتين هو الصراع باعتباره يدخل في إطار مستوى معين من الصراع الطبقي. و في هذا الصراع فإن كلا من الإيديولوجيتين تكون قابلة للنفي. كما تكون قابلة لان تنفى. و نظرا للتخلف الذي لازال يسود في المجتمع و على جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية، فإن أدلجة الدين تبقى محتضنة من قبل الجماهير الشعبية الكادحة و كنتيجة لذلك فإن الرؤيا الدينية/الإيديولوجية هي التي تبقى سائدة، و أن هذه الرؤيا تحتاج إلى دراسة عميقة من اجل استيعاب الرؤيا المادية للشروط التي أفرزتها أو ساعدت على إفرازها، و تساعد باستمرار على انتشارها و تغلغلها في صفوف الكادحين. و مهما كانت النتيجة التي يتوصل إليها أولئك الكادحون بتقبلهم لاحتضان الرؤيا الدينية/الإيديولوجية حتى تستطيع الرؤيا المادية كإيديولوجية أن تواجه الرؤيا الدينية/الإيديولوجية مواجهة علمية دقيقة وفق مراحل معينة تستهدف فيها الشروط، ثم المنطلقات ثم الأساليب المعتمدة من قبل كل طبقة مؤدلجة للدين ثم الأهداف التي تروم تحقيقها، حتى تعمل على النفي المرحلي لادلجة الدين من قبل الإقطاعيين، و من قبل البورجوازية التابعة، و من قبل البورجوازية، و من قبل البورجوازية الصغرى بما فيها تلك المختصة في ادلجة الدين، وصولا إلى دين بلا ادلجة، و إلى طبقات اجتماعية تتجنب ادلجة الدين و تعتمد على نفسها في إنتاج إيديولوجيتها الخاصة بها، و التي تكون مؤهلة لامتلاك القدرة على المواجهة الإيديولوجية الفعلية بعيدا عن الدين الذي يعتبر من مقومات الشعوب، و حتى لا تجد الرؤيا المادية نفسها في إحراج بمواجهتها للرؤيا الدينية/الإيديولوجية التي قد ينساق وراءها من يعتبر نفسه صاحب الرؤيا المادية كإيديولوجية .
فما العمل من اجل احترام متبادل بين الرؤيا الدينية و الرؤيا المادية للواقع ؟
إننا في تناولنا لموضوع الاحترام المتبادل بين الرؤيا الدينية و الرؤيا المادية للواقع لا نهدف إلى قيام توافق بين الرؤيا الدينية و الرؤيا المادية، و لا نسعى إلى أن تتنازل الرؤيا المادية عن علميتها لصالح سيادة الرؤيا الدينية، أو تتخلى الرؤيا الدينية عن إنتاج قيمها لصالح الرؤيا المادية، بل إن غايتنا هي أن نصل إلى الإجابة على السؤال : ما العمل من اجل أن تسود الرؤيا المادية في الواقع دون أن تصطدم بالرؤيا الدينية؟ و كيف تحافظ الرؤيا الدينية على إنتاج القيم دون تصطدم بالرؤيا المادية، أي دون أن يقوم صراع مشروع، و غير منتج بين الرؤيا المادية من جهة و الرؤيا الدينية من جهة أخرى. لأن صراعا من هذا النوع هو صراع بين الدين و العلم. و الدين لم يسبق له في تاريخ البشرية أن كان ضد العلم، أو صراع بين الأرض و السماء. و لم يسبق للسماء أن كانت ضد الأرض، كما لم يسبق للأرض أن كانت ضد السماء. فالسماء و الأرض معا هما نتاج لمصدر واحد. و إذا كان هناك صراع بين المتناقضات، فإن الدين لم يكن نقيضا للعلم، و العلم لم يكن نقيضا للدين. لذلك فالتوفيق بين الرؤيا المادية و الرؤيا الدينية غير وارد، إلا في مخيلة دهاقنة البورجوازية الصغرى الذين يتوهمون انهم بقيامهم بالتوفيق بين الرؤيا المادية و الرؤيا الدينية إنما يعملون على إيجاد أحلولة لمشاكل هذا الكون. و الواقع أن الرؤيا المادية بتميزها المنهجي العلمي، يجب أن تبقى رؤيا مادية، و أن الرؤيا الدينية بتميزها القيمي، يجب أن تبقى رؤيا دينية. و أن العلاقة بينهما يجب أن تقوم على أساس أن الدين ليس موضوعا للرؤية الماديةإلا باعتباره مكونا من مكونات الواقع، و أن الرؤيا المادية ليست موضوعا للدين إلا باعتبارها مستهدفة بالقيم الدينية. و لفرض هذا النوع من العلاقة القائمة على الاحترام المتبادل بينهما نرى ضرورة :
1) تجريم ادلجة الدين، كيفما كان هذا الدين من طرف الأفراد و الجماعات، و من طرف التيارات و الأحزاب السياسية أنى كانت هويتها، بما في ذلك أحزاب الطبقات الحاكمة، حتى لا يصير الدين وسيلة للاستغلال الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي، و تقديم كل من عمل على ادلجة الدين إلى المحاكمة، لأن الدين كالهواء هو للناس جميعا، و لا يحق لأحد أن يصادره لصالحه، لأن الادلجة ليست إلا مصادرة للدين الذي يتحول إلى تعبير عن مصالح الطبقة المؤلجة له.
2) تجريم قيام أحزاب سياسية على أساس ديني، لأن ذلك قد يؤدي إلى تكوين طوائف دينية متناقضة، و أن تلك الطوائف قد تدخل في صراع تناحري ديني- ديني مما قد يؤدي إلى خراب المجتمع, فيتحول الدين على يد المؤدلجين من مساهم في تماسك أفراد المجتمع إلى مخرب للمجتمع. لأن الصراع الديني-الديني يأكل الأخضر و اليابس. و يخلق حزازات بين الفرق المؤدلجة للدين لا تندمل بسرعة.
3) اعتبار الدين من مقومات شعب معين، لا يمكن المس بها أو السعي إلى تحقيق مكتسبات معينة باستغلالها، سعيا إلى المحافظة على وحدة الشعب الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية لأنه لا يمكن المحافظة على وحدة شعب معين بدون المحافظة على مقوماته الجغرافية و التاريخية، و العقائدية و الثقافية التي تقف وراء نضوج شعب معين و استعداده لبلورة اختياراته الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و السياسية التي تتناسب مع طبيعة تلك المقومات التي قد لا تتعارض مع السعي إلى تحقيق الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية.
4) اعتبار التحليل العلمي للواقع منطلقا يمكن اعتماده لمعرفة الواقع معرفة علمية تمكننا من الوقوف على العوامل التي تؤثر في تطوره، أو العوامل التي تؤدي إلى إنتاج ادلجة الدين. لأن ادلجة الدين قد تزول من الواقع إذا عملنا على أن تزول شروط قيامها، و من ذلك غياب الديمقراطية، و انتشار الأمية، و انتشار البطالة و غير ذلك مما له علاقة بالعمل على إنشاء مجتمع مختلف قابلا لاحتضان ادلجة الدين، و للتحول إلى مجتمع مستنسخ استنساخا مشوها من الماضي السخيف في وقت صار فيه الاستنساخ مرفوضا من الإنسانية حتى تبقى إمكانية التطور واردة.
