لقد حاولت الكواليس الخلفية للجبهة التقدمية في سورية الالتفاف على تطلعات المجتمع بأحزابه وجماعاته الضاغطة، وألزمت حصرها في جبهة لا تخلو المهزلة من أروقة قراراتها، هذه الجبهة التي لا تسمح بألية في المداورة على السلطة السياسية للأحزاب المنضوية تحت قبتها في ظل غياب القوانين الناظمة، أو الملقاة في أدراج السلطة دون إعمال، وفي ظل قانون الطوارئ الذي صادر الفكر التجديدي وعقائد الأخرين الذين لا يؤمنون بالبعث طريقا للحياة. إن محاولة لفك الإشتباك الفكري والعقائدي، كالتي حاول جاهدا د. جورج جبور في مقاله الذي أنتجه بمناسبة مرور 50 عاما على إغتيال العقيد عدنان المالكي، لن تجلب إلا المزيد من الإحباط والإقرار المسبق أن التعددية الثقافية في لشام لا تسمح بعقائد تطرح فكرا مختلفا لكل مناحي الحياة ونظرة جديدة إلى الحياة والكون والفن تكون سباقة على الأرض لتأخذ على عاتقها المساهمة الفعالة ليس بإضفاء التعددية المجتمعية فحسب، بل ربما قيادة المجتمع إذا أخذنا بعين الإعتبار أن هدف البعث هو قيادة الدولة إلى التقدم والإرتقاء. إن العقيدة الأيديولوجية للقومية الاجتماعية بنيت على مقاربة حقائق الإجتماع الانساني والتي عبر سعادة بواسطتها عن وجود شعور بالاشتراك في عوامل الحياة الواحدة التي تسمح ببروز القومية الواقعية العلمية، من هنا لا يمكن للأيديولوجيا أن تدخل في بورصة المناقصات السياسية أو حتى التسامح الفكري تحت ذريعة الأمن الإستراتيجي أو قضايا التهديد الخارجي المباشر، أو تحت مهادنة أو صفقة مرحلية أو تاريخية، أو ما شابه لذلك. وللحقيقة نقول أن لم يتعب البعثيون من محاولة زج الحزب السوري القومي الإجتماعي بكواليس السياسات الداخلية المتقوقعة لكل من الشام ولبنان، لقد حاولوا السيطرة عليه بطريقتين متوازيتين، أولا: بإشعال سجالات فكرية وتميعات عقائدية حول الكثير من القضايا التاريخية التي لم تتم عملية نقدها تاريخيا في سلطة القرار في الحزب السوري القومي الإجتماعي كما بين مفكريه التجديديين. وثانيا: بمحاولة تخدير مركز قرار القوميين الإجتماعيين للخروج بالإستنتاج العكسي السطحي الذي يقر بأن البعث هو الضامن الوحيد والشرعي لإستمرار الحزب السوري القومي الإجتماعي فاعلا في الحياة السياسية والعامة (النموذج اللبناني منذ 1976 والشامي منذ 1997).
