مقالات من السودان
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

مسـافر إلـى الغنـي قصة قصيرة بقلم هلال زاهر الساداتي - القاهرة

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
5/6/2005 7:51 م

هجر بخيت قريته الصغيرة القابعة في الشمال ميمماً شطر المدينة الكبيرة بعد أن ضاقت أبواب الرزق على آماله الرحيبة وأشواقه المتسعة فما عادت الزراعة تجود عليه إلا بالقليل الشحيح , , فهو كد كثير ورزق قليل ومشقة ومكابدة وعائد وحصاد ضئيل يصد النفس ويطفئ نور الأشواق النبيلة الطامحة إلى لين العيش بل حده الأدنى الذي يحفظ الحياة في الأجسام المكدودة الكادحة , ولكنه عندما جاء إلى المدينة الكبيرة تاه وتاهت معه أماله الوردية وعصرته قتامة الحياة فلم يجد فيها ما أرتجي من عمل يعوضه عن ماضي أيامه الكالحات ولكن جاءه الفرج عندما حدثه أحد أبناء قريته العاملين خارج القطر عن السفر إلى السعودية والذهاب إليها معتمراً وهناك يتخلف عن العودة ثم يجد عملاً حيث أن العمل متاح هناك والأرزاق وافية والأموال طائلة ويمكن أن يعيش متخفياً آمناً شر الشرطة ومطاردتها للمقيمين بصورة غير شرعية لا سيما أن له ابن عم يعمل هناك في مدينة جدة وهون عليه المخاطر حتى اقتنع بخيت وثبتت امنية السفر إلى الفردوس الأرضي هناك عبر البحر في الأراضي المقدسة في أعماقه وأصبحت هاجساً يشغل باله في ليله ونهاره وذهب إلى قريته وباع غنيماته وهي كل ما يملكه في دنياه واقترض بعض المال وودع والديه وأهل قريته وكان يوم وداعه يوماً فريداً في عمره وكان كأنه ولي عهد ذاهب لتتويجه ملكاً وأحس في داخله شيئاً من الزهو والعظمة لم يألفه من قبل , وترقرقت الدموع في أعين البعض وذرفت أمه دموعاً غزيرة ورددت الشفاه والألسن الدعوات الصالحات له بالذهاب والعودة بالسلامة والغنيمة , وتسمع أحدهم يقول : (( والله بخيت ود المبارك اتفتحتلوا طاقة القدر )) ويقاطعه آخر بقوله : (( يا زول أسكت ساكت القروش هناك مشتتة متل المطر )) وينادي ولد بلهفة : (( عمى بخيت , عمى بخيت , عليك الله لمن ترجع جيب لي معاك كورة كفر للتيم حقنا )). ويزجره أحد المودعين : (( ياجني تر غادي الناس في شنو وانتو همكم في اللعب )) , وطفحت مشاعر بخيت فلم يتمالك نفسه من البكاء وهو يحتضن أباه وأمه مودعاً .
ونطوي ما ألتقاه من تعب وعنت في إكمال إجراءات العمرة حتى لقي نفسه أخيراً في جوف الطائرة والتي يركبها لأول مرة في حياته , فأخذ نفساً طويلاً وأخرج خلسةً كيس السعوط
(( التنباك )) من جيبه وأخذ بأصابعه قليلاً منه وضعه تحت لسانه وراح في أخفاءه لذيذة بين الصحو والنوم , وأخذ يحدث نفسه , فها هو أخيراً في طريقه إلى أرض الأحلام الحلوة تحدوه الأماني العذبة ويهدهده الشوق الملح إلى خفض العيش وهناء المعيشة , وطوفت به أشواقه فرأى نفسه يمتطي سيارة (( بوكس )) من آخر طراز ويسكن منزلاً من الطوب والأسمنت يضمه مع زوجة حسناء من المدينة الكبيرة , وأن يأكل صنفين من الطعام في الوجبة الواحدة ويتبعها بالحلو من (( الباسطة )) ويطلق طعامه الخشن الدائم طلاقاً أبدياً وكان مدى احلامه وتصوره لا يرقى إلى أكثر من ذلك .