5) اعتماد نتائج التحليل العلمي منطلقا لصياغة أي برنامج يهدف إلى تحرير الإنسان، و تحرير طاقاته الكامنة، حتى يبدع في إثراء الحياة الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية، لأن ذلك الإثراء رهين بتحرير الإنسان الذي يحمل طاقات هائلة في حاجة إلى الانطلاق حتى يتحقق العطاء الذي لا يمكن أن يحصل على ارض الواقع في ظل سيادة ادلجة الدين التي تقمع كل الطاقات و تجعلها غير قادرة على العطاء إلا في الاتجاه الذي تقتضيه ادلجة الدين، و هو اتجاه يعمل على الاستنساخ المشوه للماضي المؤدي إلى التخلف السريع للمجتمع.
6) العمل على نشر الفكر العلمي بشكل مكثف بالموازاة مع نشر الفكر الديني، و دون الدخول في صدام معه، و جعل الاهتمام القائم في الواقع اهتماما بمعرفة الفكر العلمي إلى جانب الاهتمام بالفكر الديني، حتى لا نعتبر الاهتمام بالفكر العلمي وحده، مصادرة للفكر الديني، من اجل خلق أجيال من المتدينين المتنورين الذين لا يسعون إلى إقامة تناقض بين الدين و العلم، و بين الرؤيا الدينية و الرؤيا المادية للواقع.
7) التربية على التفكير العلمي بالموازاة مع التربية على الدين ، لأن انتشار التربية الدينية في الاسر و في المجتمعات و في مختلف المؤسسات الدينية ، و في المدارس، و في الجامعات ترتب عنه إخلال في التوازن بين الدين و العلم لصالح الدين. و التربية على التفكير العلمي هي ممارسة فلسفية تهدف إلى جعل التفكير العلمي قائما على أسس فلسفية، موجهة و ضابطة، و مراقبة لمسار الفكر، هل هو فكر علمي، أم انه فكر آخر لا علاقة له بالفكر العلمي.
8) إخضاع المؤسسات الدينية ، و ما يجري فيها إلى مراقبة صارمة و مسؤولة، حتى لا تتحول إلى منابر لادلجة الدين، و تحويله إلى معرقل للتطور بدل أن يساعد عليه بواسطة القيم التي يبثها بين الناس المومنين به، العاملين على الحفاظ عليه الساعين إلى إشاعته بين الناس. لأن الكارثة التي عانى منها الناس تكمن في تحويل المجتمع إلى مجرد مجال مستهدف بأدلجة الدين انطلاقا من المساجد و الكنائس و البيع و الأديرة و غيرها من المؤسسات الدينية. لذلك كانت المراقبة التي نسميها مراقبة إيديولوجية صارمة ضرورية لتجنيب المؤسسات الدينية كونها تتحول إلى وسيلة لنشر التخلف في المجتمع.
و بهذه العوامل مجتمعة و متكاملة يمكن الوصول إلى جعل الدين أو الرؤيا الدينية قائما على احترام العلم أو الرؤيا العلمية، لأن الدين وسيلة لبث القيم النبيلة بين الناس المومنين به بصفة خاصة و بين الناس بصفة عامة، و العلم وسيلة لجعل الناس يكتسبون المعرفة العلمية بمختلف جوانب الواقع حتى يتبين لهم ما يجب عمله سعيا إلى تحقيق التطور الذي يمكن الإنسان من الانتقال إلى المستوى الأعلى، حتى يزداد استفادة من الخيرات المادية و المعنوية عن طريق تحقيق الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية.
و بعد وقوفنا على العوامل التي يمكن اعتمادها لتكريس الاحترام المتبادل بين الرؤيا الدينية للواقع، و الرؤيا المادية للواقع. نصل إلى طرح السؤال : من المسؤول عن الإخلال بالتوازن بين الرؤيا الدينية و الرؤيا المادية للواقع ؟
إن مسؤولية الإخلال بالتوازن بين الرؤيا الدينية و الرؤيا المادية للواقع، تكاد تكون غير معروفة. و لكننا إذا عملنا على تفهم الواقع و ما يعتمل فيه من عوامل الصراع يمكن أن نصل إلى تحديد من المسؤول عن الإخلال بالتوازن بين الرؤيا الدينية و الرؤيا المادية ؟ فالرؤيا الدينية إذا تركت لحالها بدون تحريف سيكون فعلها عاديا في المجتمع المعنى بها، و الرؤيا المادية إذا تركت لحالها بدون تحريف، فإن فعلها سيكون مساهما في تطور و تطوير الواقع. لأن الرؤيا المادية هي وسيلة للمعرفة العلمية التي لا يمكن أن تعمل على مصادرة مقومات الواقع. و لأن الرؤيا الدينية جزء من ذلك الواقع المستهدف بالرؤيا المادية، لا يمكن القفز عليها، و لا يمكن إقصاؤها و مصادرتها بنفيها أو بأدلجتها.
و لذلك فإن الذي يتحمل مسؤولية الإخلال بالتوازن بين الرؤيا الدينية و الرؤيا المادية للواقع :
1) كل من يعمل على ادلجة الدين، مهما كان مستوى هذه الادلجة و مهما كانت الغاية منها، و كيفما كانت مسؤولية المؤدلج، و مهما كانت الطبقة التي ينتمي إليها، و سواء كانت هذه الطبقة حاكمة أو محكومة، و سواء كان ذلك الحاكم أو المحكوم من الطبقة الإقطاعية، أو البورجوازية التابعة، أو البورجوازية، أو البورجوازية الصغرى، أو أي شريحة اجتماعية أخرى. لأن ادلجة الدين تعني تحريفه، و جعله يعبر عن مصالح طبقية متناقضة تقود إلى تشكيل طوائف تتصارع فيما بينها من اجل تحقيق تلك المصالح التي تبقي بعيدة عن مقاصد الدين التي هي مقاصد روحية، و قيمية قائمة في الواقع كقوة مادية تهم جميع أفراد المجتمع المعني بالدين، أو بمجموعة من الديانات التي تتعايش في نفس المجتمع.
2) كل من يعمل على تحريف الرؤيا المادية للواقع بتحويلها إلى مجرد قوالب جاهزة لتصير بذلك نقيضا للدين، لتحولها هي بدورها إلى دين يعمل على مصادرة و إقصاء الدين القائم في المجتمع، و مسؤولية هؤلاء اعظم لأنهم يحولون الرؤيا المادية إلى رؤيا دينية عن طريق تأليه المادة و اعتبارها وحدها صاحبة الحق في الوجود المادي و ما سواها لا يمكن أن يتحول إلى قوة مادية.
