فى مثل هذه الأيام قبل 38 عاما ، أكمل وليم دينج طوافا سياسيا بين أهله فى مدينة رومبيك . وفى طريق العودة نصبت له القوات الحكومية المرابطة هناك كمينا للعربة التى أقلته وبعض أنصاره ، وقتل جميع ركابها بدم بارد . وسارعت حكومة محمد أحمد محجوب لتبرء ساحتها مما أصاب حزب سانو وقائده ، علما بأن دينج كان حليفا لجناح حزب الأمة المعارض بقيادة الصادق المهدى . وبعد مضى أشهر عديدة أعلنت لجنة التحقيق فى الحادث أن الأمر كان "قضاءا وقدرا" . وكان يتعين على لجنة التحقيق أن تنشر حيثيات التحقيق كما هو متعارف ولقطع دابر الشك فى خضم أجواء مليئة بالمكايدات ، وانعدام الثقة ، واغتيال الخصوم السياسيين معنويا وجسديا (مات الأب سترنيننو لوهرى راعى حزب سانو بالخارج فى ظروف مريبة أثناء تواجده فى كبالا . وتوجهت أصابع الاتهام آنذاك نحو رفيق دربه وخصمه اللدود لاحقا ، جوزيف أدوهو. ومن المحزن أن أدوهو نفسه لقى حتفه مقتولا ) .
أما القيادة العامة للقوات المسلحة فقد أسهمت بدورها فى وأد الحقيقة ، ولم تأبه بما تمليه مسئوليتها الدستورية واللوائح التى توارثتها منذ تكوين قوة دفاع السودان. ومقتل زعيم سياسى فى مكانة وليم دينج وأهميته لم يكن أمرا هينا . والانطباع السائد لدى العديد من ضباط القوات المسلحة أن اثنين من رفقائهم فى السلاح من الدفعة 17 (المرحوم صلاح فرج وسعد سيدأحمد) تلقيا أمرا من القيادة العامة باطلاق النار على العربة التى أقلت وليم دينج ومن معه . والرجوع الى هذه المسألة لا يهدف الى نبش هذا الجزء من ماض يتمنى البعض تجاوزه . ولكن الاستهانة هنا بأحداث التاريخ فى غير محلها . "الحق قديم .. والحق يعلو ولايعلى عليه) كما يقول عمر بن الخطاب . والرجوع الى مثل هذه الوقائع التاريخية أمر فى غاية الأهمية لتحقيق العدالة أولا ولقطع الطريق أمام كل من ينزع فى الحاضر أوالمستقبل الى التصفية المعنوية أو الجسدية لخصومه فى معترك السياسة والفكر . ومما يحز فى النفس أن أغتيال رئيس حزب سانو قد وقع تحت سمع وبصر حكومة "ديمقراطية" ، وقف على رأسها رجل فى مكانة محمد أحمد محجوب ، لم تسعفه تجاربه وثقافته الموسوعية ، وحدسه القانونى للوقوف على عدالة التحقيق فى اغتيال وليم دينج !
ووليم دينج كان من أفذاذ السياسيين السودانيين المدافعين عن حق المديريات الجنوبية فى الحصول على شكل من أشكال الحكم الاقليمى الذاتى . أضطر الى مغادرة موقعه كمساعد مفتش ادارى ، بعد أن أغلقت أبواب الحوار، ولحق بالفوج الأول من السياسيين الجنوبيين الذين تسللوا عبر الحدود السودانية الى يوغندا والكنغو (زائير) . وكان من المؤسسين الأوائل "للاتحاد السودانى الأفريقى للمناطق المقفولة" الذى تغير اسمه بعد أمد قصير الى "الاتحاد الوطنى السودانى الأفريقى" ، المعروف اختصارا بحزب سانو (1963) . وصاغ دينج وجوزيف ادوهو كتيبا تعريفيا بأهداف حركتهم . ولكن منذ نقطة الانطلاق وقف دينج فى معارضة ادوهو والأب سترنينو . وبعد مسار مضطرب لحركة الانيانيا بسبب الصراعات القبلية والتنافس الفردى واحجام الدول عن دعمهم تبلورت الفكرة الأساسية لدى وليم دينج بأن الهدف الاستراتيجى للنضال المسلح هو تهيأت أفضل أجواء للحل التفاوضى . وقد سعى أدوهو ولوهرى الى عزله واتهامه بالتواطؤ مع الحكومة السودانية . وقد وقع الانفصام النهائى بين الفريقين بعد انتفاضة اكتوبر واعلان الحكومة الشعبية عن استعدادها الى التفاوض بنية حسنة لانهاء الحرب الأهلية . لم يستجب ادوهو ولوهرى واقرى جادين لنداء السلام ، بينما حزم وليم دينج حقائبه وعاد لمواصلة نشاط حزب سانو من الداخل . وكانت هذه الخطوة تنم عن اقعية وفراسة فى اقتناص اللحظة السياسية المواتية ، بينما انغمس الجناح الآخر لسانو – خارج السودان – فى معارك وانقسامات يصعب حصرها . وانفضت آخر الحلقات لسانو فى الخارج بانفصام نهائى بين ادوهو وسترنينو لوهرى . وفى لجة الضعف والاحن والتمزق ، آل الأمر من بعدهم سهلا هينا الى غريمهم جوزيف لاقو .
أملى أن يتقدم الضابط السابق سعد سيدأحمد (ربما يكون مقيما بدولة قطر) ، وقد أوردنا أسمه فى سياق هذا التناول للحدث الجسيم ، ليكشف عن الملابسات التى أحاطت باغتيال وليم دينج والأوامر التى صدرت له بهذا الشأن . وبالطبع يملك الأخ سعد وحده حق تأكيد المعلومات التى أوردناه أو نفيها ، حتى يهدأ بال أهله وعشيرته وأنصاره والمهتمين بمجرى العدالة والمنهمكين فى التدقيق فى وقائع التاريخ وصونها من الضياع .
عبدالماجد بوب - كلفورنيا