وعند وصوله إلى مطار جدة وجد ابن عمه ود الحسين في أنتظاره مع عدد من رفاقه السودانيين وأخذوه مباشرة إلى مكة و إلى الحرم حيث أدى مناسك العمرة , ومن هناك قفلوا راجعين إلى جدة و في الطريق أخذ ابن عمه يزوده بالنصائح التي يتبعها إلى أن يتيسر له العمل , وكان على رأس الوصايا الهامة أن لا يخرج من الدار نهاراً تحت أي ظرف من الظروف وأن يلزم السكوت وأن لا يبتدر أي عمل دون مشورته حتى تنقضي الأيام الحرجة اللاحقة لإنتهاء أجل العمرة لأن في هذه الفترة تنشط الشرطة في ملاحقة المتخلفين من المعتمرين ويودعونهم السجن ثم يرحلونهم إلى أوطانهم . وكان ود الحسين وصحبه على عادة العزاب من السودانيين في المهجر يسكنون معاً في شقة في حي شعبي تتكون من ثلاث غرف , والغرف عارية من الأثاث إلا من مراتب ومخدات من الأسفنج الصناعي وضعت على حصير رخيص وهناك مشاجب على الحائط لتعليق الملابس , وهناك جهاز تلفزيون في الصالون و منضدة خشبية صغيرة وهنالك أيضاً الثلاجة المستعملة في المطبخ .
وشاغلو الشقة من العمال غير المهرة أو العاملين كبائعين في الحوانيت أو عمال في محطات الوقود أو يعملون كفعلة بأجر يومي ولذلك يشتركون جميعاً في ايجار مسكن رخيص ويعملون ما يسمى (( ميز )) للطعام حيث يتقاسمون النفقة المالية والعمل بالتناوب في طهي الطعام والذي غالباً ما يتكون من (( فتة )) بمرق لحم البقر أو الأبل , ويوفرون من رواتبهم القليلة ما يبعثون به إلى أهلهم في الوطن ويدخرون القليل المتبقي لتحقيق الحلم الذي جاءوا من أجله , ولكن رغم ذلك يطلقون عليهم في الوطن ذلك الوصف السحري (( مغترب )) الذي أصبح مرادفاً لمن يمتلك المال الوفير من ريالات ودولارات حتى أن الفتيات يغنين لهم وينشدن أمنية الأقتران بواحد منهم .
ظل بخيت في الشقة وحيداً يكاد يقتله السأم والملل فهو لم يعتد على المكوث داخل أربعة جدران ولم يعتد السكون وقلة الحركة , ولكن علل نفسه بالحصول على العمل والريالات بعد فترة الكمون القسرية هذه ولكن ما يضايقه حقاً ويثير حفيظته هو أحد أفراد (( الميز )) ويدعي الكلس وهو شاب بذيء اللسان عدواني معتد بفتوته وقوته وما فتيء ينظر إليه نظرة ازدراء ويسخر منه ومن طريقة كلامه , وبينما ما كان يدور هذا الحديث بينه وبين نفسه . انفتح باب الشقة ودلف منه الكلس تحمل سحنته مخايل شيطان مريد , وقال مخاطباً بخيت : (( أنت راقد كده زي المرة النفسا .. أربعينك لسه ماتم يا سجمان ؟ )) أحمرت عينا بخيت وصارتا جمرتين . فار الدم في عروق بخيت , برزت عروق رقبته , تحفزت كل عضلة في جسمه تداعى إليه أسلافه وأهله الفوارس . فار بركان من الغضب , وفي لمحة هجم على الكلس ورفعه وضرب به أرض الغرفة وجثم على صدره وأوسعه لطماً وضرباً ولكن الكلس ليس هيناً وأستطاع أن يتخلص منه وأن يكيل له لكمات موجعة , ولكن كان بخيت كالثورالهائج ولم يستطع الكلس أن يوقفه فتناول المنضدة الخشبية وضربه