3) الطبقات الحاكمة التي تدعم الدين على حساب الرؤيا المادية للواقع أو تدعم الرؤيا المادية للواقع على حساب الرؤيا الدينية، و هذا التدخل من الجهات الحاكمة لهذه الجهة أو تلك يؤدي إلى تقوية الرؤيا الدينية عن طريق توفير الإمكانيات المادية التي تقدم إلى المؤسسات الدينية، و إلى "رجال الدين" حتى يعملوا على إشاعة الدين في المجتمع و جعله حاضرا في اهتمامات الناس، و مصدرا لتفسير كل ما يقع حتى يغيب العقل بصفة نهائية، و يعفى الإنسان نفسه من التفكير في تحولات الواقع التي تصير قدرا لا داعي للتفكير في الأسباب و الدواعي التي تقف وراء تلك التحولات، أو يؤدي إلى تقوية الرؤيا المادية التي تصير بقوة المادة مصدرا لكل ما يحصل من تحولات في الواقع، فيغيب دور الدين كقوة مادية، و كمقوم من مقومات الواقع المادي.
4) الفكر السائد في المجتمع الذي يقضي بكونه فكرا دينيا بتغييب الفكر المادي. فينصب انشغال الناس بالتفكير في الواقع الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و السياسي. أو يقضي بكونه فكرا ماديا بتغييب الفكر الديني كقوة مادية قائمة في الواقع، فيدخل بسبب ذلك في تعارض مع الفكر الديني الذي يتحرك و بقوة من اجل الإعلان عن هويته، و عن تأثيره في الواقع إلى جانب تأثير الفكر المادي.
5) الإيديولوجيات الإقطاعية أو البورجوازية التابعة، أو البورجوازية، أو البورجوازية الصغرى، أو مؤدلجي الدين. و هذه الإيديولوجيات التي توظف الدين بشكل سافر، و تجعله حاضرا في الاهتمامات اليومية بشكل مكثف، و يقحم في الصراع ضد الرؤيا المادية التي تتراجع إلى الخلف، و تصير سبة في حق الأشخاص الذين يصيرون غرباء في الواقع المادي الذي يصير واقعا دينيا، و يصير من المستحيل اعتماد الرؤيا الدينية خوفا من الوصف بالكفر و الإلحاد، و غير ذلك مما له علاقة بالإخلال بالتوازن لصالح الرؤيا الدينية.
6) العادات و التقاليد و الأعراف القائمة على الفكر الخرافي و التي تسيطر في الكثير من المجتمعات المتخلفة اقتصاديا و اجتماعيا و ثقافيا و سياسيا، و هذه العادات التي تقوي المرجعية الغيبية تدعم الرؤيا الدينية التي تصير جزءا من تلك العادات و التقاليد و الأعراف، مما يؤدي إلى الإخلال بالتوازن لصالح الرؤيا الدينية و ضد الرؤيا المادية.
و لتجاوز هذه الوضعية لابد من إعادة الاعتبار للتوازن بين الرؤيا الدينية للواقع، و الرؤيا المادية للواقع حتى نتجاوز الصراعات الهامشية التي تفتقد الشرعية، و تغيب مظاهر الصراع الحقيقية، التنظيمية و الإيديولوجية و السياسية الناجمة عن الصراع بين الطبقات في المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية.
و بعد الوصول إلى ضرورة قيام توازن بين الرؤيا الدينية، و الرؤيا المادية للواقع، فمن المسؤول عن إعادة التوازن بين الرؤيا الدينية و الرؤيا المادية للواقع ؟
إن مسؤولية إعادة التوازن تقتضي أن يكون الحرص على علمية الرؤيا المادية للواقع، و على اعتبار الرؤيا الدينية جزءا من مكونات ذلك الواقع، و على الحرص على عدم ادلجته حتى نتجاوز حالة التوتر القائمة باستمرار بين الرؤيا المادية للواقع، و بين الرؤيا الدينية للواقع و تحمل هذه المسؤولية يرجع إلى :
1) كل من يناهض ادلجة الدين، و يحرص على أن يبقى مصدرا للقيم النبيلة التي يتحلى بها الأفراد و الجماعات مما يؤدي إلى تحقيق الوحدة الروحية المنتجة لروح التضامن و التعاون و التضحية ذات البعد الإنساني و تجنب القيام بالأعمال التي تسيء إلى الإنسانية. لأن ادلجة الدين تؤدي إلى انقسام المجتمع إلى طوائف دينية مما يؤدي إلى قيام صراع طائفي ديني-ديني غير مشروع. و لا ينتج إلا التخلف في جميع مستوياته الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية. و لذلك كانت و لازالت و ستبقى مناهضة ادلجة الدين من أولى الأولويات التي تساهم في الحد من ادلجة الدين و في إضعاف نتائج تلك الادلجة على الواقع في مختلف تجلياته.
2) كل من يحرص على علمية الرؤيا المادية للواقع، لأن علمية هذه الرؤيا تقتضي اعتماد الدين كمكون من مكونات الواقع المادي الذي يعيشه الإنسان ما لم يؤدلج. فإذا تأدلج فقد قدرته على أن يصير من مكونات الواقع بقدر ما يصير تعبيرا عن مصالح طبقية معينة تقضي علمية الرؤيا المادية العمل على نفيها، حتى لا تختلط بالدين، و حتى لا يصير الدين مع طبقة معينة، و ضد باقي الطبقات التي تصير معانية من الاستبداد و القهر و الظلم باسم الدين الذي تمثله الطبقة المستفيدة من ادلجته. و لذلك فالحرص على علمية الرؤيا المادية يساعد على إيجاد التوازن الضروري بين الرؤيا المادية و الرؤيا الدينية.
3) الطبقات الممارسة للصراع ضد الطبقات الحاكمة، هذه الطبقات التي توظف نتائج الرؤيا العلمية في دراسة الواقع، و تتجنب الدخول في صراع مع الرؤيا الدينية من منطلق أن الدين للجميع. و أن الرؤيا الدينية وسيلة لفهم التفسير الديني للواقع في علاقة ذلك التفسير بالقوة الغيبية التي تقف وراء وجود دين معين. فالصراع الطبقي يجب أن يبقى صراعا طبقيا في أبعاده التنظيمية و الإيديولوجية و السياسية. و الكادحون يجب أن يعوا في صراعهم ضد الطبقات الحاكمة ضرورة الفصل بين الدين و ادلجة الدين الذي تلجأ إليه الطبقات الحاكمة و حلفاؤها، و من يسعى إلى السلطة على أساس تلك الادلجة، حتى لا يدخلوا في صدام مع الدين، و يعوا خطورة ادلجة الدين في نفس الوقت، حتى يبقى الدين بعيدا عن الإقحام في الصراع الطبقي. و بذلك يستطيع الممارسون للصراع ضد الطبقات الحاكمة أن يعملوا على إيجاد توازن بين الرؤيا المادية و الرؤيا الدينية للواقع.
