بدأ الشعور الإقليمي يتنامى منذ الاستعمار الأوروبي للعالم بسبب السياسات التي هدفت في مجملها الى تمويل الثورة الصناعية في الغرب من موارد الأقاليم في داخل المستعمرة . وهدف هذا الشعور هو التأكيد على قيمة الإقليم في الدولة لا كذيل فيها ، وكان هذا الشعور يشير إلى مولد حركة إقليمية ، تهدف إلى تنمية الإقليم في داخل الدولة . إلا أنها لم تظهر كمبدأ كامل ولكنها تطورت على مراحل متأثرا بمستوى وأيدلوجية الأفراد اللذين جاءوا على سدة الحكم عقب خروج المستعمر.في كل دولة تم استعمارها .
كانت أولى هذه المراحل هي مرحلة "الإقليمية الحضارية" ،والتي هدفت إلى تكريس كل شي في المدينة دون الريف وولدت المشاكل الاجتماعية . ثم تلتها مرحلة "الإقليمية الاقتصادية " التي هدفت إلى إعادة الحياة المادية للأقاليم.وجاء بمسائل الثروة من حيث الاختلال في الاختيار والتوزيع. ولم يقف إلى هذا الحد ، بل امتد إلى مرحلة "الإقليمية السياسية "، والتي تهدف إلى تحقيق الحكم الذاتي للإقليم في داخل الدولة ، وهو ما يتعلق بالجدال الدائر حول الفدرالية والكونفدرالية .أو المركزية واللامركزية .
من خلال هذا التطور للتخطيط الإقليمي ،بمعناه الأشمل نلاحظ انه اصبح من البديهي أن يكون محور الحديث عنه يمثل العمود الفقري للتنمية الاستراتيجية (الاجتماعية والاقتصادية والسياسية) لأي مجتمع، مع اختلاف مشكلاتها ومسبباتها من دولة لأخرى، وحسب المراحل التي تختطها كل مجتمع من ناحية رسم وتطبيق السياسة التخطيطية بمحيط إقليمها الداخلي والخارجي.واصبح الحديث عن التنمية والتخلف يكثر استعماله في الأدبيات الثلاثة المذكورة أعلاه ، على أساس مدخلين :
1/ الكمي: كمقاييس مادية مثل الدخل والإنتاج .
2/المدخل الاجتماعي:ويرفض المدخل الأول،الذي يراه يحمل الويلات(انحطاط القيم والمبادئ ).فأصبح معوقا للتقدم الاجتماعي وخاصة في الدول التي لم تستطيع الاستفادة من المدخل الأول .
وما يجب أن نفهمه نحن كسودانيين، معارضين ومؤيدين هو: إلى أي مدى استطعنا الاستفادة من مفهوم النمو التخطيطي الإقليمي؟.وما هي منظومة الإخلال في كل مدخل من مداخله الكمي والاجتماعي حتى نستطيع معالجتها بكل شجاع لا بالتسويف والتحايل و الرفض ؟!!.وما مدى التأثيرات التي تركتها النخب الحاكمة ولا زالت مستمرة في كل جانب من جوانبه وخاصة الاجتماعية منها ؟.
إذا نظرنا لواقعنا الاجتماعي،أي مرحلة الحضارية الإقليمية ،نلحظ تكريس التطور في المدن بصورة مطلقة، بجميع جوانبه البشري والخدمي رغم قلتها، وهذا أدى إلى أن تتحول كل إمكانات الأقاليم البشرية والمادية أليها ، فتزداد الأقاليم سوءا مثل هجرة واستقرار الطبقات المتعلمة والرأسماليين من أبناء الأقاليم إلى العاصمة ، فأصبح المفهوم السائد في مجتمع الدولة مرهون بثقافة المدينة بدلا من الريف، والذي هو أساس ثقافة المجتمع الحقيقي .استمر هذا النهج وأدى لتفشي أمراض التعالي العرقي بين أبناء الوطن الواحد، كأن نسمع(غرباوي? شرقي-جنوبي-شمالي) .وهذا التعالي ولدت معه حقدا على أعلى المستويات ،المدنية منها والتنظيمية .
أما بالنسبة للمرحلة الثانية "الإقليمية الاقتصادية" التي تستهدف إعادة الحياة المادية إلى الأقاليم ودعم مواردها وإمكاناتها المحلية لتحقيق التوازن والاستقلال الاقتصادي من تبعية العاصمة (الميتروبولتيان ).وعلى الأقل لتسهم في جهود شعب الأقاليم.لتنمية نفسها من خلال استقلال مواردهم الاقتصادية ،الزراعية منها أو التعدينية ، لقد استقدمه النخب الحاكمة بأسلوب الديمقراطية المزيفة،مستقلين أبناء الأقاليم من خلال المناصب الهامشية في أحزابهم،ثم تعقبه انقلاب تكتيكي لتهدئة عملية التمويه في سرقة موارد الأقاليم، متناسين أن الطبيعة لا تقفز!!. وان هنالك مخلصين من أبناء الوطن ينتمون لتلك الأحزاب !!. وبذلك تجد خبراءهم في الاقتصاد على ارتباك متزايد بسبب العجز الواضح لمجموعة الأدوات المارشالية (السيجال) الذي يستقدمونه بهدف تفسير العالم الذي يعيشون فيه.وعلى سبيل المثال لا الحصر،عندما كان حزب الأمة والاتحادي في الحكم قد تآمروا رغم خلافهم في إزاحة (أبو حريرة) وزير التجارة الخارجية آنذاك ، بسبب تحديه لتجار مواشي الحزبين من اجل مصلحة المواطن السوداني.