على وجهه وشج جبهته فانبثق منها الدم غزيراً وفي هذه اللحظة حضر بعض أفراد الميز من الخارج وحالوا بينهما بعد لأى مرددين : (( يا خوانا الكلام ده عيب .. يا ناس أخزوا الشيطان . يا بخيت أعقل )) وحلف أحدهم : (( على الطلاق يا الكلس ما تقول حاجة اقصر الشر يا زول علي الطلاق بالتلاتة ما تبيت هنا الليلة )) وأيده الجميع و أخذوا الكلس بعيدا . وقليلا قليلا هدأت اجواء العراك و ضمدوا جرح بخيت بعد ان وضعوا عليه شيئا من الملح و عصبوه بعمامة ولم يجرؤا علي نقله للمستوصف الطبي حتي لا ينكشف امر وجوده غير القانوني وحتي لا يتعرضون لعقوبة ايوائه .
وفي المساء عاد الي الشقة ود الحسين بعد انتهاء عمله ووجد ابن عمه معصوب الرأس بعمامة ملوثة بالدم , ولما علم الحكاية هاج وانفجر كالبركان واخذ يوبخ ابن عمه ويسبه :
(( انت يا بخيت ماك راجل كيفن تخليه يفلعك كيفن تسكت لييه , ليه ما كسرتو ليه ما كتلتو)) و افراد الميز يزجرون ود الحسين ويهدئون من ثورته : انت يا ود الحسين عايز تشعلله مالك تاني , والله بخيت ما قصر وضرب الكلس ضربا يهد الجبل لكن غدره وضربه بالتربيزة .
خلاص يا زول اسكت علي الطلاق ما تقول شي تاني , ويدور هذا الحديث وبخيت تصدر منه اصوات كخوار الثور ويضرس اسنانه وتفيض دموعه من الغيظ ويعلو صدره وينخفض كغطاء ابريق الشاي يرفعه بخار الماء المغلي ويخفضه , ولكن ود الحسين يردد من وقت لآخر : (( افو افو يا ود المبارك , امانة ما كسرت ضهرنا )) . واخيرا اطفئت الانوار واخلد الجميع للنوم وسكنت الاصوات عدا اصوات مختلطة في الظلام تصدر من الناحية التي يرقد فيها بخيت , وكانت اصوات زفير عال يعقبه انين وتارة وحوحة وصرير اسنان مما ازعج النائمين , واستعصي علي بخيت النوم وشعر بكلمات ابن عمه كوخز ملايين الابر في جسمه واحس كأن بحرا من العار يغمر روحه ويمتهن رجولته فهانت عليه نفسه , وعند الفجر ندت عن بخيت آهة متوجعة حادة ثم سكنت الاصوات من ناحيته وحل الهدوء وحمد النائمون الله علي انه نام اخيرا بعد ان اقلق منامهم .
واشرقت الشمس بنور ربها في الصباح وصحا النيام متأهبين للاستعداد للضرب في الارض في طلب الرزق ولكن بخيت ما زال نائما وصاح به ود الحسين ليستيقظ ويشرب الشاي ولكن لم يجبه , وكررها ثانية ولم يستجب له فقام اليه يوقظه قائلا : (( قوم يا زول انت اصلك نايم نومة اهل الكهف ولا كمان حردان الشاي بعد عملتك العملتها دي )) وهزه بعنف ولكن لم يستيقظ ابدا .... لقد مات بخيت .
[email protected]


للمزيد من االمقالات
للمزيد من هذه الاخبار للمزيد من هذه البيانات و المنشورات
الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر الحر | دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر الحر

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |تعارف و زواج|سجل الزوار | اخبر صديقك | مواقع سودانية|آراء حرة و مقالات سودانية| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2004
SudaneseOnline.Com All rights reserved