4) الفكر المناهض للفكر السائد، لأن هذا الفكر غالبا ما يتوخى العلمية و الواقعية، في مقابل الفكر الإقطاعي أو الفكر البورجوازي التابع أو الفكر البورجوازي الو البورجوازي الصغير، أو المؤدلج للدين الإسلامي. لأن كل هذا الفكر يوظف بشكل أو بآخر الرؤيا الدينية المؤدلجة. أما إذا كان هذا الفكر المناهض لا يتوخى العلمية و الواقعية في تعامله مع الأشياء، فإنه يصير من جنس الفكر السائد. و بالتالي فإنه سيعجز عن إعادة الاعتبار للتوازن بين الرؤيا المادية، و الرؤيا الدينية للواقع.
5) إيديولوجية الطبقة العاملة باعتبارها أيديولوجية تقوم على أساس الاشتراكية العلمية و تناهض سائر الإيديولوجيات المناهضة للفكر العلمي، و للرؤيا المادية، و توظف بشكل أو بآخر الرؤيا الدينية المؤدلجة، و بما أن إيديولوجية الطبقة العاملة. و باعتبارها إيديولوجية علمية، فإننا نجد أنها لا تنفي الدين بقدر ما تعتبره مكونا من مكونات الواقع المختلفة التي لابد من استحضارها في التحليل العلمي الملموس للواقع الملموس حتى يقوم توازن علمي بين الرؤيا المادية و الرؤيا الدينية للواقع، باعتباره توازنا بين المادة و الروح.
6) تطور العادات و التقاليد و الأعراف باعتبارها من مكونات الواقع، لأن الثبات و الجمود الذي يميزها يجرها إلى الوقوف وراء الإخلال بالتوازن بين الرؤيا المادية، و الرؤيا الدينية للواقع. و لذلك فالحياة تقتضي العمل على تطوير المسلكية الفردية و المسلكية الجماعية باعتبارها مصدر تكريس العادات و التقاليد و الأعراف التي تصير بذلك متطورة، مما ينعكس إيجابا على إحداث التوازن المطلوب بين الرؤيا المادية و الرؤيا الدينية للواقع.
و هكذا نصل إلى أن التوفيق بين الدين و الرؤيا المادية يقتضي اعتبار الدين مكونا من مكونات الواقع و يساهم في صياغته من خلال بث القيم الدينية بين الناس المتمسكين بالدين، و هو في نفس الوقت إفراز للواقع و يسعى إلى إعطاء صورة محددة لصيرورته. كما يقتضي اعتبار المادة هي عين الواقع نفسه، و تقوم بمنهجها العلمي بصياغته، و تعمل بتطورها المستمر على التلاؤم معه. و بذلك تتكون رؤيتان رؤيا دينية و رؤيا مادية تقوم بينهما علاقة إقرار و احترام متبادلين، و يتحدد في إطار ذلك الاحترام موقف الرؤيا الدينية من الرؤيا المادية، و موقف الرؤيا المادية من الرؤيا الدينية. و كيف ترى تلك الرؤيا المادية لنتائج الرؤيا الدينية. و هل يمكن أن يوقف الدين الرؤيا المادية للواقع ؟ و هل يمكن أن توقف الرؤيا المادية الرؤيا الدينية للواقع ؟ و ما العمل من اجل احترام متبادل بين الرؤيا الدينية و الرؤيا المادية للواقع ؟ و من المسؤول عن الإخلال بالتوازن بين الرؤيا الدينية، و الرؤيا المادية ؟ و من المسؤول عن إعادة التوازن بين الرؤيا الدينية، و الرؤيا المادية للواقع ؟ وصولا إلى حياة تخلو من الصراعات غير المشروعة. و من اجل إنضاج شروط قيام صراع طبقي حقيقي يقود إلى عملية التحول الشاملة التي تنقل البشرية إلى مستوى احسن مما هي عليه في ظل شروط النظام الرأسمالي العالمي المسيطر على جميع مجالات الحياة.
الماركسية و وجود الدين :
و قبل الدخول في مناقشة هذا الموضوع نشير إلى انه أثناء خوضنا للنقاش في الفقرات السابقة ركزنا على ترديد و إبراز خلاصة مفادها أن الدين يجب أن يعتبر مكونا من مكونات الواقع، و أن هذا المكون يتحول بسبب ذلك إلى قوة مادية قائمة في الواقع. و الماركسية باعتبارها رؤيا مادية لابد أن تأخذ هذه الخاصية بعين الاعتبار . لأن الماركسية عندما لا تفعل ذلك تتخلى عن علميتها. كما أننا استحضرنا كون الدين إذا صار مؤدلجا يصير نقيضا للماركسية، و موضوعا للصراع الإيديولوجي و مستهدفا بالنفي.
و انطلاقا من هاتين الخلاصتين نجد أنفسنا أمام سؤال مركزي يقضي بالوقوف على الفرق الجوهري بين الماركسية و الدين. و هذا السؤال هو : ما طبيعة الماركسية و ما طبيعة الدين ؟
إننا عندما نسعى إلى معرفة طبيعة الماركسية و طبيعة الدين، إنما نسعى إلى التمييز بين العلاقات المدركة و الملموسة بقوانينها التي تحكمها، و بين العلاقات التي لا تكون.
فالعلاقات الملموسة هي علاقات مادية تدرك بواسطة العلم المادي الذي ليس إلا القوانين العلمية المادية التي اكتسبها ماركس و انجلز باعتبارهما مؤسسا الماركسية، التي ينسب إليها كل ما ينتج تلك القوانين في دراسة الواقع من فكر علمي يحمل اسم الفكر الماركسي. و ما ينتج عن ذلك الفكر من تطور للواقع و للفكر و للقوانين العلمية في نفس الوقت. فالفكر في الماركسية محرك للواقع و مطور له و الواقع مطور للفكر و محرك له. و ما يجري في الواقع و في الفكر مطور للقوانين العلمية، و القوانين العلمية قادرة على جعل الفكر يتحرك اكثر و أسرع في اتجاه إدراك حقيقة الواقع، و فهم قوانينه التي تحكم حركته في اتجاه التطور أو في اتجاه الجمود. فالعلاقة بين الفكر و الواقع من جهة و بين القوانين العلمية من جهة أخرى علاقة جدلية أيضا. فكل شيء محكوم بالجدل حسب الماركسية. و الماركسيون هم الذين يقتنعون بالجدل، و يعملون على سبر غوره و توظيفه في ممارساتهم اليومية، الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و السياسية و التنظيمية حتى تكون ممارستهم هادفة و في نفس الوقت مساهمة في بناء حركة الواقع و تطوره و تطويره في الاتجاه الذي يرونه أفيد للجماهير الشعبية الكادحة و طليعتها الطبقة العاملة. و الماركسيون باقتناعهم ذلك، و بممارستهم تلك إنما يشكلون حركة متناسبة مع الماركسية و الفكر الماركسي، و مع رؤيا علمية للواقع، فهي أيضا إيديولوجية الطبقة العاملة و سائر الكادحين، و هي ليست كباقي الإيديولوجيات إنها الإيديولوجية العلمية التي تجعل المقتنعين بها يخوضون صراعا إيديولوجيا مريرا ضد سائر الإيديولوجيات غير العلمية. إلى جانب الصراع التنظيمي، و الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و السياسي في أفق نفي تلك الإيديولوجيات، و جعل الإيديولوجية الماركسية هي السائدة في الواقع كما تقتضي حركة التاريخ ذلك.