إن ما يحكى عن تعديلات في قانون الجبهة التقدمية في الشام فقط لإدخال بعض الأحزاب لهو تسطيح ولغو في غير محله، أليس بالجدير قيام ورشة وطنية لمناقشة التعديلات واستقبال البدائل والحلول من جميع فئات الشعب التي يتعامل البعث معها على أساس طبقي ومصلحي ولا يخلو من الدونية؟! فما يدعو إلى الاستغراب أن يتم إعداد مثل هذا القانون الذي يهم جميع السوريين بالتكتم والسرية الشديدتين. الإستطراد الإستفهامي المثالي يطرح نفسه دائما ولا من جواب: إذا كانت حركة التصحيح البعثية قد فشلت خلال 35 عاما من التصحيح، فلماذا لا تتنحى عن السلطة، أو تقر بفشل التصحيح، وتشرك الأخرين بقوة ليجلبوا إلى الحياة السياسية خبراتهم؟! وإذا كانت قد نجحت في رفع الوعي الشعبي والإرتقاء به إلى درجة عالية، ولا أقول بذلك عمليا، فلماذا لا تترك العملية السياسية مفتوحة على التجديد، ولماذا لا يكون الصراع الفكري مباحا أيضا في كل ميادين الحياة؟! بهذه الأسئلة، لست في وارد إيقاع الظلم أو إلصاق التهم أو توزيع حقائب المسؤوليات، ولكن الحزب السوري القومي الإجتماعي الذي يعاني من مأزق السلطات القطرية ومن حكم الأنظمة الهشة، لن يخرج سالما من شظاياها إلا بتجديد الحياة الثقافية الحزبية ومواكبة النظرة الجديدة إلى أقانيم الحياة والكون والفن التي عمل لها سعادة دون مهادنة أو تنازلات أو صفقات لفك الإشتباك مع دعاة الإنعزالية اللبنانية أو دعاة الشيوعية التي حذر من امتدادها، أو من مشروع الهجرة اليهودية إلى فلسطين وأطماعها في العالم العربي ومشروعها الإستيطاني بشكل عام. أما بالنسبة للبعث، فلا خيار من أن يفسر تخليه عن الإشتراكة والإنفتاح نحو الرأسمالية، وهل أن ذلك لا يتطلب تعديلا في الفكر والممارسة؟ وهل أن التخلّي عن القيادة القومية للحزب يعني التخلي عن الفكر القومي والإنعزال أكثر فأكثر في القطرية؟ على الحزب السوري القومي الإجتماعي أن لا يجادل أيضا في نظرته إلى مسألة المفاوضات السلمية مع "إسرائيل" أو بما يمقالق به البعثيون "السلام العادل والشامل – سلام الشجعان"، لا يجدر بنا أن نتخلى عن تاريخنا من أجل الأرض والحق، التاريخ هو الحق والقوة معا، علينا أن لا نكون خارج التاريخ وأن لا نتسطح لمعانقة مكاسب الأخرين وإنزال صبغة الحق عليها (أعني التسوية السلمية حتى حدود 1967 وما سيرافقها من ضعف وهزل جديد).
لقد أشيع أن الهدف من انضمام الحزب السوري القومي الاجتماعي إلى الجبهة، وفق ما تروي مصادر مختلفة، "التسلّح بالأفكار والطروحات الشعبية والحزبية" لتقوية موقف الراغبين في الإصلاح خلال مؤتمر البعث، إضافة إلى تعميق الفهم للمطالب والتوقعات الملقاة على القيادة السياسية في البلاد، مع إضافة عامل آخر يتمثل في "الأرضية الاجتماعية التي لدى يمتلكها الحزب السوري القومي الإجتماعي في الشارع السوري والتي تعطي الجبهة شرعية أقوى في تمثيل الشارع. وعلى الصعيد الداخلي في الشام، أن يتم التعامل مع الحزب السوري القومي الاجتماعي كمعاملة أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، ففي ذلك إنصافا يدفع بالقوميين الاجتماعيين إلى إتجاه مفرح على الصعيد المعنوي ويقف شاهدا على الظلم التاريخي الذي أسقط فوق رؤوسنا، لكن الهزيمة الكبرى هي السكوت عن دور وأداء الجبهة الوطنية التقدمية، التي تحمل في طياتها الكثير من السلبيات، وتتناقض في الكثير في طروحاتها مع الطرح العلماني الذي يمثله الحزب السوري القومي الإجتماعي الذي قد تخطى الفساد المركب على الطائفة والإنتساب للحزب من أجل المنافع والترقيات المجانية. إن الجبهة الوطنية التقدمية التي مثلت صيغة للتبعية والاستعباد أكثر منها صيغة للعمل والمشاركة، والتي