اصبح المفهوم السائد هو تبادل الأدوار حتى جاء نظام الإنقاذ الذي تحدى الأسلوب السابق ،وأعلنه نهارا جهارا، بأنه أتى إلى الحكم ليسلب الإرادة الاقتصادية للشعب السوداني،وخاصة إرادة الأقاليم ذات الموارد الطبيعية الضخمة . وشعارهم (احكموا وتحكموا في إنشاء الشركات بمواقعكم عبر النسيج الاجتماعي السوداني). ومسألة تعطيل مشروع جبل مرة بسبب ملكيتها،وتكرير بترول كردفان بالجيلي ، وتغيير اسم سد الحماداب الى مروي خير شواهد على ذلك.
أما المرحلة الثالثة: فهي مرحلة "الإقليمية السياسية" التي تهدف إلى تحقيق الحكم الذاتي وأنها لا تخرج عن نطاق كيان الدولة ، وتعني إعادة التنظيم الإقليمي ضمن الإطار القائم للدولة.هذا التطور الإقليمي السياسي،أدى إلى ظهور حركات عسكرية/سياسية في السودان ، مطالبها الاستقلال السياسي للأقاليم في داخل الدولة ،بهدف أحداث تغيير في نمط الحياة السائدة بالبلاد في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية.ومن البديهي أن تجد مقاومة شرسة من الأنظمة التقليدية سواء،الحاكمة أو المعارضة.وأدوات حربهم مختلفة!!.فوسائل التخمة الحاكمة هي أن الحركات (جهوية وعنصرية).إذن لا بد من استخدام السلاح.ومن ثم تطورت إلى أن الحركات ( لا تمثل الكل ).إذن لا بد من استخدام أبناء الأقاليم لديهم لتأجيج مشاكل قبلية.بعد ما فشلت الآلة الحربية. وبالنسبة للحالمين بالديمقراطية المزيفة .كانت آلة الحرب عندهم هي محاصرة الحركات في تجمع صوري للاستفادة من كتلتها لحرب الحاكمين منهم.وعندما فشلوا بسبب قولهم أن الحركات (مطلبيه ) لا سياسية، وليست لها الحق في مناقشة المشاكل السياسية.لجئوا لأسلوب اختراق الحركات عبر تكوين مكاتب وهمية بأسماء الحركات،ومن أبناء الأقاليم المنتسبين لهم. وحالة حركة تحرير في مدينة الرياض خير شاهد .
وللخروج من هذا النفق الذي دخل فيه السودان بسبب النخب المتعاقبة على حكم البلاد ، لا بد من التخطيط الاستراتيجي والتنسيق لوضع نظام للدولة شاملا كل الحلقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ليكون الأس الحقيقي لعمل جميع الأنظمة المختلفة، على المستوى الكمي والاجتماعي والقرارات الذي يضمن ترابط تلك الأنظمة على بعضها، وهو إحدى السمات التي تطلبها المرحلة الحالية لبناء الدولة السودانية الجديدة.وهنا يقع العب على القوى الجديدة (الحركات ).
تلك هي المعضلة التي يمكّن الجميع لاحترام رأي الآخر ، سواء كان هذا الاحترام على مستوى التنظيمات و المجتمعات،أو على مستوى الأقاليم السودانية فيما بينها من جهة .فالتخطيط لإيجاد النظام الشامل يتطلب مضاعفة الجهد من الجميع على مستوى الأقاليم والوطن معا في شكل سلسلة من الأنشطة والخطوات التي تسير وفق برامج زمنية اقتصادية واجتماعية وسياسية مترابطة بهدف الحصول على تكامل اقتصادي مربوط بالشقين الآخرين هما الاجتماعية والسياسية.وهذا الهدف سوف يقودنا إلى بناء مجتمع حضاري متناسب مع المعطيات الوطنية وتقاليد المجتمع وطموحاته السياسية والثقافية.واحترام حقوق الإنسان .
ومن أولى الخطوات كمخرج للحالة السودانية هي الجلوس فيما نتفق جميعا عليه دستوريا ويفضي إلى وضع وتصحيح الدولة في شكل أقاليم تخطيطية ويضم كل منها مجموعة من التقسيمات الإدارية الموجودة أصلا بحيث يتم خلق وربط أقاليم ووحدات اقتصادية واجتماعية كبيرة تصلح لأغراض وشؤون الإدارة المحلية والتطوير، وتقديم الخدمات الأساسية المختلفة ، بحيث يكون الإقليم التخطيطي مبني على أساس الأسئلة التي تثار وأنواع المشاكل المراد حلها ، أي إنها مبني على أساس الأسئلة التي تضعها السياسة التخطيطية . ولكن من الذي يقوم بدور المخطط ؟ هل هي التنظيمات المدنية أم التنظيمات السياسية !!؟.
وللإجابة على هذين التساؤلين ، لابد من فهمنا ومراجعتنا للاثنين معا في نمط بناءهما من حيث قراءة الواقع لدينا في الجوانب الثلاثة للتخطيط ،ونحسب أن إصلاح مفهوم الحزب الأسرى ،وتوحيد خطاب صوت الأقاليم ، هو تحدي المرحلة. ومن خلالهما سوف نستطيع معالجة مستوى الخطاب السياسي السيجالي لدينا.
Email:[email protected]