أما عندما نسعى إلى معرفة حقيقة الدين، فإننا لا نرتبط لا بمؤسس، و لا بفكر، و لا بقوانين. إننا نرتبط بشيء واحد فقط، و هذا الشيء هو الإيمان الذي يرتكز على الاقتناع بوجود قوة غيبية تارة تتجسد في قوى الطبيعة أو في الحيوانات أو في الأشخاص أو في الأشجار أو في التماثيل، أو أنها تكون مجردة، لا تدركها الأبصار و هي تدرك الأبصار، كما يقتضي الإيمان ذلك. و هذه القوة الغيبية تسمى "الله" في الديانات الثلاث اليهودية، و المسيحية، و الإسلام، و هي التي استطاع إبراهيم إدراكها بعد بحثه العميق في حقيقة المعبودات من قبل البشر في عصره، فقد جاء في القرءان حكاية عنه " فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي، فلما أفل قال لا احب الآفلين، فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا اكبر فلما افلت قال يا قوم اني بريء مما تشركون، اني وجهت وجهي للذي فطر السموات و الأرض حنيفا، و ما أنا من المشركين" و هذه القوى "الله" هي التي جاء عنها في القرءان "لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار و هو اللطيف الخبير". و المومن بدين معين يفترض فيه التشبع بقيم معينة تتناسب مع طبيعة ذلك الدين، كما يقوم بممارسة طقوس معينة تتناسب مع طبيعة كل دين على حدة تعبيرا عن الإيمان بذلك الدين، و سعيا إلى جعله مطلبا للناس حتى يقتنعوا به، و يومنوا بالقوة التي تقف وراءه و تبحث على الرغبة فيه، و الرهبة من تلك القوة التي تصير –حسب الإيمان- مصدرا للخير. و دافعا لمقاومة الشر الذي يصير متناسبا مع إفراز الواقع الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و السياسي. ليصير الدين –بالإيمان- جزءا من الواقع و مكونا من مكوناته التي يجب اعتبارها في أي تعامل يستهدف ذلك الواقع.
و الدين عندما يصير جزءا من الواقع يصير محركا له و محولا للفكر فيه، و ساعيا إلى تعميم قيمه على جميع الناس مهما كان جنسهم أو لونهم أو عرقهم أو لغتهم حتى يصيروا كالمثال الذي يرد في النصوص، أو يرد في مسلكية المومنين به مما تكون على مر العصور.
و قد أشرنا في الفقرات الأولى من معالجتنا هذه أن الدين يختلف باختلاف الأزمنة و الأمكنة، و أن الدين الواحد يختلف فهمه و تأويله كذلك حسب الأزمنة و الأمكنة. لأن ذلك الفهم و التأويل يرتبطان بالشروط الموضوعية القائمة في الواقع المحدد في الزمان و المكان. و لذلك نجد تعدد المذاهب في الدين الواحد، و اختلاف تلك المذاهب من زمن إلى زمن آخر و من مكان إلى مكان آخر.
و الدين يمكن أن يصير مستهدفا بالادلجة نظرا لشدة تأثيره في نفوس الناس و على جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية و في جميع مناحي الحياة، و في نفوس كل الناس مهما كان مستواهم المعرفي، و مهما كانت الشروط التي يقتضيها الواقع. و لذلك نجد أن معظم الطبقات الاجتماعية تعمد إلى تحويله إلى إيديولوجية بنسبة أو بأخرى رغبة في تضليل عامة الناس، و خاصتهم ممن لا يقتنعون بإيديولوجية معينة، حتى ينساقوا وراء الطبقة المؤدلجة للدين التي تجعلهم يخدمون مصالحهم الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية.
و الدين عندما يؤدلج يفقد كونه دينا و يتحول إلى إيديولوجية، و بدل أن يعمل على بث القيم بين الناس يسعى إلى إقناعهم بأدلجته، و كونه يعمل على تحقيق السعادة لهم بتحقيقه للدولة الدينية. و هو بذلك يتحول إلى أداة و وسيلة للصراع بين الطبقات، لأن مؤدلجي الدين الذين يسعون إلى تأسيس الدولة الدينية، يصطدمون بمن يسعون إلى تأسيس دولة دنيوية بورجوازية، أو بورجوازية صغرى أو اشتراكية، أو أي دولة علمانية.
و لذلك، فإقحام الدين في الصراع يجعل منه دينا خاصا بطبقة معينة دون سائر الطبقات الاجتماعية التي تبقى طبقات لا دينية لعدم انسياقها وراء ادلجة الدين الإسلامي و هو ما يقتضي العمل على حفظ الدين من الادلجة التي تحرفه عن مقاصده، و تجعله يفقد القدرة على أداء دوره في بث القيم الدينية بين جميع الناس على أساس المساواة فيما بينهم "لا فرق بين عربي و عجمي، و لا بين ابيض و اسود إلا بالتقوى". و حفظ الدين من الادلجة هو مهمة جميع الطبقات الاجتماعية التي ليس من مصلحتها صيرورة الدين إيديولوجية. و الإيديولوجية لا يمكن أن تكون إلا مفسدة للدين، و أداة و وسيلة للصراع، و سببا في تجييش الناس وراء ادلجة الدين باسم الدين من اجل بناء دولة دينية، مكان الدولة العلمانية لجعل الاستبداد القائم في المجتمع استبدادا دينيا، و الاستبداد الديني يعتبر الدين مصدرا للقيم السلطوية الاستبدادية.
و بذلك يتبين أن طبيعة الماركسية هي طبيعة علمية تطورية إيديولوجية، تسعى إلى التغيير الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و السياسي بين الناس. و هذا التغيير يكون نتيجة للصراع الطبقي المشروع و الذي يتلاءم مع الشروط الذاتية و الموضوعية التي تحكم المجتمع ككل، و التي تتغير حسب الزمان و المكان، و لأن طبيعة الدين هي طبيعة إيمانية بقوة غيبية معينة يعتقد المومنون أنها تقوم بدور معين لصالح الإنسان و الكون و الطبيعة و أن التعبير عن هذا الايمان يتم بواسطة ممارسة طقوس معينة تختلف من دين إلى دين آخر، و من زمن إلى زمن آخر. و تتفاعل مع الشروط الموضوعية التي يعيشها الناس. و نظرا للبعد الغيبي للدين، فإن الطبقات الاجتماعية تلجأ في معظم الأحيان إلى استغلاله على المستوى الإيديولوجي للوصول إلى كسب المتدينين.