تحولت بمرور الوقت إلى صيغة للتكسب والانتهازية بعيداً عن أية فعالية تذكر، وظلت أحزابها المقهورة تعاني الانقسام تلو الانقسام و تحولت إلى شلل وأفراد متنازعين تحكمهم الولاءات المصلحية والأمنية قبل أي ولاء سياسي أو فكري كما حصل في الشام تحت قبة النظام البعثي العلماني طيلة 35 عاما مضت لا يمكن أن تقود الدولة والمجتمع إلى فلاح عظيم. إن تحالف الحزب السوري القومي الإجتماعي مع كل الأحزاب العلمانية والوطنية أيضا، يشكل بوصلة مطمئنة للخط الذين ننتهجه بالفكر والممارسة، ولكن السكوت عن الممارسات المستحيلة الخاطئة تشكل عقبة فكرية وعملية إذا ما تناقضت مع هذا الفكر القومي الإجتماعي. إن الحديث كثر عن قرب صدور قانون جديد لتنظيم الحياة الحزبية داخل سورية، لكن الصورة التي سيظهر عليها هذا القانون ما زالت تحكمها عقلية التكتم والسرية والتكهنات. وعلى أية حال، فان أي قانون سيصدر لن يضيف شيئا إلى ما هو موجود إذا لم يؤسس لتعددية حقيقية في البلاد، وهو لن يكفي إذا لم يترافق مع تعديلات دستورية تكرس هذه التعددية كما لن يضيف ولن ينقص شيئا في ظل قانون الطوارئ وحالة الأحكام العرفية المعلنة منذ عقود. وإذا أردنا الدخول في التفاصيل أكثر فان صيغة الجبهة الوطنية التقدمية لا يمكن أن تمثل بأي حال من الأحوال وفق أية صيغة من الصيغ شكلا لهذه التعددية سواء من حيث التكوين والميثاق أو من حيث التمثيل والتوازع أو من حيث الدور وآلية اتخاذ القرار.
المطلوب الأن، أن نقف ونقول قولة حق في سبيل الحركة التي نمثلها وندعي جميعا أننا نعمل لها دون أنانية أو تمييز أو تمييع، وأن نميز بين المغامرة والنضال في سبيل الدولة ككيان سياسي دستوري، وفي سبيل الشعب الذي نراهن على مستقبله في سبيل الوطن الأمثل تحت مضمامين الخير والحق والجمال. أخيرا، عذرا ميشيل عفلق!! سأستعير توصيفك للتفريق ما بين النضال والمغامرة:"الفرق واضح بين المناضلين والمغامرين، فالمناضلون يخلقون النضال ويظلون مع ذلك أدوات خاضعة لقانون الحركة التي يخلقونها ويحيلون كل قوى يكسبها النضال لأشخاصهم إلى قوى تغذي الحركة نفسها وتعينها على المزيد من الصبر والمقاومة، وعلى السير القويم المتفوق مع منطق الفكرة، أما المغامرون فهم أولئك الذين يستهويهم النضال في مرحلة الحماسة السهلة، أو يندسون في صفوفه دون إيمان، حتى إذا نالوا قسطا من الشهرة والنفوذ تبين لهم أن الإنقلات من قيود النضال ومنطقه القاسي، وطريقه الطويل يسمح لهم بالقفز في مضمار النجاح الشخصي. وهذا ما يقودهم مفاجأة إلى التأمر والخيانة، إذ ليس لهؤلاء طريق وسط"(7).
المراجع:
(1) – القومية حقيقة حية ذات مضمون إيجابي إنساني، حديث ألقي في نادي المغرب بالقاهرة في 22 أذار عام 1957، ميشيل عفلق.
(2) – القومية حقيقة حية ذات مضمون إيجابي إنساني، حديث ألقي في نادي المغرب بالقاهرة في 22 أذار عام 1957، ميشيل عفلق.)
(3) – ثلاث خيارات تواجه الواقع العربي: ليس هناك من يحل محل مصر، حديث لمجلة الطليعة العربية التي تصدر من باريس في 28- 10- 1985، ميشيل عفلق.
(4) – مبادئ الحزب السوري القومي الإجتماعي وغايته، ص (66)، إصدار عمدة الثقافة، بيروت 1994، أنطون سعادة.
(5) – الإسلام في رسالتيه: المسيحية والمحمدية، المقال:"العُروبة الزائفة والعروبة الصحيحة"، منشورات دار فكر، أنطون سعادة.
(6) – "انتصار القومية السورية يحقق الجبهة العربية القومية"، المقال الرابع، منشور في جريدة "كل شئ" الأسبوعية، العدد الصادر في 4 شباط 1947،أنطون سعادة.
(7) – "إلى المناضلين الوافدين: إحفظوا وحدة النضال، واحذروا المغامرين"، المقال منشور في 5 كانون الثاني 1950، جريدة البعث، ميشيل عفلق.