و بعد وقوفنا على الطبيعة المختلفة للماركسية و للدين نصل إلى طرح السؤال : ما الذي يميز الماركسية عن الدين ؟ و ما الذي يميز الدين عن الماركسية ؟
إن أهم ما يميز الماركسية علميتها لأنها في الأصل وجدت علما، بمنطلقاته المادية، و قوانينه العلمية، و نتائجه الفاعلة و المؤثرة في الواقع، و التي يمكن اعتبارها مغيرة لمجرى التاريخ على جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية. و ما قيام الثورات الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي السابق، و في الصين، و في كوبا، و في الفيتنام، و في كوريا الشمالية، و في غيرها من الأماكن، و في مراحل تاريخية مختلفة إلا دليل على علمية العلم الماركسي، الذي يقتضي الوعي به، و بدوره، و بتفعيله حتى يؤدي دوره في تفكيك الواقع من اجل اكتشاف قوانين تطوره، و إعادة تركيبه وفق ما تقتضيه تلك القوانين حتى يتغير لصالح الكادحين الذين جاءت الماركسية من اجل جعلهم يمتلكون الوعي الطبقي الحقيقي الذي يدفعهم إلى خوض الصراع من اجل انتزاع المكاسب المادية و المعنوية و السعي إلى الوصول إلى السلطة من اجل التحكم في فرض خدمة مصالح الكادحين.
و ما يميز الماركسية أيضا هو استفادتها من نتائج تطور العلوم و الآداب و الفنون، لأن تطور كل تلك المعارف يأتي دائما بالجديد العلمي، و الفلسفي و الفكري. و حتى تصير الماركسية في مستوى التحولات لابد من توظيف مكتسبات العلم الحديث و المعرفة الحديثة في جميع المجالات من اجل إغناء المنهج الماركسي و التجربة الماركسية، و تطوير الأدوات الماركسية، و الرؤيا المادية للتاريخ، و الواقع سعيا إلى تطوير الأداء الماركسي في الواقع، و التسريع بعملية التحول الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و السياسي في الاتجاه الذي تخطط له الحركة الماركسية، و تسعى إلى تفعيل الواقع من اجله.
و بدون الاستفادة من نتائج العلم الحديث، و مما تعرفه الفلسفة و الفكر من تطور ستعرف جمودا، و سينعكس ذلك الجمود على المنهج الماركسي الذي يتحول إلى مجرد مقولات يرددها الماركسيون بدون روح كما ينعكس على الحركة الماركسية التي تصير عاجزة عن مواجهة التحديات التي تعترضها و المتمثلة بالخصوص في عجزها عن القدرة على استيعابها لما يجري في الواقع.
و ما يميز الماركسية أيضا هو وقوفها وراء قيام حركات ماركسية حزبية على المستوى المحلي، و الإقليمي و القومي و الدولي، لأنه بدون قيام تلك الحركة الماركسية لا معنى لوجود الماركسية أبدا فيها، تستطيع الماركسية الوصول إلى عموم الشعب في كل أرجاء الأرض، و بها تملك الماركسية الأدوات التي تسعى إلى تحقيق التصور الماركسي على ارض الواقع.
و ما يميز الماركسية أيضا هو صيرورتها إيديولوجية الطبقة العاملة، و سائر الكادحين في جميع أرجاء الأرض، و صيرورتها إيديولوجية الكادحين هو الذي يضمن استمرارها، و تطورها باستمرار الطبقة العاملة و تطورها.
و ما يميز الماركسية أيضا هو قدرتها على التعامل مع جميع الخصوصيات، و قدرتها على إبداع الآليات التي تتناسب مع كل خصوصية على حدة، و هو ما يجعلها بقدرتها تلك صالحة لكل زمان و مكان ما دامت تحمل أمل شعوب الكادحين، و تسعى إلى تجسيد ذلك الأمل في البنيات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية.
و ما يميزها هو غايتها المتمثلة في تحقيق المجتمع الاشتراكي الذي يعتبر وحده مجتمعا للحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية بالقضاء على جميع أشكال الاستغلال المادي و المعنوي بوصول الكادحين إلى السلطة، و تحويل ملكية وسائل الإنتاج من ملكية فردية إلى ملكية جماعية. و بناء الديمقراطية بمضمونها الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي، و العمل على حماية مكتسبات الدولة الاشتراكية حتى لا تعرف مصير "الاتحاد السوفياتي السابق" الذي انعدمت فيه أسس استمراره كدولة اشتراكية، و تحول بفعل عوامل ذاتية و خارجية إلى دولة رأسمالية بسبب الجمود العقائدي الذي فرضته البيروقراطية الحزبية التي لم تنصع إلى إرادة الكادحين، و فرضت استبدادها على الجميع.
و هذه المميزات التي تميز الماركسية هي التي تلعب دورا كبيرا و أساسيا في جعل الماركسية تتجدد باستمرار، و يتطور تفاعلها مع الواقع المختلف، و تنتج باستمرار واقعا جديدا حتى في ظل تحقق المجتمع الاشتراكي. لأن الاشتراكية هي المناسبة التي يصير فيها الصراع بين مختلف تناقضات المجتمع ديمقراطيا بامتياز حتى يتم الانتقال إلى المرحلة الأعلى في شروط احسن و في ظل تكريس الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية.
و انطلاقا من هذه الخلاصة نصل إلى أن الماركسية هي نظرة علمية للواقع المتنوع الذي يعتبر الدين واحدا من مكوناته المختلفة و الذي لا يمكن استئصاله منه لارتباطه بمعتقدات الناس التي ترتبط بوجودهم في الحياة، لكن إذا تأدلج يصير نقيضا للماركسية و تعبيرا عن مصلحة طبقية. و لذلك فالماركسية بقدر ما تعتبر الدين مكونا من مكونات الواقع، بقدر ما تعمل على نفي ادلجة الدين التي لا علاقة لها بالدين. و عمل الماركسية على نفي ادلجة الدين هو الذي يوقع في الخلط بين محاربة الدين و محاربة ادلجة الدين. و الماركسية في تاريخها، و منذ قال ماركس "الدين أفيون الشعوب" لا تحارب إلا ادلجة الدين. أما الدين، فقد كان يلقى الاحترام ما لم يتأدلج. و هذا ما أكدته التجارب التي أثبتت أن الدولة الاشتراكية العظمى "الاتحاد السوفياتي السابق" لم يسبق لها أن عملت على استئصال الدين من المجتمع السوفياتي، و لم تغلق المؤسسات الدينية لسبب واحد و بسيط، و هو أن الدولة الاشتراكية باعتبارها ذات مرجعية ماركسية تحترم الدين و تعتبره من مكونات الواقع، و تترك له الفرصة لأن يتوسع. أما ادلجة الدين التي تستغل الدين، فإن مواجهتها تعتبر ضرورة تاريخية و ضرورية لوقف التضليل الذي يستهدف وعي الكادحين.
أما ما يتميز به الدين عن الماركسية فيتجسد في :
1) كون الدين مقوما من مقومات الشعوب التي بها تعرف و التي لابد أن تؤخذ بعين الاعتبار نظرا لكونه يداخل حياة الناس الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية، لأن الناس في علاقاتهم الاقتصادية يستحضرون كونهم يعتنقون دينا معينا، و في علاقاتهم الاجتماعية يبنون علاقتهم الفردية و الجماعية في التعليم و الصحة و السكن و الشغل على هذا الأساس حتى تسود التربية على قيم دين معين، و حتى يكون ذلك الدين موجها للمسلكية الفردية و الجماعية في جميع المجالات و في جميع مناحي الحياة ليصير الوجود البشري مرتبطا بدين معين، و ليصير ذلك الدين مرتبطا بالوجود البشري، لا يزول إلا بزوال البشر.
و من طبيعة المكون انه يدخل في بنية البشر، و يصير بمثابة كيمياء تتفاعل مع الكيان البشري. و ذلك التفاعل هو مبعث الوجود و الاستمرار بالنسبة للدين في حد ذاته، و بالنسبة للإنسان المتدين. فالإنسان يحافظ على الدين و يغنيه بتأويلاته ليجعله يتناسب مع الزمان و المكان. و هذه التأويلات المختلفة هي تجعلنا نفهم لماذا هذا التعدد في المذاهب و في التوجهات الدينية الكبرى في إطار الدين الواحد كما هو الشأن بالنسبة للكاثوليكية، و البروتستانتية في الديانة المسيحية، و كما هو الشأن بالنسبة للمالكية، و الشافعية و الحنفية و الحنبلية في الإسلام. بالإضافة إلى التوجهات الصغرى داخل كل مذهب ... و هكذا.
و انطلاقا من هذا الفهم المختلف و المشروع نظرا لاختلاف الشروط الذاتية و الموضوعية للمتدينين في كل بقعة من بقاع العالم و في كل زمان يتبين لنا أن الدين هو للناس جميعا مهما كان جنسهم أو لونهم أو لغتهم أو سنهم و أنه لا يجوز لأي كان أن يمارس السطو عليه، و أن يعمل على خوصصته كما تفعل الطبقات في كل بلاد المسلمين، و كما تفعل الصهيونية العالمية، و في فلسطين المحتلة بالنسبة لليهودية. و كما فعل الحكام و معارضوهم في العصور الوسطى بالنسبة للمسيحية و الإسلام. لأن ممارسة السطو على الدين و خوصصته عن طريق ادلجته تجعل الجهة المؤدلجة تعتقد أنها تملك التفويض الإلهي في أن تفعل بالبشر ما تشاء كما جاء على لسان زياد بن أبيه الأموي في خطبته الشهيرة ب"البتراء" : "إننا نسوسكم بسلطان الذي أعطانا و نذوذ عنكم بفيئه الذي خولنا". لأن ما مورس من ادلجة عبر العصور، و ما يمارس منها في هذا العصر يجعل الدين يقف وراء الكثير من الصراعات التي أودت بحياة الملايين من البشر الذين كان يجب الإبقاء على حياتهم لو بقي الدين بعيدا عن الادلجة التي صارت تتخذ بعدا كونيا ليتحول الصراع من صراع طبقي حقيقي إلى صراع عقائدي بين المنتمين إلى معتقدات مختلفة، أو بين المومنين و الكفار، أي بين السماء و السماء بالنسبة للصراع الديني-الديني. و بين السماء و الأرض بالنسبة لصراع المومنين ضد الكفار. و الواقع أن ادلجة الدين لا تهدف إلى حماية الدين كما يوهمنا المؤدلجون، بقدر ما تهدف إلى خدمة المصالح الطبقية للجهة المؤدلجة للدين. و لذلك نرى ضرورة تجنب ادلجة الدين، و عدم توظيفه في الأمور السياسية حتى يحافظ على كونه مقوما من مقومات الشعوب. و حتى يستمر منبعا للقيم النبيلة التي توجه المسلكية الفردية و الجماعية في نفس الوقت.
2) كون الدين مصدر للقيم التي لها علاقة بالجوانب الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية، و جوهر هذه القيم و روحها هو ما نجده في هذه الأقوال البليغة كقول الرسول محمد "الدين النصيحة" و قوله "الدين المعاملة" وقوله "إماطة الأذى عن الطريق". و هذه التوجيهات القيمة تستهدف جميع المجالات، و في جميع مناحي الحياة، من اجل إيجاد مناخ خال من الأمراض، ملائم لنشأة إنسانية متلائمة مع تلك القيم الدينية النبيلة تحقيقا لسعادة الإنسان الروحية في الدنيا، و تمهيدا لتحقيق تلك السعادة في الحياة الأخرى.
ففي المجال الاقتصادي نجد قيمة التضحية المادية من اجل الآخر، حتى تتحقق العدالة في حدودها الدنيا على الأقل بين جميع الناس الذين يعيشون في الزمان و المكان. كما نجد ذك في الدين الإسلامي الذي جاء في كتابه : "إنما الصدقات للفقراء و المساكين و العاملين عليها و المؤلفة قلوبهم و في الرقاب و الغارمين و في سبيل الله و ابن السبيل" فالتضحية و البذل قيمتان أساسيتان في كل دين، و خاصة الدين الإسلامي. و هي تضحية واجبة حتى لا تترك للأهواء، و حتى لا يتم تأويلها انطلاقا من المصلحة الطبقية، و حتى لا يتعرض المعدمون للهلاك و غيرهم ينعم في خيرات كثيرة. و يمكن اعتبار الحث على قيمة التضحية و البذل من ما صار يعرف في عصرنا هذا بالضمان الاجتماعي، أو الحماية الاجتماعية التي لا تكون في عمقها إلا حماية اقتصادية. و لكن العمل على شيوع هاتين القيمتين لا يعني أبدا الحث على قيمة التواكل التي هي قيمة مرفوضة في مختلف الأديان و آخرها الدين الإسلامي الذي جاء على لسان رسوله "لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره فيبيعه خير له من أن سأل الناس، سواء أعطوه أو منعوه" و معلوم ما لقيمة السؤال من مذلة، و لقيمة العمل من مكانة رفيعة في المجتمع حتى يكون الدخل الاقتصادي للفرد ذا مشروعية إنسانية و اجتماعية يجب أن يكون مصدره العمل الذي يتخذ أبعادا متعددة : بعد التجارة و بعد الصناعة و بعد الزراعة، و بعد الخدمات لأن كل هذه الأبعاد لابد أن تكون بمقابل، أي بفائدة في التجارة، أو بمقابل في الزراعة، أو بأجر عن العمل في الصناعة أو الزراعة أو في الخدمات. و هذا المقابل هو الذي يكسب الفرد عزة النفس. و لكن في نفس الوقت قد تكون الحاجة إلى العمل مصدرا للإذلال و الاستغلال. و لذلك نجد أن الدين يحث على أداء الأجر قبل أن يجف عرق العامل.
و انطلاقا من هذا التصور الذي استعرضناه نجد أن الدخل الاقتصادي في الدين يأتي نتيجة لأحد سببين :
الأول : قيام تنظيم التضحية بين أفراد المجتمع عن طريق التنازل عن جزء محدد مما يملكون، أو من مدخولهم السنوي لصالح من يعجز عن اكتساب ما يسدد به حاجته بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية التي تتفاعل فيما بينها، فيتواجد و بسبب ذلك العاجزون عن العمل أو عن اكتساب قوتهم اليومي.
و الثاني : العمل الذي تتحدد مجالاته في التجارة و الصناعة و الزراعة و الخدمات، و الذي يجب أن يكون مدخوله متناسبا مع متطلبات الحياة الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية. فإذا لم تكن كذلك، فإن العامل يكون مظلوم و مقهورا، و عليه أن يرفض و يمارس عليه من ظلم أو قهر، أو غير ذلك.
و يمكن أن يكون هناك مصدر آخر للدخل عن طريق انتقال الملكية من شخص إلى شخص آخر، أو إلى مجموعة من الأشخاص وفق مقاييس معددة في الدين الإسلامي على الأقل كما جاء في القرءان " للرجال نصيب مما ترك الوالدان و الاقربون و للنساء نصيب" و هذا النصيب يختلف من شخص إلى آخر "للذكر مثل حظ الأنثيين" إن كان الأشخاص أبناء أشقاء.
و سواء اتفقنا مع تعامل الجانب الاقتصادي أم لم نتفق فإن جوهر التعامل يكمن في الدفع بالإنسان إلى الحرص على عزة نفسه، و أن لا يقبل أبدا إذلالها بسبب ذلك.
و على المستوى الاجتماعي نجد أن الدين يحث على التعلم الذي يمكن اعتباره مصدرا لامتلاك المعرفة الدينية و الدنيوية في نفس الوقت لأنه بدون تلك المعرفة لا يمكن الحديث أبدا عن شيء اسمه الدين، أو عن شيء اسمه الدنيا. لأن الغاية من التعلم هي غاية دينية و دنيوية في نفس الوقت. و هذه الغاية المزدوجة هي التي تجعل التعلم مسألة أساسية، و في هذا الإطار نجد أن الدين الإسلامي كآخر الأديان السماوية يحث على طلب العلم "اطلب العلم من المهد إلى اللحد" و "اطلب العلم و لو في الصين" و "تعلموا كتاب اليهود، فإني والله لا آمن اليهود كتابي" كما جاء على لسان الرسول محمد. و قد جاء في القرءان "إنما يخشى الله من عباده العلماء" و أول آية نزلت كانت قوله تعالى " اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ و ربك الأكرم، علم الإنسان ما لم يعلم".
و قد ثبت بالملموس أن تقدم العلوم و تطورها يقف وراءه مدى ما بلغته تلك الأمم من علم، و ما حققته من تقدم على أساس التقدم العلمي، و أن تأخرها يرتبط بشكل كبير بسيادة الأمية في صفوف أفرادها، و أن تأخرها يرتبط بشكل كبير بسيادة الأمية في صفوف أفرادها. و معلوم أن المتعلم يزداد تواضعا، و أن الجاهل يزداد تكبرا للتعويض عن جهله و هذا ما انتبه إليه المتنبي حين قال :
ذو العلم يشقى في النعيم بعقله و أخو الجهالة في الشقاوة ينعم
و التعلم في الدين لا يهم الذكور وحدهم، و إنما يجب أن يستهدف النساء أيضا، كما جاء في الأثر "النساء شقائق الرجال" و كما جاء في الحديث بالنسبة للدين الإسلامي "طلب العلم فريضة على كل مسلم و مسلمة" و أهم ما ورد في هذا الإطار قول الشاعر :
الام مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
و قوله :
ربو بنيكم علموهم هذبوا فتياتكم فالعلم خير قوام
و ثبت بالملموس أن المرأة المتعلمة اكثر إفادة للمجتمع من المرأة الجاهلة. و أن العامل المتعلم اكثر إنتاجا من العامل الجاهل. و أن التعلم لم يعد وسيلة للرقي الاجتماعي فقط، و إنما صار أيضا وسيلة للرقي الاقتصادي.
و على المستوى الثقافي نجد أن الدين، أي دين لا يهتم إلا بالعمل على تفعيل القيم التي أتى من اجل العمل على نشرها بين الناس شاء من شاء، و كره من كره. فقيم الدين الإسلامي على سبيل المثال هي المعتبر في ثقافة هذا الدين. و هي جوهر الممارسة الدينية جملة و تفصيلا، سواء تعلق الأمر بالعبادات، أو بالشرائع. لأن الكل في الدين الإسلامي يهدف إلى إيجاد إنسان بتصور معين، متميز عن الإنسان الذي يحمل في مسلكيته قيم دين آخر، أو قيما لا ملة لها و لا دين من منطلق أن الدين الإسلامي لا ينفي الديانات الأخرى و لا يرغم الناس على اعتناقه، لأنه كما جاء في القرءان "لا إكراه في الدين" و لأن الدين الإسلامي ينطلق من مبدأ الحوار بين الديانات "يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم أن لا نعبد إلا الله" و حتى إذا ورد في القرءان " و من يتبع غير الإسلام فلن يقبل منه، و هو في الآخرة من الخاسرين" فلأن جميع الديانات في اصلها كانت إسلاما قبل أن يلحقها التحريف كما جاء عنها في القرءان : "و قالت اليهود عزير ابن الله و قالت النصارى المسيح ابن الله" من منطلق أن مفهوم الله في الإسلام و منذ عهد إبراهيم قبل مجيء اليهودية و قبل مجيء المسيحية، هو التجرد و الوحدانية. فالتجرد يفرض أن الله "لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار و هو اللطيف الخبير" و الوحدانية تفرض "قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفؤا أحد" و لذلك فاليهودية و المسيحية ديانتان محرفتان عن اصل الدين الذي هو الإسلام مما جعل اليهود و المسيحيين يعتقدون جميعا أن الله ثالث ثلاثة، ليسقط بذلك التجرد الذي يتحول إلى تجسيد في زوجة الله و ابن الله باعتبارهما الهين، و لتسقط بذلك الوحدانية، ليوجد شركاء لله، و هو ما رد عليه القرءان بقوله "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا".
و الثقافة الدينية تهدف إلى إشاعة قيم الفضيلة بين الناس، و تجنب قيم الرذيلة التي لا تساهم إلا في تخريب المسلكية الفردية و الجماعية. و الوسيلة إلى ذلك، الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر بأساليب مختلفة من بينهما ما جاء في الحديث "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، و ذلك اضعف الإيمان".